سارة عمرو: فيلم Saving Private Ryan.. مشاهد خالدة
سارة عمرو★
لم تكن الحرب العالمية الأولى والثانية وسيلة لدمار البُلدان، ونفوس البشر فقط… بل تجرأت، واقتحمت مجرى الفنون الذي انبثق كالشلال الدامي بعد الحرب…لم تتحمل أي بلد طُوفان هذا الشلال، وغرقت بفنون تُخرج بقايا الحرب في هيئة أعمال فنية، لتُخلدها في التاريخ، وتوثق ما حدث لهؤلاء البشر الذين أصبحوا بقايا بشر من بعد الحرب…لم تكن الفنون الوسيلة الوحيدة لإيصال كل المعاني، والنتائج المُبهمة جراء تلك الحروب…ولكنها أكثر الطرق ثباتاً في ذهن الإنسان…فقد بصم الفن على ثبات تلك الذكرى، التي يحاول تخليدها طوال الوقت…من خلال العديد من الفنون كالمسرح، والفن التشكيلي، والتصوير، والرسم، والكتابة، والسينما التي تعرض مشاهد حية أقرب للواقع.
إنقاذ الجندي ريان…واحد من أعظم أفلام الحروب على مر الزمن…اُنتج عام ١٩٩٨م، وهو فيلم أمريكي من إخراج (ستيفن سبيلبيرج) بطولة (توم هانكس) …. حقق الفيلم 216,5 مليون دولار في أمريكا، وخارجها ٢٦٠ مليون دولار ليُصبح ثالث أعلى إيرادات فيلم في العالم…حصد ذلك الفيلم على العديد من الجوائز العالمية، أهمها الأوسكار في (أفضل مؤثرات صوتية- أفضل صوت-أفضل إخراج)، وعلى جائزة الجولدن جلوب (لأفضل تصوير- أفضل اخراج-أفضل قصة)
تبدأ أحداث الفيلم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تحديداً عند شاطئ نورماندي على سواحل فرنسا أثناء معركة أوماها، والتي تدور بين قوى الحلفاء الأمريكان وجنود الألمان، الذين احتلوا تلك المنطقة يحكي عن قصة إنقاذ أحد الجنود الذي يُدعي (جيمس ريان) باعتباره الابن الوحيد لعائلة فقدت ثلاثة أبناء في الحرب دفعة واحدة…فأمرت القيادات العليا إحدى الكتائب الأمريكية لتبحث عنه، وتبدأ رحلة البحث، مروراً بالعديد من المعارك بينهم وبين الجيش الألماني تنتهي بانتصارهم.
هذا الفيلم مبني على أحداث حقيقية حدثت في الحرب العالمية الثانية على أرض الواقع…ممزوجة بقليل من الخيال من أجل التشويق…فمعركة نورماندي، كانت حقيقية.
الخيط الرئيسي في الفيلم، وهو البحث عن ريان محاكاة للقصة الحقيقية للأخوة نيلاند…هم أربعة إخوة خدموا في الجيش الأمريكي في فترة الحرب العالمية الثانية
في مناطق متفرقة…ثلاثه منهم قُتلوا (روبرت – بريستون- إدوارد) ولم يبقَ سوى فريدريك نيلاند، الذي أمرت القيادات العُليا بسبب ما حدث أن يرجع لأهله، حتى لا تفقد عائلة نيلاند كل أبنائها…لكن فيما بعد، تم العثور على إدوارد حيث كان هارباً من أحد معسكرات اليابان في بورما، وأصبح لتلك العائلة ناجيان اثنان.
يبدأ الفيلم بزيارة رجل عجوز لمقابر نورماندي في أمريكا…يسقط العجوز على قدميه، وهو يذرف الدموع على إحدى المقابر، ثم يتحول المشهد للسواحل الفرنسية المُحتلة من الألمان، تحديداً على شاطئ نورماندي، لتظهر لنا أحداث واقعة شاطئ أوماها، أو ما يُعرف بالعملية D-Day في السادس من يونيو ١٩٤٤م… شاطئ أوماها هو اسم مُشفر، وهو أحد نقاط الإنزال الخمس، التي حددتها دول الحلفاء…وكان من نصيب أمريكا منطقة أوماها، وأوتاها…فبرغم استعداد القوات الأمريكية، و تسليحها في ذلك الوقت، ورغم انتصارها في النهاية على الجيش الألماني، إلا أنها تكبدت خسائر فادحة، و خسرت ما يفوق الألفي جُندي، فسُميت بمجزرة أوماها…وذلك يرجع لإنزال الجيش الألماني قواته البرية نحو الشاطئ، ففقدت القوات الأمريكية عنصر المُفاجأة…كانت تلك المعركة الجسيمة الافتتاحية، التي فتح عليها الجنود السابقون الذين شاركوا في الحرب أعينهم عليه في صالة العرض…كان هذا المشهد يصف التاريخ بشكل دقيق، وما حدث بالظبط كان واقعياً للغاية، مما جعل هؤلاء الجنود يشعرون بالضيق، والتأثر فَهَمُّوا مُنسحبين من صالة العرض…يقول واحد من الجنود السابقين للصحافة: “شعرت بضيق في صدري…ولم أستطع التنفس…ذرفت الكثير من الدموع…شعرت أنني هناك مرة أخرى.
من الواضح أن الحرب ظلت ذكرى مؤلمة لديهم، لم ولن يستطيعوا تخطيها ابداً.
يُبرز الفيلم العديد من المشاهد التي تحمل العديد من المعاني…برغم مناقشته لقضية كبيرة ومهمة، وهي قضية الحرب، وأثر وتأثُّر الإنسان بها…فبتسلسل المشاهد وتصرفات الجنود، يمكننا أن نُخمن على أي هيئة كونت الحرب الجنود.
فعلي سبيل المثال بعد معركة أوماها التي انتهت بانتصار الجنود الأمريكان وقف الجنود الناجون يتأملون المنظر، ووصفه أحدهم بأنه “مشهد مروع”، وكأنها لوحة سريالية عبثية مؤلمة خلفتها الحرب، لتُخلد في ذكرى هؤلاء الجنود للأبد، وكأنها لعنة يظهر أثناء المعركة مشهد بكاء لأحد الجنود، بعدما ضحك بشدة دليلاً على ضعفه الداخلي وخوفه الشديد، فهو يحاول أن يتظاهر بالقوة، لكنه قد سئم من تلك الحروب، ولم تعد عيناه قادرتين على رؤية المزيد من الدماء والأشلاء، هناك مشهد آخر أثناء تبادل إطلاق النار، يظهر أحد الجنود وهو يحاول أن يلتقط فاكهة صالحة للأكل من على الأرض، مشهد آخر يستمعون فيه إلى الموسيقى منتظرين مجيء الجنود الألمان بدباباتهم، كل تلك التصرفات هي نتائج خارجة من اللاوعي الخاص بهؤلاء الجنود فعقلهم قد اعتاد الحرب، وأصبحت شيئاً مألوفاً بالنسبة لهم، وذلك جعلهم مُتبلدي المشاعر بشكل جزئي، فيمارسون ما تُمليه عليهم فطرتهم البشرية، وكأنه شيء عادي في ظل تلك الظروف في حين أن تصرفاتهم تلك، ليست بشيء طبيعي، بل هي أثار الحرب عليهم، التي تُجرد الإنسان من المشاعر، والإحساس جرَّاء الأهوال، والبشاعة، التي يراها كل دقيقة في ساحة المعركة علي سبيل المثال يوجد مشهد يتجمع فيه الجنود الأمريكان والألمان وجهاً لوجه، لا تفصلهم سوى انشات صغيرة يصرخون ببعضهم البعض، حاملين السلاح ولم يُرد أحد منهم أن يُطلق النار أولاً، دليل على رغبتهم الداخلي في إيقاف الحرب، وكأنهم يرفضون المزيد، لكن الظروف تُحتم عليهم اتخاذ خطوة واضحة، إما ذلك أو يموتون، فبادر الجنود الأمريكان بضربهم أولاً.
من ضمن المشاهد العبثية التي ظهرت في الفيلم مشهد تخلي الأهل عن طفلتهم للجنود الأمريكان خوفاً عليها من الحرب…ذلك المشهد يظهر مدى العبثية، التي دبت في نفوس البشر جرَّاء الحروب…فالدمار يُحاوطهم من كل جانب خارجياً وداخلياً…فيعجزون عن التصرف، و يبدأون في اتخاذ أي خطوة، يظنون أنها منقذة، كمن يتشبث في خيط رفيع على وشك أن ينقطع….لم يسلم من الحرب الصغير كما الكبير…فالطفلة عندما عادت لأهلها، ظلت تضرب والدها، وهي تبكي بخوف شديد، على تخليه عنها….بالتأكيد طفلة كتلك على أرض الواقع، لن تمحو بعض الألعاب والذكريات الجميلة ذلك الجحيم، الذي طالها من الداخل قبل الخارج.
ليس الجنود جُبناء…بغض النظر عن بشاعة البلد من عدمها، فمعظم الجنود يُدافعون عن وطنهم و بلادهم حتى الموت، قد يكون انتماؤهم مبالغ فيه، لكنه أمر مُسلمٌ به في الحرب…حتى لا يكون خائناً أو جباناً…في هذا الفيلم تم إظهار صورة الآخر أي العدو الألماني على أنه جبان، ومُتخاذل، يمكنه أن يبيع بلده من أجل العيش…وظهر ذلك في مشهد جندي الماني يُدعي (ستيمبوت ويلي) استسلم عندما حاصرته كتيبه الكابتن ميلر…وأخذ يغني أغاني أمريكية، ويذم في هتلر، ويقول إنه يحب الأمريكان فقط ليتركوه على قيد الحياة…بسبب حقوق الإنسان لم يكن أخلاقياً أن يقتلوا جندياً مُستسلماً، فهو يُعتبر أسير حرب…لذلك تركه القائد ميلر يذهب، ويسلم نفسه لأول كتيبة حلفاء…وعاد ذلك الجندي في النهاية، وأخذ يقتلهم واحداً تلو الآخر حتى قضى عليه أوفام، وهو رسام ومترجم خرائط، لم يُطلق طلقة واحدة، منذ بداية الحرب لخوفه الشديد….رُبما كان هناك جنود مثل هذا الجندي بالفعل، لكن يصعب على المتفرج تمييز ما إذا كان هذا مُجرد مبالغة وانحيازية، أم هي كراهية للجانب الأمريكي، أو لا، فكما ذُكر سابقاً، الجنود يدافعون عن وطنهم بحياتهم.
هناك العديد من المعلومات التي يجهلها المتفرج حول ذلك الفيلم، قد تزيد دهشته أكثر…فمثلاً صوت إطلاق النار في الفيلم، هو صوت حقيقي تم تسجيل صوت إطلاق النار الحي في الحرب العالمية الثانية، واستخدامه كمؤثرات.
شارك في الفيلم ما يقارب الثلاثون شخصاً مبتورو الأطراف، ليُحاكوا الجثث التي انفجرت أطرافها في الحرب.
كان المجندون السابقون يشكون من خيالية مشهد إطلاق الجنود للقذائف يدوياً لنتفاجأ بالجندي (تشارليز كيرلي) الذي حصل على وسام الشرف لفعله ذلك في إحدى معارك إيطاليا عام ١٩٤٣م.
كان هناك من ضمن الجنود الألمان اُناس يصرخون قائلين: “نحن نتحدث التشيكية، نحن لسنا الماناً، لم نؤذي أحداً”…ويُفسرُ ذلك بأن الجنود الألمان قد أجبروا التشيكيين والبولنديين على الانضمام للجيش الألماني بعدما أخذوا أراضيهم.
لم تحدث معركة راميل ــ تلك المعركة الأخيرة في الفيلم ــ على أرض الواقع، بل هي خيالية، ومُفتعلة…حيث إنها كانت إلهاماً من هجمة مضادة ألمانية على جسر لاڤيري.
أخيراً … الفيلم مُلهم بطريقة، أو بأخرى من خطاب إبراهيم لينكون الذي كتبه لإحدى السيدات التي كان لديها خمسة أولاد ماتوا في الحرب الأمريكية الأهلية قديماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ كاتبة ــ مصــر