مسرح

عزيز ريان: قاسم وضاوية.. ملامح النسوية المعاصرة تكريمًا للمرأة المغربية في الحروب

فرفة مؤسسة أرض الشاون للثقافات المغربية تنبش في تراث الحرب الشعبي

عزيز ريان★

اِنطلقت جولة مسرحية “قاسم وضاوية” لمؤسسة أرض الشاون للثقافات، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة ـ في ربوع الوطن المغربي “قاسم وضاوية” تأليف محمد زيطان، وإخراج ياسين أحجام، السينوغرافيا ياسين الزاوي، بمساعدة وديع حامين، ومن تشخيص كل من قندس جندل ومالك خميس، المحافظة العامة: نورا اسماعيل.

في ظل توهج كمي وكيفي في المنتوجات المسرحية المغربية، وتحقيقها لإنجازات عربياً، لا غرابة أن تتنوع المواضيع في كل عرض.

عالج صناع “قاسم وضاوية” تيمة الحرب، وإبراز رفضهم لهذا الطاعون، الذي يصيب البشرية بعديد آفات، وقتلى، ومرضى عضوياً ونفسياً.

تيمة الحرب كمجال، لم تتناوله الأعمال المغربية كثيراً، فلم يكن غريباً إصرار الفرقة على الإضافة النوعية لمسارها، وإلى المشهد المسرحي المغربي المتوهج والمتنوع.

الحدوثة:

المؤلف محمد زيطان، اِتجه إلى التاريخ والتراث الشفهي في نصه، وهو يكثف أزمة الجندي وفشله الرمزي، ليرفع من قيمة المرأة المغربية وقتها، والتي لم يسلط عليها الكثير من الأضواء، برغم مشاركتها وصراعها مع المستعمر السالب للأرض، هي حكاية خيالية لزوجين غرقا في مستنقع الاستعمار، وإرهاصاته، وآثار الحرب العالمية الثانية، بكل أعطابها ومخلفاتها التي أثرت لاحقاً على الإنسانية، كأننا نعيش عوالم متشابهة أو قريبة، فالحرب أنواع، قد يقول المتلقي وهو يعيش الفرجة في الحكي المسرحي كمحكي شعبي برسم لغة خاصة، وجسد مرن مع أصواته، التي تعبر عن رموز أخرى أةأ

في حرب الانسان ضد الأوبئة، ضد الأزمات، ضد الكوارث، ضد حرب فعلية بروسيا وأوكرنيا، وضد نفسه وضد الآخر، رزمانة حروب متخيلة، يمكن إسقاطها على العرض والنص حيث شكلا تناصاً بارعاً للقلم عند زيطان، وعند الرؤيا عند أحجام، في انسجام غير غريب عنهما، باعتبار صداقتهما وانتمائهما إلى نفس المدينة شفشاون، قد تكون الحكاية متداولة، لكن التطرق إليها لم يكن عادياً، بل بلمسات إبداعية وفنية تجلب المتلقي، وقعت أحداث “قاسم وضاوية” بعد عودة الجندي المغربي قاسم من الحرب إلى قريته الصغيرة، فحاجة الاستعمار لقوة رجالات مستعمراته ضرورية، فما بين انتظار البطلة ضاوية وبين آلام الحرب عند قاسم، تبدأ فصول حكاية بطلها العبث بالحرب، وذكريات الهلع بالمعارك والخسارات، أو الانتصارات المزيفة، نعيش مع قاسم البطل المتوهم، الذي يرسم ملامح رجولته (المزيفة) رفقة هواجس الحرب، وتشويش الاسترجاع الذي تعودناه عند الجنود عادة.

كوميديا الفودفيل:

اِستغل أحجام ما يعرف بـ “الفودفيل” الميزونسيني الذي يتخطى النخبة إلى عموم المتلقيين، بما يحتويه من تصورات فنية وتقنية متنوعة، تتكئ على الجسد، والكلمة، والوسائل السمعية البصرية المختارة بعناية، كي لا تشكل عبئاً على العرض أو المشاهد، ياسين الذي برع كممثل، يجيد كمخرج له وجهة نظر جمالية معاصرة، تقرأ النص المكتوب بلغة جديدة وغير عادية، بإبداع يراهن على طاقم مختار بعناية.

“فودفيل” وما يعرف باللغة الفرنسية بـ:”Vaudeville ” نوع مسرحي عرف منذ 1880، وهو نوع كوميدي ذو طابع شعبي، يتضمن أغاني ومضموناً ساخراً، والذي عرفته روسيا في نهاية القرن السابع عشر على شكل أوبرا هزلية صغيرة، اِقتباسا من فن الفودفيل الفرنسي، والتطرق لقضايا اجتماعية.

العرض أجاد توظيف تقنيات سينمائية حديثة، ساعدت على تكثيف المعنى، والرمز، والعيش في اللوحة التشكيلية، بالاستعانة بالممثل، وآلياته الأدائية، عبر تعدد الشخصيات عند قاسم (قاسم والأب) وعند ضاوية (ضاوية والأم) كتآمر فني ممتع بين المتلقي وبين العرض، الذي تدجج بالكوميديا كسلاح فني ماهر، لكي يخفف من وطأة الحرب الفعلية على أرض الواقع، وعلى العاطفة، مما يعيدنا إلى ثنائيات تاريخية، سجلها التاريخ قيس وليلى، روميو وجولييت…). فالسياسة لا شيء يهزمها غير العاطفة والحب والسخرية، بكل أشكالها الفنية المقبولة، التي لا تصل إلى التنمر، أو النوع التجاري الهابط، وبالنظر إلى العلامات الدلالية التي بالعرض بصرياً وسمعياً، وأدائياً، ونصياً، وشكلياً، واستعملت بالعرض صوراً حية من حروب حقيقية، ولعل الملاحظ هو صورة هتلر التي بدأت “تزين” البدايات كإشارة إلى لعنة الحرب منذ القديم، هتلر الذي تسبب في الكثير من الحروب الذي يصفه عباس محمود العقاد بصاحب الشخصية المزدوجة، يتناقض في تفكيره وشعوره، كأنما تصدر أفكاره وأحاسيسه من مصدرين، أو من شخصين مختلفين فهو حيناً سديد الرأي، وحيناً شديد الخطل..

 يقول أحجام “اِعتمدنا استخدام تقنية العرض البصري للصور بواسطة Data Show كوسيط تكنولوجي لتأثيث الفضاء عبر صور فوتوغرافية متنوعة، تستكمل العناصر البصرية السينوغرافيا، وتعطي للمسارات السردية والدرامية للنص أبعاداً سيميائية مكثفة، تزكي العوالم الحكائية، التي تعيش فيها الشخصيات.

 أحداث المسرحية، وبالموازاة مع المصاحبة الصوتية والموسيقية (وظف الغناء الشعبي المغربي المضاد للاستعمار وقتها..)

تبدأ ضاوية العرض، وهي تصرخ ضد الِانتظار:

“ضاوية: – بصوت منخفض- خمس شهور دابا وما بان خبر.. خمس شهور طويلة بحال شي واد.. بحال شي حبل مفتول نازل من السما.. خمس شهور حاسباها نهار بنهار.. ساعة بساعة.. حسباها بحال اللي كنت كنحسب بلعمان وسط السبولة ديال القمح، ولا بحال الشوك اللي ف الروضة..”

بصورة شاعرية تستهل البطلة ضاوية (قدس) على إعلان لعبتها مع الجمهور الِانتظار بكل أشكاله المؤلمة، الحرب لازمة الانتظار لكثير من أحباب ونتائج.

“قاسم: سمح لي. غادي تنيري فيك..

الضاوية:(وهي تنظر بعيداً).. علاش؟ علاش؟

قاسم:(دائما مخاطباً الشخص المتوهم).. هاد الشي اللي قالو لينا.. أي حاجة كتحرك حركوها. جيبوا ليها التمام. أنا ما نعرفكش

الضاوية: حتى أنا ما نعرفكش.. وما عمري عرفتك.. (تختفي)”

هنا عبثية الإنسان العائد، لكي يخفي انكساره وفشله عبر بندقية، تشهر رجولته المسلوبة، هي عبثية بين زوجين فرقتهما الحرب والأيام، هنا نتعرف على ما صنعته المرأة المغربية وقتها وصبرها الطويل عند كل ألم ومعاناة في نضال نسوي، لم ينقله التاريخ غالباً.

من حق الكاتب والمخرج استعمال تأثيرهما للاعتراض على الحرب، والعنف، والضغط النفسي الذي تخلفه الصراعات الدموية، وجعل الكلمة والعرض لغة ما، مكتوبة وبصرية سلاحاً للمواجهة، وهنا نستحضر أعمالاً ابداعية وصفت وأرخت، كيف عاش المجتمع حرباً أهلية إسبانية مثلاً، وهي طريقة سميت “العادة الأدبية “، والتي ابتعدت عن الِالتزام السياسي والاجتماعي، وهنا نكتشف أن النساء كان لها دورٌ مهمٌ جداً في الحرب، مما نقل لنا أصواتاً نسائية عديدة عاشت تجربة الحرب، واهتماماً بالكفاح.

عمل مبدع في بحث دؤوب عن التيمة الغائبة: السلم بصراخات رمزية، وفعلية للنجاة من الغرق في براثن الحرب، والدعوة إلى وقف كل أشكال إطلاق الرصاص في كل حرب.

يؤكد الكاتب على موضوع العرض لم يحظ مسرحياً بمساحة مهمة في الاشتغال الفني، وهي فرصة للغوص في التراث الشفهي اللامادي لبعض المناطق المغربية.. هي محاولة منا لتوثيق الذاكرة التراثية مسرحياً، وجعلها قابلة لفعل التمسرح، وهو أمر راهن عليه نصنا، تجسيداً لفاعلية الذاكرة في البناء الدارمي العام للنص.

اِشتغل المخرج مع سينوغراف صديق ومن نفس المدينة، مما أنتج عملاً تشكيلياً بصرياً باهراً بدون بهرجة، سهل تقسيم الفراغ والفضاء بين التعتيم، والإضاءة، وتكثيف حضور الموت الرمزي، وفقدان الرجولة، وتعويضها بقوة أخرى حاضرة، قوة الأنثى المرأة التي غيبها الرجال ذات تاريخ منسي،  فالمقعد، مثلاً، والذي تلون بأحمر قان، يعيدك لكثيرمن احتمالات، والباب التي تحولت شاشة عرض مكملة تفاصيل تقنية، وسينوغرافية بديعة، أكملت ما بدأه النص والإخراج، ولعبت الأزياء دوراً مهماً ساعد المتلقي على الفهم، والتعبير، والتعرف على الفترة الزمانية والمكانية، وكذا تقديم أبعاد كل شخصية بدقة، كما شكلت الإضاءة دعامة في:

  1. كمياتها المسلطة (أحجام ومقاسات فتحات أجهزة الاضاءة) للتأثير على حس المتلقي.
  2. لونها، والتي اعتمدت الألوان الدافئة في لحظات الفودفيل، والألوان الباردة في لحظات التراجيديا الحربية.
  3.  توزيعها بشكل سليم ومتجانس بشقيها إضاءة عامة، وإضاءة خاصة.

هو تلاحم فني بين الثلاثي الإبداعي: الكتابة والميزونسين والسينوغراف في حضرة التشخيص النوعي لكل من قدس ومالك، ساعد ضبط صوت المكان المنتج في تلك الحقبة بحسب كل مشهد الممثلين اللذين نقلا شخصياتهما كما لو كانت من ذلك الزمن، حيث وظفا جسديهما كمصدر تركيز للجمهور، مع اللعب الصوتي المدروس، الذي ينقل لنا المشاعر بتفاصيلها.

ويصر المخرج في مشروعه المسرحي هذا على حضور المؤسسة، للغوص في الموروث الشعبي المغربي، والاحتفاء بالمشترك الثقافي، من خلال حكاية متخيلة لزوجين، عاشا ارهاصات الاستعمار الفرنسي، والحرب العالمية الثانية، وبناء المغرب الحديث بأعطابه وايجابياته.

هي إذن التفاتة ذكية تبرز أن المسرحي لن يبقى حبيساً للنظريات، أو القوقعة التي قد يلبسها، بالعكس فهو ينقل الواقع، ويصارع لتغييره، ومنع تجاوازته الإنسانية، التي صمت العالم عنها، وآن للمسرح والمسرحي لكي يوقفها، وفرصة لأحجام للعودة للمسرح، وشحن بطارية الإبداع، التي قد تقل في الشاشة الصغيرة والكبيرة، كما الكثيرين بالعالم، الذين يعتبرون أبا الفنون ملاذهم، الذي يمارسون فيه شغبهم الفني.

ــــــــــــــــــــــــ

★ كاتب وناقد ــ المغــرب

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى