سينما

رانا ابو العلا: ورد، وما زال.. تحرر وفقدان وأشياء أخرى

رانا ابو العلا★

يرى البعض أن صناعة الفيلم القصير، تُعد من أصعب الصناعات السينمائية، كون المبدع في حالة الفيلم القصير يُصبح محدداً بدقائق معينة، عليه أن يُجسد خلالها معالجة درامية متكاملة العناصر للفكرة، التي يرغب صانع الفيلم في طرحها للمتلقي، وربما التحدي الأصعب، أن يتجه المبدع إلى صناعة فيلم قصير صامت، في هذه الحالة على الصورة السينمائية أن تُجسد الكثير من المعاني، وتُترجم تفاصيل الحكاية، بمشاركة كافة العناصر السينمائية دون التطرق إلى اللغة المنطوقة، فهل الصمت قد يكون حقاً أبلغ من الكلام، أم أن غياب الكلمة قد يقف عائقاً أمام متلقي العمل؟

وربما يتوقف الأمر في هذه الحالة على التدقيق في استخدام كافة العناصر السينمائية المرئية، لشرح ما تعوضه الكلمة، ويساهم في ذلك الممثل الذي بدوره عليه أن يعوض غياب الكلمة، ومن ثَمَّ فإن تركيبة العمل السينمائي الصامت، يتوقف جزء كبير من نجاحها على الممثل، بمساعدة العناصر المرئية الأخرى.

منذ أيام شاهدت اثنين من الأفلام السينمائية القصيرة، شارك كلٌّ منهما بِعِدَّةِ مهرجانات سينمائية، وهما لمشروع مادة إخراج، بالمعهد العالي للسينما، الفيلم الأول بعنوان (ومازال) إنتاج يونيو 2021، والثاني بعنوان (ورد) إنتاج نوفمبر 2022، والفيلمان من إخراج أسامة القزاز، وفيهما يتناول القزاز الصراع النفسي الذي يحياه الإنسان نتيجة حدث معين، أو حياة أصبحت مستحيلة أن تستمر بهذا الشكل، ففي دقائق مكثفة يأخذنا القزاز إلى أعماق النفس البشرية، ليُجسد للمشاهد ما تفعله لحظات إنسانية مؤثرة، تطوي الكثير من المشاعر المتباينة.

فيلم ومازال

ومازال.. يوم مميز جداً

يدور فيلم (ومازال) حول شاب في الثلاثين من عمره، يستيقظ على رسالة تذكره أن اليوم هو يوم مميز جداً، وبالنظر إلى المشهد السينمائي في الدقيقة الأولى من الفيلم نكتشف أن الصورة تخلق الكثير من علامات الاستفهام للمشاهد، الذي يرى شاباً في مقتبل العمر يسكن وحيداً بمنزل ذي طابع تقليدي قديم، يبدو أنه لم يحدث فيه أي تجديدات منذ زمنٍ بعيد، أما جدرانه فتمتلئ بصور قديمة تُشبه أثاث المنزل، بينما تخلق موسيقى الفيلم تناقضاً آخر، حيث نسمع في ذات الوقت أغاني أطفال شهيرة، دائماً ما كانت تتردد على مسامعنا ونحن صغار من خلال الراديو، وبينما تأتي بداية الفيلم حاملة الكثير من التناقضات، بين شكل الأثاث المتهالك، وهذا الشاب الذي يبدو عليه التفاؤل في اللحظة الأولى، والذي يتفق مع الرسالة التي تذكره أن اليوم مميز جداً، ولا تتفق مع عقاقير الاكتئاب التي يتناولها منذ الصباح، تبدأ أحداث الفيلم، لتُجيب عن كافة الأسئلة التي خطرت للمشاهد، فهذا الشاب فقد عائلته في يوم ميلاده العاشر، والذي كان من المفترض أن يكون برغبة من والديه يوماً مميزاً جداً لهذا الطفل، إلا أنهم تركوا هذا الطفل وحيداً إثر حادث سير، وبقي هو حبيس هذا اليوم، وتفاصيله حتى الثلاثين من عمره، فهذه الأغاني التي وردت في البداية، لم تكن مجرد أغنيات عابرة، بل كانت أغنيات الطفولة السعيدة، التي يستيقظ على أنغامها هذا الطفل، وهذا المنزل المتهالك لم يحدث به أي تغييرات منذ لحظة الحادث، وكأنه أراد أن يحتفظ بكل شيء، حتى لا يشعر بفقدانهم، فهذه الصور هي فقط ما تبقت من عائلته

مشهد من فيلم ومازال

وهو أراد ان يشعر أنه محاط بهم، فقد بدت الأحداث الأولية منطقية بلحظات الكشف، التي ظهرت شيئاً فـشيئاً، وذلك بمساهمة الأداء الصوتي لـ رضوى إيهاب، كريم محمد، الطفل محمد شريف، فقد مزج القزاز بين ما يراه المشاهد، والذي يمثل اللحظة الآنية التي يحيا بها الشاب، وبين ما يسمعه، ويمثل الماضي في نفس اليوم، فنحن أمام شاب بقي سجين تفاصيل يومه الأليم، حيث تعكس لنا الأحداث، البُعد النفسي لهذا الشاب، والتأثير الذي وقع عليه نتاج هذا الفقدان، وكيف يكرر تفاصيل هذا اليوم من كل عام بـ إرادته، وهو ما يبدو متجلياً بمشهد النهاية، الذي يشير إلى أنه أصبح في عامه الستين، ومازال، ولم يتغير أي شيء، فـإذا كان العنوان هو العتبة الأولى، التي يدخل منها المشاهد إلى العمل الفني، فيمكننا القول إن صناع فيلم (ومازال) أصابوا في اختيارهم لهذا الاسم، الذي يعني الاستمرارية، كـرمز للفعل المستمر، والذي لن يتغير بمرور السنين.

مشهد من فيلم ومازال

تمكن عبد الباري سعد بأدائه التمثيلي، وانفعالاته المختلفة أن يعكس الحالة القاسية،  التي يمر بها هذا الشاب بعد فقدان عائلته، فقد نجح في توظيف لغة الجسد، لتعكس مكنون هذه الشخصية المضطربة نفسياً، وتأثيرها على حياته، فقد وظف المخرج تركيبة الصورة السينمائية لخدمة دراما الفيلم، حيث استخدم إضاءة قاتمة بأغلب مشاهد الفيلم، وبذلك تمكَّنَ من خلق أجواء عامة للفيلم، تتفق مع طبيعة دراما الفيلم السوداوية

مشهد من فيلم ومازال

فـمثلما جاء ديكور الغرفة، ليكشف الكثير عن طبيعة حياة هذا الشاب، جاء ديكور لحظة احتفاله بذكرى ميلاده، وهنا يوضح لنا مخرج الفيلم التناقض بين ذكرى ميلاده، التي من المفترض أن تكون حدثاً سعيداً ومميزاً، وبين حادث فقدانه لعائلته، وهو ما عبر عنه من خلال الطاولة التي تجمع بين تورتة عيد الميلاد، وبين وشاح الأم، وساعة الأب، والذي جفت عليها دماؤهم بفعل توالي الأعوام على الحادث، فهو لم يحتفظ بهذا اليوم في ذاكرته فحسب، بل احتفظ بـ آثاره أيضاً، فربما أراد الأبوان أن يكون يوم ميلاده، يوماً مميزاً جداً، لكنه أصبح يوماً متناقضاً جداً، يجمع بين حدثين أحدهما سعيد للغاية، والأخر بالغ الحزن.

فيلم ورد

ورد..  حياة زوجية مؤلمة

يجسد الفيلم لحظه تحرر امرأة من رجل يمارس عليها العنف بكل أشكاله، نفسياً وجسدياً وجنسياً، وما إلى ذلك، فنحن أمام دراما اجتماعية، تعكس واقع الكثير من النساء اللاتي يردن التحرر من سجونهن، ومن ثَمَّ يمزج مخرج العمل بين لحظة تحرر تلك المرأة، هرباً من هذا الزوج اللعين، وبين أفعاله المشينة، ومدى القهر والظلم، التي تتعرض له، وما أدى بها إلى التمرد على هذا السجن اللعين، فهي تماماً مثلما فعلت نورا في النص المسرحي بيت الدمية للكاتب هنريك إبسن، حين تمردت على زوجها وتركت منزلها، فقد يبدو أن الأمرين مختلفان، لكني رأيت في نورا وورد تماثلاً في كون الاثنتين قررتا التمرد والتحرر من سجن الزوج، والخروج من المنزل، حتى وإن اختلف السجان، واختلفت معه طبيعة الأفعال الذكورية، تجاه كلتيهما.

مشهد من فيلم ورد

اِعتمدت المشاهد الأولى من أحداث الفيلم على الـ medium shot ليبرز خلالها مدى وحشية الزوج في تعاملاته مع زوجته بالقدرالذي يجعل المشاهد يشعر  باشمئزاز مما يراه على الشاشة، حيث نرى رجلاً ضخم البنية، ملامحه حادَّة، تتفجر بالغضب، بالإضافة إلى صوته الأجش الذي يغلف المشهد، وربما نرى بهذا المشهد شيئاً من المبالغة في وصف الزوج وعلاقته بالزوجة، التي تتعرض لهذا الكم من الانتهاكات، وبالرغم من تأثير هذا المشهد على المشاهد، وما يتبعه من شعور بالرفض والتقزز مما يراه، إلا أن هذه المغالاة، كانت الأنسب في التعبير عن تلك الحياة الزوجية المدمرة، خاصة في حالة هذا الفيلم، كونه لا يتعدى الثلاث دقائق، ويعتمد فقط على الأداء الجسدي، والموسيقى، والأصوات المصاحبة

مشهد من فيلم ورد

فلو لا وعي آية أبو زيد، وكريم عبده بطبيعة شخصياتهما، والمدة الزمنية التي تدور خلالها أحداث الفيلم، والتي أشرنا لها سابقاً، وقدرتهما التمثيلية في تجسيد وحشية الزوج في مقابل ضعف الزوجة وقلة حيلتها، لـبدت الأحداث باهتة، ولهذا جاءت نهاية الفيلم حتمية بتحرر الزوجة من هذا القهر والعنف الواقع عليها، وقيد الزوج، ليشعر ولو قليلا بالشعور الذي لطالما عاشته، وهروبها إلى الشارع، يرمز إلى الحرية والنجاة.

ـــــــــــــــــــــــ

★ سكرتير التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى