مسرح

د. منتهى المهناوي: حالنا المؤلم كما ينقله الراديو

الصورة الجمالية وقصديتها في مسرحية الراديو

د. منتهى طارق المهناوي★

كل شيء مرسوم بشكله القصدي، وهذه القصدية تمت بشكل مباشر بحملها دلالات ومعاني، ضمن رؤية مرسومة بحرفية توظيفية.

لقد وظف لنا المخرج في هذا العرض المسرحي مفصلاً مهماً من مفاصل الحياة المتبع الآن، وبشكل مهووس (الإعلام)، ليصف من خلاله حال مجتمع متهالك مدمر، بأخذه نماذج مختلفة على شكل عينة، كي يعلن بها، ومن خلال الميكرفونات المستخدمة، والمراد منها بشكلها الرمزي الدلالي الواضح إلى الإعلام، التي يقف خلفها شخصيات تنطق حال الوضع الذي يعيشه المجتمع بشخصيات منتقاة بدقة مفرطة، لتوصيل خطابها المراد الى المتلقي.

أؤكد أنها قصدية، وقصدية مفرطة، ومنها نبحث عن التفسير لما يجري، ضمن سياق البنية الدلالية للحدث الدرامي.

أصوات تتعالى، وتتداخل، وتتشابك، لتصبح صوتاً واحداً، لا وضوح ولافهم له، لكنه في النتيجة يظهر ويصف صورة الهم الذي يجري، تتداخل، وتعلو، حتى تظهر لنا صورة أخرى، ينتقل بها المخرج بعدسته الرؤيوية ككاميرا سينمائية، إلى أعلى خشبة المسرح، لنرى تكويناً جمالياً بصرياً، وهي تأخذ موقعها باستقرار، لتبحث هي الأخرى عن همها عبر جهاز الراديو الذي هو القصدية الرمزية، التي ستحرك مجريات الحدث الدرامي المسرحي، رمزية الإعلام، وما يحققه من انقلابات، وتغييرات في المجتمع كظاهرة حداثوية، يتبناها المخرج هنا.

قنوات تتداخل، وتتغير، تنقلها، وتداخلها بإدارة لشخصية صامتة وناطقة بجهازها (الراديو)، تنتقل، وتبحث عما يحدث، لتقف بلحظة زمنية، لتنقل لنا حدثاً، بتحول الصورة المسرحية، وتقود ما سيحدث بانتقاله بصرياً من أعلى المسرح إلى أرضية الخشبة المفترش بديكور مكون من سرير، وإبريق شاي، ومكتب، وميكرفونات.

جاء العرض بشكله السردي التقليدي، وبخطة إخراجية مدروسة، ضمن لحمة ذوبان، جمع فيها المخرج الرؤية الإخراجية، والأداء التمثيلي، الذي تميز وبرع به جميع اللاعبين، ابتداء من المخرج اللاعب الأول، حيث قام مخرج العرض (د. محمد حسين حبيب) بالدور الرئيسي، من خلال اللعب التكنيكيٍ المنضبط، متنقلاً بلعبه بين الواقعي، والملحمي، واللعب العبثي، هذه الانتقالات أضافت للعرض، رغم الجو السردي الذي غلفه، لكنه كان مفعماً بالصورة الجمالية المتنوعة، والمتجسدة من خلال الأداء الرصين المنضبط بحرفية، وتجسيدية محترفة.

 هذا ينسحب أيضاً على اللعب الحركي، للأداء التمثيلي للمثل الأستاذ (أحمد عباس) وهو يأسرنا بتلقائيته، وتنقلاته الرشيقة، وبإحكام إيقاعي مدروس متقن، بحوارية تبادلية ماتعة، اِنفتحت على المساحة الحوارية النقدية في طرح مشكلات الوضع الراهن، وبتشكيلة واقعية تصف لنا حالنا المؤلم متنقلاً بين الكوميديا، والتراجيديا ببراعة ساخرة، لما يعتلينا من ألم ضمن نتاج حواري فلسفي تجريبي تركيبي يومي آني، بلعبة التحولات المتنقلة من صورة لأخرى، وضمن سياق بصري جمالي، يقترب إلى الأداء العالمي، الذي كانت فيه المساحة التمثيلية فيها واضحة، بشكل اخترق الثابت، وانطلق عبر ذهنية نقدية متوقدة متحولة، لعبها المخرج ضمن الفضاء الجمالي التعبيري للصورة المتحركة الدالة، بزوايا اللعب السينوغرافي برغم بساطته، ولكنه لعب دوراً مهماً بتنقلات المشاهد، وتحولات الأداء الحركي للممثلين.

ما جذبني بشدة مشهد الملك أو الحاكم أو لنقل السلطان صاحب الكرش البارز، هذا المشهد بكل تفاصيله، وأدائه الجسدي البسيط، لكنه نقلنا بدائرة الإحساس بالمتعة، متعة لذة الطعام، وتذوقه بخفة الحركة، والموسيقى، التي أظهرت طابعاً كوميدياً، تجانس ومجريات المشهد.

لقد وضعنا المخرج فيه أمام ثراء بصري شعوري ذوقي بدلالات الجوع، والحرمان، والجدران المتهالكة، والرطوبة، ورائحة العفن، والفساد، والخداع، بشكل محسوب بإتقانه المحلي، بواقع عراقي عالمي بذات الوقت، متنقلاً بنا بين الرمز والإشارة، بتتبع وترقب يحيلنا إلى فضاء الأداء التمثيلي الساند، لشخصيات أخرى مهمة، تفردت بهيمنة هندسية تكوينية فاعلة، ومكملة لمجريات الحدث الدرامي.

شخصية الممثل ذي التجربة الطويلة الفنان (مهند بربن) الذي لعب دوره بتجسيد ومطواعيه حركية بارعة، وبحرفية ماتعة متقنة، مجسدة بتوظيف دلالي، يبث به رسالة مهمة بلعب شخصية ثملة، كدنا أن نصدق أنها بموضع السكر، لولا تحوله بلحظات، يقف بها خلف الميكرفون مخاطباً بخطاب واضح، لمفردات وكلمات لها بعدها التأويلي المراد إيصاله، مثل قوله (إن القضية هي قضية مواطن)، نعم مواطن مغلوب على أمره، أسكرته الحياة، لا يمتلك وطناً، ليعيش فيه باستقرار.

 ثم يدخلنا المخرج ضمن سياق لعب درامي آخر لشخصية مغايرة، استفحلت بجذور مجتمعنا، وهي شخصية الممثل (علي التويجري)، ليكشف لنا ببراعة أدائية بتجسيد تركيبي تحولي، ما بين المخبر المسيطر على زمام الأمن، وما بين المرتشي المتلاعب بفساد الدولة، والتلاعب بعقل المواطن البسيط، في أداء لا غبار عليه بمنطقة حساسة، وخطرة، وجريئة للغاية، لعبها الممثل بدقة وحرفية مكثفة، لشخصيات عدة مشابهة لهذه الشخصية، والتي تلعب دوراً خطراً ضمن المجتمع.

تحول آخر يحدثه العرض، ضمن البناء الدرامي التمثيلي، هي شخصية الممثل الرصين (حسنين الملا)، هنا اللعب يختلف تماماً، إذ حولت الشخصية بلعبها المغاير، مسار العرض بتوجه فكري كوميدي، يتجه بشكله ضمن سياق ملذات الحياة الأخرى، باللعب الحركي الجمالي بأبعاد مدروسة للشخصية، وتمفصلاتها الدرامية.

لقد أراد المخرج اللعب ببراعة أدائية، لخلق فرجة مسرحية قوامها المتعة، ضمن إطار ذهني صوري أنيق، يحمل مقومات المسرحية الرصينة، من حيث اللغة، والحركة، والأداء السردي بشكل دلالات قصدية، يستوعبها المتلقي عبر أيقونات متعددة، وأهمها أيقونة السينوغرافيا، ببساطتها ودقتها، وما لها من دور ريادي، في الكشف عن تنقلات المشاهد، والأداء التمثيلي.

أعلن العرض (الذي كتبه المؤلف النيجيري كين سارو) بأنه انتهى، بانتقاله للصورة الثابتة، التي اعتلت خشبة المسرح، والتي أدارت اللعبة المسرحية بتقنية، المعلن هنا الراديو بتقنية التكنولوجيا الحداثية، بلعب فلسفي ضمن مهيمنات التحول الأدائي بانسيابية التغير العالي، والمتصاعد جمالياً، داخل سياق اللوحات الصورية للعرض، الذي رمز بصوره الساخرة، والمحرضة بوعي تأملي، وبدهشة تلقٍ جمالي عالٍ.. مرافقاً لكل هذه الصور المفعمة بالإحساس، والوعي، والتحريض، والجمال حزمة من الفنيين والتقنيين، الذين لهم السبق الأول باكتمال العرض، فلولاهم لم تكتمل الصورة الجمالية النهائية.

ـــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة، أستاذة مسرح ــ العــراق

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى