مي سيد★
اِنطلاقاً من الرغبة بالتغيير، والخروج عن المعتاد والمألوف، شاهدت عرض “بيت روز” بمسرح الطليعة، تحديداً داخل قاعة صلاح عبد الصبور، وليس على خشبة المسرح المعتاد.. ومن هنا جاء الاختلاف في تناول فكرة، قد تكون مكررة، لكن اختلاف طريقة التقديم، هو ما يستحق المشاهدة في ذلك العرض.
حيث يتحدث العرض عن موضوعات، ومشاكل تخص المرأة مثل زواج الصالونات، والاختلاف حول قبوله ورفضه، ومن ثم التطرق إلى مشكلة الطلاق، والخوف من نظرة المجتمع للمطلقة، مما يرغم السيدات على استكمال حياة غير مريحة، وغير مقبولة، لمجرد الخوف من لقب مطلقة، ومن ثم الانتقال إلى مشكلة التحرش الجنسي بأنواعه اللفظي والجسدي، وحتى التحرش بمجرد النظر.. ومن ثم الخوف من تقدم العمر.
مشاكل تتعرض لها السيدات في المجتمع العربي، بشكل يومي ومتكرر. ويقدمها المسرح بشكل كبير سواء كتيمة أساسية للعرض أو تيمة فرعية، لكن في “بيت روز” عرضت تلك المشاكل على لسان أربع صديقات في عمر الثلاثين يجلسن على طاولة تتوسط القاعة، ومن حولهن الجمهور على طاولات متجاورة، وكأن الممثلين والجمهور، مجرد زبائن في كافيتريا واحدة، والجمهور يستمع إلى تلك المشكلات من خلال حوارات، ومناقشات الصديقات الأربع، واختلاف آرائهن.
وما بين مشكلة تطرح، وتتلوها اخرى، تختلف آراء وجهات نظر كل شخصية منهن حسب أبعاد شخصيتها.. وعند الشخصيات استوقفني الرسم الجيد لكل شخصية، بدايةً من الأزياء التي تميز كل واحدة عن الأخرى، مروراً بالإكسسوارات البسيطة إلى أسلوب الحوار، وأداء كل شخصية.
فشخصية “سحر”، وهي الوحيدة منهن المتزوجة تعبر عن الشخصية الأكثر تقليدية فيهن، فيختلف شكل زيها عن الأخريات، فعلى الرغم من شياكة ملابسها إلا أنه منذ النظرة الأولى لها، يبدو أنها أكثرهن مسؤولية، وذلك من خلال طريقة ارتدائها للحجاب مع بعض الإكسسوارات البسيطة في اليدين.
أما “سارة” التي تمثل الشخصية القوية “الفيمنست” والمتحررة، فهي أكثرهن انفتاحاً في الزي، ويظهر ذلك من خلال شكل الشعر، وحتى الإكسسوارات في يديها، ووجهها، وألوان المكياج الصارخة، بالنسبة لباقي الشخصيات.
و”نوران” التي تميل إلى الرومانسية والهدوء، فزيها كلاسيكي مع مكياج بسيط، وشعر ناعم انسيابي، يتناسب مع هدوئها.
والأخيرة “منار”، فهي تعتبر أوسطهن في الفكر والشخصية، تجمع بين الهدوء، والرومانسية، والجرأة إلى حدٍ ما، وبما إنها تعمل في مجال الإكسسوارات، فكانت أكثرهن تزيناً بالحلي، بما يتناسب مع بعدها الاجتماعي..
تلك التفاصيل لكل شخصية في المظهر، أعطت لكلٍ منهن الروح الخاصة بها.
أما على مستوى الحوار، فقد تنوع طوال الوقت ما بين الشد والجذب، والمزاح والضحك والتشاجر، الذي وصل إلى الصراخ في بعض الأحيان.. ففي كل مناقشة تطرح بينهن يذهب طرف الحوار إلى واحدة، لتحكي شيئاً مؤثراً يؤلمها، سواء من الماضي أو خوف من المستقبل، وفي ذروة التأثر من الشخصيات والجمهور، يقطع ذلك التأثر جملة كوميدية تقلب الحوار إلى ضحك متواصل، للتخفيف من حدة ما سبق التحدث عنه من مشكلة تواجهها إحدى البطلات، وغالباً ما يكون ذلك من خلال “سحر” تلاؤماً مع شخصيتها المرحة خفيفة الظل.
أما “سارة” فعلى النقيض الآخر، تكون في الغالب هي مسببة الصراع، لاختلاف آرائها عنهن لطرح الرأي والرأي الآخر، من خلالها مثلما في نقاش زواج الصالونات، حيث ترفضه رفضاً تاماً، و”سحر” توافق عليه باستماته، أما “نوران” فتبدأ بالرفض، ثم تميل إلى الموافقة، من منطلق أنه ليس بذلك السوء، وأنه ليس إرخاصاً للفتاة كما تقول “سارة”، فتطرح “نوران” فكرة أن الطرفان يتساويان، فكما يختار الرجل الفتاة، التي سيتزوجها و”يعاينها” كما تقولها “سارة”، ترى “نوران” أن الفتاة أيضاً، تقوم بنفس الشيء، فكلاهما متساويان، فلماذا رفض المبدأ بشكل قطعي.. ويكون مبررها لذلك الخوف من الوحدة، والتقدم في العمر من دون زواج، ونظرة المجتمع لهن، و”منار” ما بين كل نقاش، وآخر تسرح في آرائهن، لتجد لنفسها قراراً محدداً في قبول عريس الصالونات المتقدم لها، أو رفضه.
أما أهم ما ميز الحوار، وجعله يتناسب مع بساطة وفكرة العرض، ورؤية مخرجه.. هو بساطة الحوار، وبعده عن الفلسفة، والتفخيم في الكلام، والعبارات، واقترابها بشكل كبير من الحقيقة، لتشعرنا كأنها جالسة مع صديقاتها في الواقع، وليس تمثيلاً.. البكاء، والضحك، والمزاح، وحتى التشاجر، سواء بجدية، أو على سبيل المزاح، يشبه إلى حد كبير كل جلسة أصدقاء في الواقع، بكل تفاصيلها الطبيعية، والحقيقية بعيدة تماماً عن التصنع.. ومما ساعد في ذلك أداء الممثلات الطبيعي البعيد عن الافتعال.. عدا مشاهد الشجار، فقد كانت سارة تبالغ إلى حد ما في الأداء، وفي الصوت، مما جعل بعض المَشاهد غير ملائمة للجو العام للعرض ولمساحة القاعة، التي يجلس فيها الجمهور محاطا بالممثلين.
وقبل الدخول في أي تفاصيل أخرى، تبعدنا عن الفكرة، وعن القضايا التي تم مناقشتها.. مع كل نقاش، واختلاف في وجهات النظر، كنت أجد على لسان كل شخصية منهن، رأياً من أرائي الشخصية، وأفكاري المتضادة التي تتسارع.. فرأيت أن بداخل كل سيدة توجد “سارة” بقوتها، و”سحر” باستسلامها للأمر الواقع، وحب الأسرة والزواج، و”نوران” التي تحاول فض النزاع، والوصول إلى حل وسط، و”منار” الحائرة التي تبحث عن الحب والحرية.. فماذا لو كانت الأربع شخصيات باختلافها، تجسد صراع شخص واحد.. صراع الأفكار بداخل سيدة واحدة؟ أي شخصية، وأي فكرة ستنتصر؟ وإلى أي اتجاه تسير؟
ومن تلك الأسئلة يمكنني القول إنني على الرغم من عدم تفضيليي للنهايات المفتوحة، إلا أنني وددت لو تُركت النهاية مفتوحة، دون قرار نهائي ينتصر لفكرة معينة.. لأن تلك الأفكار ستظل تتصارع سواء داخل الشخص الواحد، أو حتى داخل المجتمع، ففي حين ترفض بعض الفئات زواج الصالونات، فإن هناك فئات أخرى تقبله.. وفي حين ترفض كثير من السيدات الطلاق، فإن هناك سيدات تفضل راحتها النفسية، دون خوف من لقب مطلقة.. ومثلما توجد سيدات لا تستطيع تحمل أعباء البيت، والأسرة، والزوج، توجد سيدات تتحمل ذلك بكل حب وتقبل، اقتناعاً بأن كل طرف في الحياة يتقبل الآخر بمميزاته وعيوبه، وكل طرف يمكنه التنازل عن بعض الاشياء مقابل أشياء اخرى، حسب الأولويات لكل شخصية.
على صعيد آخر كانت النهاية مفعمة بالحيوية والايجابية، وتقبل كل شيء، وذلك على لسان “منار” التي تنصح صديقاتها أن يعشن كل يوم بمفردهن، دون الخوف من المستقبل، أو التفكير فيه، وتقبل تجاعيدهن، وتقدمهن في السن، وانتظار الحب، والونس، وإن لم يأتي، فونسهن هو شغفهن تجاه الحياة الذي لا ينتهي.
ذلك على مستوى النص بما يحمله من أفكار، وحوارات، وأبعاد للشخصيات، أما على مستوى التنفيذ، وطريقة التقديم، فكما سبق الذكر هنا يكمن التميز في العرض، وهنا يظهر استغلال القاعة بالشكل الذي يفرقها عن مسرح العلبة الإيطالية، فوجود الممثلين في وسط الجمهور، وكأن الجميع في إطار واحد، ساعد على خلق جو من الألفة، والتأثر بكل ما تعانيه السيدات الأربع.. وعلى غير المعتاد في مناهج الإخراج الكلاسيكية، التي تنص على أن الممثل لا يمكنه إعطاء ظهره للجمهور، جاء هذا العرض ببطلة واحدة تواجه الجمهور، فكل طاولة يقابلها بطلة مختلفة، وبطلتان تظهران كبروفيل، وبطلة طوال العرض لا نرى إلا ظهرها، ولم يقلل ذلك من قيمة العرض، أو من تأثرنا به، ربما في بعض اللحظات تصاب بالفضول لرؤية وجه وتعبيرات البطلات المختفيات كلياً، أو جزئياً، لكن في النهاية إذا كنت في أحد الكافيهات، وتستمع إلى إحدى الطاولات التي حولك، فأنت بالطبع لا ترى كل الجالسين عليها، مما أعطى العرض شكلاً واقعياً أكثر استكمالاً، لفكرة الألفة، والاندماج مع البطلات.
ربما نلاحظ عدم استخدام القرص الدوار طوال العرض، عدا في اخر مشهد مما جعله لا فائدة له، في البداية ظننته لتلف البطلات خلال العرض، ولكن ذلك لم يحدث وكان ذلك أفضل، لتطبيق الفكرة السابقة، لكن يقع هنا سؤال، ولماذا إذنْ القرص الدوار؟
أما عن الديكور كمناظر وإكسسوارات، فمنذ الدخول للقاعة تبدو وكأنك دخلت إلى إحدى الكافيهات فعلياً بَدءاً من طاولة التقديم التي امام الجرسونة، لتوزع البامفليت الدعائي للعرض، والذي يشبه menu الكافيهات، مروراً بالطاولات والكراسي التي لا تنتمي إلى المسرح، بل تحاكي تماماً جو الكافيه، مع اللون الروز الهادئ المناسب للفتيات والسيدات، وطبيعتهن الرقيقة، رغم تمتعهن أيضاً بالقوة، وكذلك الورود المتدلية من أعلى المسرح باللون الأبيض، والروز معاً.
واستكمالاً للسينوغرافيا الهادئة للإيحاء بالجو العام للعرض، كانت الإضاءة هادئة تتغير في بعض اللحظات المهمة فقط إلى ألوان دافئة، تتناسب مع دفء المشهد، وفي بعض مشاهد الشجار تتحول إلى لون أصفر مائل إلى الحدة أكثر، لتعطي المشاهد تنوعاً حسب الحالة، التي تسيطر على المشهد والممثلين.
ومنذ جلوسي في مقعدي، وقبل بدء العرض لفت انتباهي وجود تلفاز، يعرض فيلماً قديماً كما في الكافيهات، التي تتميز بالجو الكلاسيكي، مما أعطى شكلاً جمالياً، وكماليات للسينوغرافيا تزيد من ترابطها مع النص، والحوار، والجو العام.
أما من ناحية بعيدة عن السينوغرافيا، فالفيلم المعروض “الباب المفتوح” لا أدري هل نفس الفيلم الذي يعرض يومياً في جميع ليالي العرض، أم أنها محض صدفة، لكن في تصوري أنها ليست مجرد صدفة، وأنها مهارة من المخرج، ليستكمل حدثه على مستوى آخر من الطاولة محور الأحداث، لينتقل إلى التلفاز الذي يعرض فيلماً، كان يعبر في زمنه عن ثورة الفتاة ــ فاتن حمامة ــ على المجتمع، وتقاليده، التي لا تتناسب مع أفكارها، ومشاعرها، وتفتحها.
يمكن القول في النهاية إن العرض، هو حالة من حالات الِاندماج مع الممثل، لتعيش ما يعيشه، وتشعر به، وكأنك جزء من الحدث، فتتعاطف، وتعارض، وتثور، وتؤيد، وأنت في مقعدك في كافيه “بيت روز” تستمع إلى همسات، وضحكات الطاولة المجاورة لك، والتي يجلس عليها أربع فتيات جميلات قويات، وفي أعينهن بهجة، وذكاء، ومكر، وطيبة.
والجدير بالذكر أن العرض المسرحي “بيت روز” من تمثيل: سالي سعيد، نادية حسن، سماح سليم، هاجر حاتم، بالاشتراك مع مريم عيد، تصميم ديكور وأزياء: هبة الكومي، تصميم إضاءة: محمود الحسيني (كاجو)، موسيقى: رفيق يوسف، مساعدا المخرج: مها مصطفى، ورنا عادل، مخرج منفذ: عبد الخالق جمال، والعرض من تأليف وإخراج: محمود جمال حديني.
ــــــــــــــــــــــــ
★ ناقــدة ــ مصــر