فنون وآداب اخرى

أ.د. فاطمة لطيف: أفق التوقع وفاعليته البنائية المعرفية

أ.د. فاطمة لطيف عبد الله★ 

في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، شهدت الساحة النقدية ولادة مشروع منهجي جديد، عُدَّ في جوهره تحولاً ثورياً في سلم تطور المناهج النقدية السابقة له، ألا وهو ظهور المنهج البنيوي في النقد، والذي كثف جهوده للإحاطة بالماهية والتشكيل الجماليين، ودراستهما من الداخل، ومن هذا التوجه بدأ التأسيس للفاعلية الحداثوية الجديدة، إلى لحظة الصيرورة والتحول الأشد تأثيراً، والتي تمثلت بانبثاق نظرية التلقي، والتي انصب اهتمامها بخبرة المتلقي، وآلية فهمه للنتاج الفني، وبالتالي تأسيس المعنى الذي لم تفترض بأنه أحادي الاتجاه، بل إنه بنية اْميبية تدور في فضاء النص، تنقصه الفاعلية القراءاتية للمتلقي، وعلى نحو تعددت أوجهه بتعدد القراءات وتنوعها، وأن هذه القراءات لا تتوقف عند الامساك بمعنى ما، أو فهم ما، بل إنها مستمرة في ملاحقة وتحديد المعنى، كردة فعل معرفية على تجاوز العمل الفني سياق المألوف والمعتاد، وفي كل قراءة يتم هدم بنى معنوية، والتأسيس لبنى أخرى بالاستناد إلى ما أطلق عليه (هانز روبيرت ياوس1921-1997)، (أفق التوقع)، وهو مفهوم إجرائي يصف تلك الحالة التفاعلية التي تعم الفضاء الجمالي الذي يبنى عليه المعنى، وتترسم فيه ملامح الخطوات المركزية لتحليل العمل الفني، فعرفه بأنه نظام من العلاقات، أو جهاز عقلي، يمكن لأي متلقٍ افتراضي أن يواجه به أي عمل فني، وهو أيضاً مجموعة من المعايير والمرجعيات، لدى مجموعة متلقين في حقبة زمنية ما، يتم انطلاقاً منها قراءة النتاج الفني وتقويمه جمالياً، على هذا النحو بدا أفق التوقع مرتكزاً في جانب واسع منه على خبرة المتلقي القرائية، إذ مهما كان العمل الفني مغرقاً بالجمالية الفنية، لا يمكن له أن يؤثر تأثيراً ما، مالم يتضح ذلك، ويترجم في ردة فعل المتلقي واستجابته الجمالية، والتي تتسم بدورها بالمرونة والتنوع لدى المتلقي الكفء، فهو على يقين مسبق بأن النتاجات الجمالية، ليست مغلقة على أفق توقعه فحسب، كما وأن هذا الأفق ليس ثابتاً على المستوى السياقي، أو المرجعي، أو المستوى التاريخي، وما التاريخ الفني والجمالي وفقاً لهذا، إلا مجموعة نتاجات رشحتها القراءات المتعددة، لقراء متباينين في أزمنة متباينة، وتبعاً لمعايير قراءاتية معينة، تُعَدُّ امتداداً لقراءات فنية كمية ونوعية، شكلت أفق المتلقي ذاته، والذي يُعَدُّ أداة أو وسيلة معرفية جمالية، يتسلح بها المتلقي بشكل قصدي، أو غير قصدي، عند مواجهته القراءاتية لأي عمل فني جديد، تبعاً لذلك لم تولِ طروحات (ياوس) هذه اهتماماً استثنائياً بالمعنى ذاته، بقدر اهتمامها بقصدية الفنان، وردة أفعال المتلقين، والأثر الذي يتركه العمل الفني فيهم، وعلى نحو ينحرف معه أفق توقعاتهم، ليحول الوعي والإدراك وآلياته التأويلية، صوب قضايا وطروحات لم يتم التركيز عليها من قبل، لذلك يركز (ياوس) في طرحه لمفهوم الأفق على آلية تعامل المتلقي مع العمل الفني، وطبيعة الأثر النفسي الناتج من هذا التفاعل، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياقات التاريخية والاجتماعية لكل متلقٍ، بمعنى آخر إن (ياوس) قد أكد على ضرورة اندماج السياق الخارجي، الذي أنشئ فيه العمل الفني مع سياق المتلقي الشخصي، إذ يكون لهذا الأخير دورٌ بارزٌ وحاسمٌ في بناء المعنى، وفقاً للتحول المعرفي والفكري لأفق توقعه، وهو ما يطلق عليه (انصهار الآفاق)، وتتألف الأنظمة المرجعية لأفق التوقع بحسب (ياوس) من ثلاثة عوامل رئيسية هي التراث والكم الخبري، الذي بناه المتلقي إزاء كل جنس من الأجناس الفنية، كي يتم له قراءة العمل الفني ضمن السياق الجمالي والزمني الذي ينتمي اليه، والقدرة القراءاتية للمتلقي، والتي تُمَكِّنُهُ من فصل الجانب التخيلي من النتاجات الجمالية عن الجانب الواقعي، كما تُمَكِّنُهُ من المزج بينهما، وأخيراً التعارض بين اللغة الفنية والاستخدام الشعري لها، وبين اللغة العملية، والتي تتحكم كثيراً في آلية تغيير لأفق وبناء المعنى.

الفيلسوف هانز روبرت ياوس

إن العمل الفني الذي يجتهد في خرق أفق توقع المتلقي، يجب أن  يغاير ويشاكس الخزين الخبري للمتلقي، وأن يخالف عادة القراءة لديه، وأن يُقَوِّضَ ثوابت التأويل، ويفك أحادية الدلالة، وعلى نحو يجعله قادراً على بناء المعنى، على الرغم من انصهار العنصر المادي مع الدلالة المتخيلة له، ويتم ذلك عبر إزاحة المعالجات البنائية، وابتعادها عن النظم التقنية المتداولة، أو التي يتم استيعاب نظمها الإشهارية عند طرحها لقضية ما، وقد أمكن للفنون المعاصرة تحقيق ذلك بتشكل ملفت للنظر،  إذ تلاعب الفنان بأفق توقع المتلقي، وقوَّضَ ثقته بثباته، ذلك أن هدفه الأساس، هو خلخلة الأنظمة الفكرية المتداولة لقضايا الفن والحياة برمتها، عبر تعدد قراءاته للنتاج الفني، الذي يكشف عن هذا التنوع والتعدد بأوج تناقضاته، مؤكداً على أن المعنى بنية تتجول في فضاء العمل الفني على المتلقي الإمساك بها، وفك شفرتها الدلالية، وإحالتها إلى سياق مرجعي ما، وعليه فالمعنى هو نتاج لبنية المتلقي الفكرية، يتوقف بدوره على فاعلية أفق التوقع لديه، كما أن استراتيجية العملية القراءاتية هذه، ما هي إلا تكثيف إجرائي للكيفية التي تُقَيَّمُ بها النتاجات الفنية، وتؤول على الرغم من تعدد الأزمنة والأمكنة والقراءات، فضلاً عن أنها هي ذات الاستراتيجية التي ينتج عنها انصهار الآفاق، اْو تبدلها، والتي لا يشترط أن تتطابق بأي شكل من الأشكال مع الخزين الخبري للمتلقي تطابقاً تاماً، إذ مع الفنون المعاصرة، أصبح عنصر المخالفة أمراً حتمياً، كي يتم تعديل وتغيير وتصحيح أفق توقع المتلقي، وعليه فإن مقياس جودة العمل، وقدرته في التغير أصبحت المتلقي ذاته، ذلك أن مجموعة المعايير التي يحملها عبر تجاربه السابقة في قراءة الأعمال الأدبية، هي التي تشخص ذلك التطور، في اللحظة التي تتعرض فيها المعايير إلى تجاوزات في الشكل والثيمات واللغة. 

يرى (ياوس) أن تغير الأفق وبناء أفق جديد، يفرز مفهوماً ووعياً جديداً يطلق عليه بالمسافة الجمالية، وهي المساحة الافتراضية الفاصلة بين توقع المتلقي المسبق، وبين العمل الفني الجديد، وعلى نحو يؤدي إلى تعارض بنائي ومفاهيمي بين التجارب القراءاتية المعهودة، وما يشهده المتلقي من صورة إشهارية يصعب استيعابها بيسر وسهولة، بمعنى آخر يشعر المتلقي بخيبة توقع في مطابقة معاييره السالفة مع معايير العمل الفني الجديد، وهذا هو المسار الاستراتيجي، أو الأفق الذي في ضوئه تتحرك الانحرافات، أو الانزياح عما هو مألوف، وعلى هذا النحو أصبحت لحظات الخيبة القراءاتية هي المجال الجمالي لتأسيس أفق توقع جديد، وأن التطور في تاريخ وقراءة تقييم النتاجات الفنية، إنما يتم عبر استبعاد أفق ما، وتأسيس أفق آخر، يشكل بدوره نواة لأداة  قراءاتية (أفق توقع جديد لاحقاً).

غلاف كتاب جماليات التلقي

ويمكن القول إن (ياوس) قد نفى إمكانية وجود معنى واحد خالص وثابت بالضرورة، وإنما يتشكل وينبني بفعل فاعلية المنظومة الفكرية للمتلقي، والتي بدا الاستعداد النفسي والاستيعاب الذهني، هما العنصران الأكثر فاعلية في هذا المجال، لذا فإن التحول في بناء الآفاق، إنما يشهد تحولات فكرية على مستوى عال من الخصوصية والتنوع والدقة، وهو ما مثل هدفاً مشتركاً لفنون ما بعد الحداثة، والتي عنيت بقضية مهمة، هي ماذا يمكن للعمل الفني أن يقدم؟ وما هي الأجوبة التي يقدمها لأسئلة الواقع الوجودية، وبالتالي إعادة بناء أفق توقع المتلقي، وفقاً للأسئلة والمعطيات والتوقعات، التي طرحها العمل الفني وفقاً لإرهاصات العصر، ومقولة السلطة السائدة فيه، وعليه فإن تغير الأفق ما هو إلا تغير للفهم، وتحولٌ في مرجعيته التأويلية، وفاعليته في فك شفرات العمل الفني، لذلك نجد وفقاً لـ(ياوس) قد تم الربط والدمج بين أفق التوقع، والنسق المرجعي، وفقاً لعلاقة تتحد بطبيعة النتاجات الجمالية، التي تم قراءتها، مع تأكيده على ضرورة مغايرة هذه النتاجات لآلية القراءات السابقة، إذ دون هذه المغايرة لن يُبنى أفق توقع جديد، أي أن على النتاجات الفنية أن تنزاح لمسافة جمالية متوسطة البعد، عن فاعلية المتلقي في قنص المعنى، وفهم العمل، ومن ثم التأسيس القيمي له، عبر اشتراك قوى المتلقي الإدراكية والشعورية والمعيارية والخبرية في قراءة واحدة، وعلى هذا النحو يكون (ياوس) قد أكد ضمناً على أهمية الاستمتاع بالفهم، وفهم المتعة الجمالية في أدق توصيفاتها، وعلى وفق هذه الآلية يصبح لأفق التوقع دورٌ  كبيرٌ في إثبات وجودية العمل الفني، وتأكيد دوره في فهم وتقييم مستوياته الدلالية، ويتضح ذلك جلياً حينما يشرع المتلقي في قراءة الاعمال الفنية، فإذا استجاب أفق توقع المتلقي، لمعطيات العمل الفني إلى درجة كبيرة من المطابقة، فسيكون التفاعل القراءاتي قائماً مع الإقرار بعادية العمل الفني، أما إذا خالفت معطيات العمل الفني أفق توقع المتلقي، وافرزت مسافة جمالية ما، فإنه يكون قادراً على أن يحول مجرى سيل الدلالة والتفكير برمته، لذلك يؤكد(ياوس) على أن الأعمال الفنية العالية الجودة، هي التي تثير خيبة توقع المتلقين، والتي تعمل جاهدةً على إجراء تحول نوعي في فكر المتلقي، وتطور أساليب تقويمه الجمالي، فهي تخلق متلقين على مستوى عالٍ من الاحترافية، في رصد التحولات الأدائية، وتحويلها إلى متغيرات مفاهيمية / فكرية، تترجم على مساحة الفكر الإنساني، لذلك جهدت الأعمال الفنية المعاصرة إلى أن تفعل ذكاء وفطنة وآليات قراءة المتلقي بما تود أن تقوله، وهذا بكل الأحوال لا ينفي أهمية أن تكون هذه النتاجات، مراعية لأفق توقع المتلقي دون أن تُقَوِّضَهُ تماماً، وعليه فإن فاعلية أفق التلقي ومرونته في التحول، اْعاد الاعتبار إلى دور المتلقي، في إعادة إنتاج الأعمال الفنية ومعناها من جديد،  وعليه فإن أي تحول أسلوبي ومفاهيمي في الأعمال الفنية، يصاحبه تحولٌ فكريٌ بالنسبة إلى المتلقي الكفء بالضرورة، فضلاً عن ذلك ينم هذا التحول عن تنشيط فعلي للجهاز الإدراكي للمتلقي، بوصفه منظومة استقبال فاعلة ونشطة التأويل، عبر آليات الفهم والتفسير والتطبيق، وهو ما يؤدي بنهاية المطاف، إلى التغيير في أفق توقع المتلقي، من مرحلة أولية إلى مرحلة أعلى، على الرغم من أن هذا المتلقي، لايزال مرتبطاً بمعايير ثقافية مجتمعه، وقيمه السلطوية، والتي قد تسعفه في فك بعض من شفرات الأعمال الفنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

★ باحثة واكاديمية بـ كلية الفنون الجميلة جامعة بابل ــ العــراق

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى