رواية

د.هويدا صالح: سقوط بغداد، سقوط العرب في رواية اليوم الذي بدأ

د. هويدا صالح★

“في خلفية الأحداث تدور حرب شرسة يتابعها الناس على الفضائيات، لكن دخانها يعمي الناس في الشوارع والبيوت والمقاهي وفي أقسام البوليس التي يتحرك بينها حقوقي شاب خلال اليوم عدة مرات، يوم واحد فقط كل شيء فيه يبدو كفيلم سينمائي وكأنه يقع بعيدا عنك، لكنك تشعر به مثل كابوس يقترب ويقترب حتى يبتلعك بتفاصيله المخيفة. ثمة أرواح قلقة وأخرى منهكة، وثمة كثير من السأم يطارد شابا اختار أن يجعل مهنته إنقاذ الأرواح المعلقة على المشانق”

إنه حديث عن حرب يصلح أن يكون حديثا عن بلد عربي من بلدان ما سُمي بين قوسين بالربيع العربي، لكن القارئ حين يقاوم غشاوة الدخان وصراخ الثكالى وضجيج القنابل ويتعمق في قراءة الرواية التي ذيل غلافها الخلفي بالمقطع السابق سيكتشف أن هذا المشهد من الحرب إن هو إلا حديث عن حرب الأمريكان على العراق في عام 2003 وحتى سقوط بغداد.

هذا المقطع ورد على الغلاف الخلفي لرواية” اليوم الذي بدأ” للشاعر عطية معبد. صدرت الرواية عن سلسلة حروف التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة. وحديث الحرب في الرواية لم يكن فقط في مشهد الافتتاح أو التصدير الذي صدر به الرواية أو حتى في كلمة الغلاف الخلفي، حديث الحرب كان يتوازى مع تفاصيل الحياة اليومية للشخصيات في هذه الرواية، يقول في التصدير:” لا تطال الحرب الذين في ميادينها وحدهم إنها أبعد أبشع من ذلك للذين هم بمنأى والذين يظنون ـ بالذات ـ أنهم بمأمن”.

وحين نقرأ الفضاء السردي للرواية يتكشف لنا أن الكاتب يعي تماما أن هذه الحرب كانت بداية الجيل الرابع من الحروب، فقد كانت حربا إعلامية بالأساس. حرب وصلنا دخان قنابلها ونحن في شوارع مصر وطرقاتها عبر الإعلام، بل تمت بعض الضربات الجوية على الهواء مباشرة. وأصبح العالم منذ هذا التاريخ يعي خطورة الحرب الإعلامية أو ما أصبح يسمى بحروب الجيل الرابع وحروب الجيل الخامس، فقد سقط الجيش العراقي عبر قناة الجزيرة قبل أن تسقطه قنابل الأمريكان وصواريخهم.

عطية معبد شاعر مقل، يعيش في عزلته الاختيارية في بني سويف، ينحت عالمه الشعري بلغة خاصة مميزة، لا يشبه إلا نفسه، وهكذا فعل حين كتب روايته الأولى. يفتتح الرواية بإهداء لأبيه يكشف فيه أنه كشاعر لا يملك إلا الكلمة، ولا عرف هل تكفي هذه الكلمة أم لا:” إلى هالة ومصطفى: هذا إرثي لكما.. لا يترك الشعراء بعد رحيلهم إلا كلاما.. أنا جد.. آسف”.

وكأن هذا هو حال أصحاب الكلمة، وغالبا الكلمة لا تصلح أن تكون إرثا، كما أنها لا تصلح أن تملأ بطونا فارغة.

تدور الرواية حول بطلها الذي يعمل محاميا في بلد إقليمي، وهو في نفس الوقت شاعر وكاتب، وهنا نلمح فيها ظلال السيرة الذاتية، فالكاتب شاعر ويعمل محاميا.

يكشف السرد عن حالة من الأسى والشجن تسيطر على كل شيء، على تفاصيل الحياة، فمجموعة المحامين الذين يجتمعون في النقابة للتجهيز لمظاهرة كبرى ينددون فيها بالحرب على العراق والذين ينتمون لكل المكونات الثقافية للشعب المصري يغرقون في نوع من البوح المأساوي، ويكشفون عبر الحوار الدائر بينهم عن القلق والخوف وكذلك الحزن والأسى عما يحدث في الوطن.

يكشف الحوار المكثف والمقطر بين الشخصيات ليس عن الهم العربي العام فقط، بل كذلك عن الهموم الإنسانية لهذه الطبقات المهمشة والتي ترتاد المحاكم من أجل التقاضي وإرجاع حقوقهم، فلا نجد فرقا كبيرا بين تاجر الذهب، صاحب محل المجوهرات الصغير في المحافظة والذي أخذ في قضية استعمال ميزان غير مدموغ وبين ماسح الأحذية، كلاهما يعاني، وكلاهما يحاول أن يلجأ للقضاء من أجل نصفته، وكلاهما تطاله يد الأسى.

يبدأ الرواية بمشهد بداية الحرب على العراق واقتراب الجيش الأمريكي من بغداد، وتنتهي الرواية بسقوط بغداد، ومشهد هدم تماثيل صدام، ويزاوج الكاتب ما بين الخاص والعام، فسقوط تمثال صدام حسين البرونزي القائم في وسط بغداد يتوازى مع فشل الراوي أن يقيم علاقة حميمة مع زوجته، ينهي الرواية بجملة دالة تعليقا على فشل الراوي وعلى سقوط بغداد، جملة رمزية: “لا شيء يهم، سقوط تمثال من البرونز الخالص لا يعني سوى سقوط تمثال من البرونز الخالص”.

المراجــع
ـ عطية معبد، شاعر وروائي مصري له ديوان من الشعر هما ” هكذا أموت عادة، وهكذا أقول البلاد” وله رواية. “اليوم الذي بدأ”
ـ سقوط بغداد في عام 2003 جاء مخيبا لما توقعه كثير من المحللين السياسيين والعسكريين الذين توقعوا أن تصمد المدينة العريقة وجيشها الكبير بقيادة صدام حسين أمام هجوم الأمريكان، لكن ما حدث أن المدينة سقطت، وأعادت للذاكرة سقوط بغداد التاريخي أمام المغول في نهايات العصر العباسي الثاني.

ــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة وأستاذة أكاديمية ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى