حسام الدين مسعد: مسرح الشارع.. الوجود والوعي
حسام الدين مسعد★
حين يصادفك، وأنت تسير في شوارعنا العربية، ودون علمك بموعد مسبق لعرض من عروض مسرح الشارع، التي اختفت تماماً إلا ما ندر وجوده في التظاهرات المسرحية العربية المزدحمة بالضيوف المتكررة، والوجوه الثابتة، والتي لا يعنيها سوى وضع الفواصل الحديدية بين عروضها، وبين المجتمع الذي تستهدف أفراده الذين بات يشغلهم سلبية التفكير في الإحباطات اليومية الراهنة، بطرحهم السؤال على أنفسهم، باستخدامهم أداة الِاستفهام ” لماذا”؟، ولأنك واحد منهم، شعورك يماثلهم، تستخدم ذات الأداة الاستفهامية حين يجذبك عرض الشارع، لتغوص في أعماقك المحبطة لتلفظ السؤال، لماذا عاد “المحبظاتية” الممثلون الجائلون إلينا في مثل هذا الوقت الشاذ؟ الذي نحتاج فيه إلى تجاوز الحدود بكافة أبعادها الِاجتماعية، والدينية، والِاقتصادية، فلو استبدلت أداة الِاستفهام بـ (ما) وبدْلت السؤال ليكون: ماهي أسباب اختفاء عروض مسرح الشارع؟
فإن السؤال سيكون أكثر نفعاً، كونه يركز على الأهداف المستقبلية، بدلاً من تركيزه على أخطاء الماضي.
– في الحقيقة ليس هناك شيء يختفي تماماً من الوجود، فالوجود هو القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل مباشر، أو غير مباشر، لكن ما هي القدرة التي تٌعيننا على إحداث مثل هذا التفاعل مع الواقع؟
لا شك أن قدرة الوعي بالذات، هي التي تعبر عن ملاحظة المواقف التي نمر بها، والبحث عن الأنماط المختلفة في طرائق التفكير التي نميل إليها، بالإضافة إلى كيفية تفسير الأشياء لأنفسنا، وفهم العالم من حولنا.
-يقول سيجموند فرويد: “من الممكن الِاستمتاع بإحساس الحرية، عندما نكون قادرين على ترك سترة المنطق” لكن الآن تركنا كل ملابسنا، وأصبحنا عراة سجناء في هذا العالم العبثي، لأننا تربينا على عدم تجاوز الحدود، فأصبحنا نسخة واحدة خاوية من التأمل، والِابتكار، والتجديد.
فهل تأملنا طبيعة الفضاء الذي نستهدفه في عروض مسرح الشارع؟ وهل استطعنا أن نتجاوز الحدود مع متلقي هذا الفضاء؟ أم مازلنا نتعكز على أطروحات الآخر في مشروعاتنا الثقافية، والمسرحية؟
– أن التداخل بين المجتمعات ذات البنية التقليدية، ومفهوم الدولة الحديثة، التي تستمد شرعيتها من بنية تقليدية، ونظام سياسي حديث، لكنه يتبنى النمطين معاً، الشكل والمظهر الخارجي، لكن نمط التسيير والتدبير “باتريمونيالي”، أي يعتمد على علاقات المحسوبية والولاء للسلطة المركزية، قد أدى إلى تشكل الوعي لدى جمهور المتلقين، فالحمولة التي يتضمنها، على المستوى الواقعي اليومي، وعلى المستوى الرمزي، تطبع إلى حد بعيد، تصور المواطن للنظام السياسي، وجوهره وطبيعته، وعلاقته بالسلطة، أو النظام السياسي المهيمن على الفضاء العمومي العربي، والذي يتحكم في مزاولة، أو منع ممارسة هذا الفن، مما أدى إلى تكريس سلوك العزوف، وانعدام الثقة في المؤسسات والكيانات السياسية المهيمنة على العملية الإنتاجية للمسرح في وطننا العربي، وأدى أيضاً إلى انعدام ثقة المتلقي العربي في الخطاب المسرحي، فعزف التلقي النقدي العربي عن ملاحقة عروض مسرح الشارع، التي لا يسمح بمزاولتها، إلا بناء على تصريح مسبق من السلطة السياسية، فضلاً عن عدم تراكمها، واستمراريتها.
– لاشك أن مجتمعاتنا العربية يصعب فهمها دون الرجوع للفعل والممارسات كمعطيات، ودون الاستناد إلى التكوين النفسي، والِاجتماعي فقط في وصف تجارب الناس، ومع ذلك فالعودة إلى الحياة اليومية، من شأنها خلخلة الكثير مما نعرفه عن عالمنا العربي، فالبحث النقدي الذي ابتدعه “ويليام ديلثي” يرى أننا نتحول بفضل الخبرة التي ترغمنا على النظر، وإعادة النظر في شكل الوجود الذي نلاقيه، وهو ما يضعف من سلطة التقاليد أياً كان نوعها، لذا فمن المحال فهم الوجود العربي لعروض مسرح الشارع، إلا من خلال المحادثة، فذلك الوجود يأتي إلى داخل اللغة بواسطة الحوار، أو المحادثة، فاللغة هي المرآة التي يقابل المرء نفسه فيها، أو يقابل نفسه في الآخرين، فمرآة المحادثة تجدد نفسها في الهدف من وراء ما يقال، لكن قبل شروعنا في المحادثة، أو الحوار هل لدينا العلم الكافي بلغة التعلم الحواري؟ أو مشروع (مجتمعات التعلم) (١) والذي أسسه البرازيلي “باولو فيراري”؟ إنه مشروع تعليمي، يسعى إلى التحول الاجتماعي، والثقافي، للمراكز التعليمية ومحيطها من خلال التركيز على الحوار المتساوي بين جميع أفراد المجتمع، لإن عمليات التعلم، بغض النظر عن أعمار المتعلمين، تعتمد بشكل أكبر على التنسيق بين جميع التفاعلات، والأنشطة التي تحدث في أماكن مختلفة من حياة المتعلمين، على هذا المنوال، يهدف مشروع «مجتمعات التعلم» إلى مضاعفة سياقات التعلم، والتفاعلات بهدف وصول جميع الطلاب إلى مستويات أعلى من التطور عن طريق الحوار.
وهل الحوار في مجتمعاتنا العربية متساوٍ بين أفراد المجتمع الذين لا يؤمنون بثقافة الِاختلاف أو تقبل الآخر؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال تستدعينا لمعرفة كيفية فهم أفق الحاضر الذي تحدده ضروب التحيز في موقف المفسر، فوفقاً لما قاله “مارتن هيدجر”(٢) أن الفهم يحدث باعتباره انصهار الأفقين أي أفق الماضي الذي ينقل التقاليد، وأفق الحاضر الذي تحدده ضروب التحيز في موقف المفسر.
لذا فإن “الكفاية التجريبية” التي وصفها “جادامر”(٣) مشيراً إلى فض مثل هذا التوتر الجدلي بين الكشف عن شيء ما، وبين تأكيد ماهو معروف سلفاً عن طريق الحوار التعددي (المناقشة المجتمعية الموسعة)، التي تشجع على إحداث تغيير للتقاليد من خلال النقد الذي هو عملية تنتمي إلى العقلانية لا إلى المجتمعات التي يتولون فحصها، مما يحقق إدراك معني الحياة الإنسانية، والمسرح ليس إلا حدث يعتمد على الحضور الفعلي للجمهور، ويصنع علاقة بين العرض والجمهور. تشكل المجال النقاشي والحجاجي العقلاني، وقد تكون هذه العلاقة في شكل إستجابة عاطفية، تشكل المعني بين مرجعية المشاهد الخاصة، ومرجعية العمل. وهنا يثار السؤال هل ما يقدم في شارعنا العربي من أشكال فرجوية يتسق ومفهوم المصطلح؟
– ينبغي علينا أولاً أن نقسم الأشكال الفرجوية التي تقدم في الفضاء المادي الطارئ العربي إلى ثلاثة أقسام: ـ
١- عرض مسرحي جاهز: وهو العرض المسرحي الذي كان يعرض في فضاء تقليدي، ثم تم نقله بذات الكيفية، ليقدم في الفضاءات المادية الطارئة، التي ليست وظيفتها الأصلية استقبال العرض المسرحي، محاكياً الفضاء التقليدي والعلبة الإيطالية في منظوره الأحادي عبر فتحة البروسينيوم، ووضعية المتلقي في المشاهد.
٢ـ عروض تخرج بنصوص جاهزة، لكنها تطوعها طبقاً لما توحي به مفردات المكان الجديد…” وهي درجة متقدمة من المسرحة يبذل فيها المخرج جهداً في التقريب بين النص والمكان، الذي يقدم فيه نوع من المآلفة بينهما، وحتى لا يبدو النص والمكان كلاهما غريب عن الآخر…
٣ـ عروض تخرج بنصوص مكتوبة خصيصاً للمكان، وتستوحي موضوعاتها من المكان ذاته.
وبالتالي فإن كل قسم من الأقسام الثلاثة السالفة يستهدف جمهوراً من المتلقيين يختلف ويصنف حسب الخصوصية، التي فرضتها طبيعة المكان على شكل العرض، والعملية الاتصالية مع المتلقي المتواجد في فضاء الطارئ، والتي لا يمكنها خلق مجال حجاجي ونقاشي مع هذا المتلقي، إلا إن كانت هذه العروض خرجت بنصوص مكتوبة خصيصاً للمكان، وتستوحي موضوعاتها من الدراسات الديموجرافية، والسيسيولوجية، والسيكلوجية للمتلقي المستهدف لذات المكان، بأن تطرح قضيته اليومية عن طريق “الاشتباك الديالكتيكي” الذي هو خلق للحالة الجدلية التي تزج بالمتلقي حوارياً أو فكرياً للنقاش، والمحاجة مع رسائل العرض خالقة بذلك الفضاء العمومي الذي يفعل الوظيفة النقدية، ومن ثم تشكل الرأي العام غير الرسمي، وهذا ما لا يتسق والوجود العياني لعروض مسرح الشارع في عالمنا العربي، إذ باتت أغلبها تنقل العرض المسرحي بذات الكيفية التي يقدم بها داخل قاعات العرض المسرحي إلى الفضاء المادي الطارئ، دون مراعاة لطبائعه الجغرافية، والمعمارية، والإنفلاتية.
التلقي النقدي لمفهوم مصطلح مسرح أن الشارع في وطننا العربي يعاني عدم الاتساق بين المفهوم اللفظي والكتابي للناقد المتلقي، وبين الوجود العياني لعروضه التي تقابلها معوقات كثيرة، أهمها عدم إتاحة الفرصة إلى تشكل فضاء عمومي حجاجي، ونقاشي غير رسمي، يكون رأياً عاماً، فهل يعود ذلك للمتلقي العربي الذي لم يتربَ على طبيعة الفضاء العمومي؟ أم أن السبب يعود إلى أعمال النقل، والترجمة عن الغرب؟ التي ضيعت هيبة المصطلح في النزاعات الشكلية، وأفقدته كل طاقاته الإجرائية، فسقط في تبسيطية دون مراعاة للخصوصية، التي يفرضها هذا الفضاء الطارئ على طبيعتي الأداء والتلقي، فنلحظ دور المتلقي ينحسر فيما جُبل عليه من وضعية المشاهدة الثابتة داخل قاعات العرض، التي لا تسعى إلى تحريره إلى الوضعية الجديدة، التي تسمح بتكوين علاقة جديدة معه، ودون خلق المجال الحجاجي النقاشي معه، أم أننا نحتاج إلى تجاوز الحدود بالتفكير، والتأمل، والوعي الذاتي؟ الذي يجنبنا اتخاذ المواقف الدفاعية ضد النقد، وبذل الجهد لتقبل التغذية الراجعة عن طريق تعلم أشياء جديدة كالتأمل، والتفكير.
إنني أرى أننا بحاجة إلى ترك سترة المنطق، كما أشار فرويد، ولن نتركها إلا بتجاوز الحدود، بأن تنطلق صناعة العرض الشارعي من دراسة الفضاء المادي الطارئ، ومتلقيه، وتحديد القضية اليومية التي تسمح باشتباك هذا المتلقي في حوار أو محادثة أو حتى أن نطلب منه كما فعل أوجيستو بوال بتغيير النهاية أو تعديل المشهد، مع إتاحة الحرية له بالتحرك في فضاء التلقي لاختيار وضعية المشاهدة التي يتمكن من خلالها بالتأمل، من أجل إكسابه الوعي الذاتي، لا من أجل أن نرسخ لوضعية مماثلة لوضعيته، التي جُبل عليها داخل قاعات العرض المسرحي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقد ــ مصــر