إذاعة وتليفزيون

بسمة أحمد: “ولاد الشمس ” ..دراما تُضيء زوايا معتمة في حياة الفئة الهشة.

بسمة أحمد★

في كثير من الأعمال الدرامية، يتم تناول الأيتام، إما كضحايا مستسلمين للواقع، أو كمتمردين خارجين عن السيطرة، لكن “ولاد الشمس” اِختار طريقاً مختلفاً، مُقدِّماً شخصيات لا تبحث عن الشفقة، بل عن مكان تنتمي إليه وسط عالم لا يرحم.
المسلسل لم يكتفِ بعرض معاناتهم من الاستغلال، أو نظرة المجتمع لهم ، بل سلَّطَ الضوء على صراعهم الداخلي بين الاستسلام لواقعهم القاسي أو التمرد عليه، وبين حاجتهم للحماية وسعيهم للاستقلال.
فكيف نجح المسلسل في تقديم هذه الفئة بواقعية؟ وكيف وازن الحوار في المسلسل بين الواقعية والرمزية ؟
مع بداية موسم رمضان 2025، اِستطاع مسلسل “ولاد الشمس” من إخراج (شادي عبد السلام) وتأليف (مهاب طارق) أن يلفت الأنظار بطرحه الجريء لقضية اجتماعية، قلَّما يتم تناولها في الدراما المصرية ، وهي واقع الأطفال مجهولي النسب، وتعرضهم للاستغلال من قِبَلِ دور الأيتام.
تدور أحداث المسلسل حول “ولعة” و”مفتاح” شابين ترَبَّيَا في دار أيتام تدعى “الشمس”، عانوا من استغلال سلطة مالك الدار “ماجد” أو كما ينادونه أطفال الدار”بابا ماجد” ولكن فعلياً هو لا يمت للأبوه بِصِلَة ، فيستغل” ماجد” الأطفال في تعبئة وتجهيز وتوصيل المواد المخدرة، حتى يشتد عودهم؛ ليدخلهم في باقي أعماله المشبوهة، كما حدث مع “ولعة “و”مفتاح” و”قطايف” و”ألمظ”، لكن يقف الشباب ضد هذا الظلم والاستغلال، ويتمردون على “ماجد” في محاولات منهم للاستيلاء على الدار، وانتشال الأطفال من هذه الأعمال المشبوهة، وتوفير حياة أفضل لهم؛ حتى لا يكونوا ضحايا لهذا القمع مثلهم.
يضعنا المسلسل منذ بدايته بسبب اسم دارالأيتام، التي تدورحولها، وحول أبطالها الأحداث، في تناقض بين الاسم والواقع ( دار الشمس ) فالشمس ترمز للحرية والحياة والأمل، بينما الدار ليست مكاناً للتحرر، بل للتحكم والسيطرة؛ حيث يفرض على المقيمين فيها واقع معين لا يستطيعون بسهولة الهروب منه، وهي تمثل نموذجاً مصغراً للعالم الخارجي ، وهذا ما نراه في بداية الحلقة الأولى بإنه يفرض على الأطفال نفس قَصَّة الشعر، ونفس الطعام؛ حتى نفس الاهتمامات، فليس لهم الحرية في الاختيار، وحتى لايوجد خيارات من الأساس ، إلا في أحلامهم، فعلى الرغم من أن جميعهم يحلمون بالحرية والأُسرة، إلا أن لكل منهم حلماً مختلفاً .
ويَرُدُّ اسم المسلسل على هذا التناقض، وعلى سؤال الأطفال المستمر ( اِحنا ولاد مين ؟) بإنهم (أولاد الشمس)، فيشير الاسم بانهم رغم معاناتهم، يُمثلون الأمل، وكما تشرق الشمس كل اليوم، فإنهم قادرون على إعادة بناء حياتهم، رغم كل ما واجهوه من قهر واستغلال .

في ” ولاد الشمس” لا يتم تقديم الشخصيات بوصفها مجرد أيتام يبحثون عن الحرية، ومكان للحياة ، بل كأفراد يحملون صراعات داخليه معقدة .
“ولعة” (أحمد مالك) كما يرمز اسمه فهو كالشعلة الملتهبة ، فولعة هو دائم التهور، مندفع، يفكر بيده قبل عقله ، كان يحلم بأن يصبح بطل ملاكمة، ولكن منعه “ماجد” من تحقيق حلمه، وسلب منه حلمه الآخر، وهي أمه عندما أخبرها “ماجد” بأنه مات، وكبر “ولعة” وهو في يده صورتها ويسأل كل من يراه عنها، هذا ما يوضح مدى احتياجه للأسرة، وعدم تخليه عن هذا الاحتياج ، هوعلاقته بـ”سحر” التي تكبره سناً ، فهو يبحث عن شعور الأمومة معها، وحتى بعدما تَوَصَّل لأمه لم يتخلَ عنها، فـ “سحر” (فرح يوسف) كما يرمز اسمها إلى السحر والجمال، فبرغم كل المعاناة، التي مَرَّ بها “ولعة” فهي لم تتخلَّ عنه، وعن حبها له، فسحرها هنا يكمن في حمايتها وأمومتها، التي لاتستطيع أن تضر طفلها.
أما “مفتاح” (طه الدسوقي) فهو يرمز للحل، ومفتاح التغيير والتحرر، فدعونا نتساءل ماذا كان سيحدث إن لم يمت “مفتاح” في نهاية المسلسل ؟ كان سيظل “ولعة” بتهوره الذي سيؤدي به إلى قتل “ماجد” ، وبالتالي ستذهب ملكيه الدار منه إلى سلطة أخرى مستبدة، وكانت ستكون كل محاولاتهم لحماية الاطفال ذهبت هباءً ، وهذا ما لا يريده كل من “مفتاح” و “ولعة” وكل محاولات “مفتاح” في التجمع مع الأطفال فشلت ، فمنذ البداية و”مفتاح” يعلم حقيقة الأمر عندما رأى الملف، الذي أخذوه من شريك “ماجد” لكنه كان ينتظر الوقت المناسب، والذي لم يحن إلا بعدما مات .
فكانت توليفة كل من “مفتاح” و”ولعة” متناغمة رغم تضادّها، الذي عبَّر عنه المخرج بزاوية تصوير تسمى بعين الطائر- تظهر المشهد من الأعلى، وكان الطائر ينظر من السماء – فنرى كل منهما مستلقٍ في اتجاه معاكس، واختيار درجات ألوان الملابس، تدعم هذا الاختلاف فـ” ولعة ” يرتدي لوناً دافئاً (بني يميل إلى الاحمر) وهو ما يتناسب مع شخصيته المتأهبة والمندفعة بتهور، بينما “مفتاح” يرتدي لوناً بارداً (رمادي يميل إلى الأزرق) وهو ما يعبِّر عن هدوئه وعقلانيته ، هو ما يبرز هذا التضادّ في شخصيتيهما ولكن كل منهما ينظر اتجاهاً واحداً وهو اتجاه الأمل والخلاص، ويجمعهم سرير واحد يرمز للراحة والأمان، و ما يبرز قوة علاقتهما رغم اختلاف طريقة كل منهما للوصول لهدفه، فعلى عكس “ولعة” فـ “مفتاح” يفكر بعقله أولاً، فمنذ البداية يظهر بأنه يعلم الكثير منذ الحلقة الأولى عندما سأله “ولعة” ( انت مخبي حاجة عليا يا صاحبي؟) فكان “مفتاح” يسعى بعقلانيته وهدوئه للهروب مع الأطفال من الدار، ولكن فشلت خطته بسبب “سعاد” .

“سعاد” (جلا هشام) هي الفتاة، التي كان يبحث معها عن الأسرة لكن خذلته، “سعاد” فاسمها يوحي بالمساعدة، وهذا ما حدث مع كل من “ماجد” والأحداث فقط ، فـ”سعاد” هي شخصية مستغلة كانت تستغل حب “مفتاح” لها ، فهي ساعدت “ماجد” في نقل أخبار ونوايا “مفتاح” وساعدته في عمل فجوة بين “مفتاح وولعة” فبمساعداتها هذه ساعدت في دفع الأحداث للأمام بتسببها في فشل خطة “مفتاح” بالهروب من الدار إلى الشقة، التي جهزها لهم، فقد اختار المخرج أن يُعَبِّر عن هذه الحالة بلقطة واسعة، فيظهرلنا التكوين في هذا الكادر، الذي يعكس الصراع الذي يعيشه كل من “مفتاح” و”ولعة” و”قطايف” حيث ظهرت ثلاثة شبابيك مغلقة خلفهم، وكأنها تمثل الطرق المختلفة، التي يسعى كل منهم للحرية والخلاص، كل شخصية منهم تحاول حماية الأطفال وإنقاذهم، لكن الشبابيك المغلقة، تعكس الحقيقة القاسية، لا يوجد طريق مفتوح للخروج في هذه اللحظة فيرينا ان هذا مجرد انتصار كاذب، وهذا ما نراه بعدها عندما جاء “ماجد”، وأخد الأطفال والمال.

كما خذله أبواه بالتبني عندما أخذاه من الدار، وهو في عمر الست سنوات ، فأذاقوه طعم الحرية والحب ودفء الأسرة ، وبعدها بثلاث سنوات أعادوه مرة أخرى للدار بعدما رزقهم الله بطفل ، وتركوا له خاتماً بمثابة وعد بعودتهم ، وعد بالحرية ، ولكن ذهب “مفتاح” لهم، وأعاد لهم الخاتم ، وكأنه تخلّى عن الأمل، الذي لطالما كان يحلم به .
“قطايف”(معتزهشام) و”ألمظ”(فليكس) هو الثنائي الذي لا تختلف طرقهما كما قال “ولعة” في أول حلقة، ولكننا نرى أن كلاً منهما سلك طريقاً بعيداً عن الآخر .
فـ ” ألمظ” اسمه يرمز إلى الألماظ ، أو الألماس المعروف بقوته وندرته هي الشيء، الذي امتلكه “ألمظ” عن كل من في الدار، وهي الشجاعة في الخروج، ومواجهة الواقع والناس، وشجاعته في العودة لإخوته مرة أخرى، بعدما واجه قسوة الحياة .
أما “قطايف” فاسمه على اسم حلوى رمضانية غنية عن التعريف ، فهي عبارة عن عجين طري، يوضع بداخله حشو ويغلق عليه، فهذا هو “قطايف” فهو المثقف الذي قرأ الستة والثلاثين كتاباً الموجودة في الدار، وكان حلمه بان يفتح مكتبة ، فبعدما تحرر من قبضة “ماجد” قامت الصحفية “تهاني” (مريم الجندي) واسمها يرمز للفوز، وهي كذلك فائزة بتحقيق مرادها، وسجن “ماجد” ، لكنها هي الأخرى شخصية مستغلة ، اِستغلت حب كل من قطايف ومفتاح لها لتحقيق مرادها، فمن أجلها سرق “قطايف” الملف، الذي سيؤدي بـ”ماجد” للسجن ، ووضع هذا السر بداخله بعيداً عن إخوته “مفتاح وولعة وألمظ “وأغلق عليه، ولم يُعَرِّفْ أياً منهم، حيث عرفوا بعد أن سممه “ماجد” ومات.
اِستخدم المخرج (شادي عبد السلام) الإضاءة كعنصر بصري يعكس التحولات الدرامية في المسلسل، أثناء دفن قطايف، كانت الإضاءة باهتة، وكأن الشمس محجوبة، مما عكس الحزن والضياع، الذي خَلّفه رحيله، وكأن الأمل بدأ في الانحدار، وتدعم الموسيقى بغناء الأطفال أغنية ” إذا الشمس غرقت في بحر الغمام مدت على الدنيا موجة ظلام” وهي واحدة من أشهر أغنيات الشيخ إمام عيسى .

عندما مات “مفتاح”، تحوّلت الإضاءة إلى درجات الأزرق البارد، وهو ما يضعنا في تساؤل ، هل غابت الشمس، وسيحل الظلام في إشارة إلى نهاية الأمل، وانطفاء آخر شعلة للتمرد؟ أم هذا نهاية الليل، وبداية شروق الشمس في إشارة إلى الخلاص الوشيك؟
هذا التدرج في الإضاءة يعكس بمهارة كيف تحوّل الظلام الرمزي، من مجرد شعوربالفقد إلى فضول لمعرفة الواقع، الذي ستعيش فيه الشخصيات.

يأتي النصيب الأكبر في السيطرة على الأحداث هو “ماجد” الذي قام بدوره الفنان(محمود حميدة) وهو ما أحكم صنع العمل بمهارته، وقدرته على إقناع المشاهدين .
فكان اختيار اسم هذه الشخصية هو وصف مباشر لشخصيتها فاسم “ماجد” يرمزإلى المجد والعظمة والعلو في الشأن والمكانة ، “ماجد” ليس مجرد مدير لدار أيتام ، بل هو شخصية تحمل طبقات متعددة من التعقيد النفسي والسلطوي، “فظاهرياً” هو يحاول أن يثبت للآخرين أنه على درجة عالية من الرقي والحداثة عند استخدمه موسيقى (مصطفى رزق) أولهم (شفطة بن)، تليها عندما حبس “تهاني” (ياللي ماشية على الطريق) ، والأخيرة وهو يطلب من “سعاد” نقل أخبار “مفتاح ” كانت (باب اللوق) ، ولكن باطنياً نرى التناقض بين شخصيته المسيطرة ، المتلاعبة ، التي تمثل النظام القمعي، الذي يستغل الفئات الهشة ، عكس الروح الحرة التي تمثلها موسيقى رزق، والتي تجعلنا نرى نوعاً من التهكم ، أو السخرية غير المباشرة منه .
نرى مدى تحكم وفرض سيطرة “ماجد” من خلال علاقته بـ “عبيد”(مينا أبو الدهب) هو رجل من قصار القامة كان يعمل في السيرك ، فأخذه “ماجد” ليعمل كمساعد له في الدار، فكان ماجد يرى نقاط الضعف في كل من حوله، ويتعامل معها باسلوبه الخاص .
فكان “عبيد” يفتقد للتقدير والاحترام خارج الدار، وهو ما أظهره له ماجد في وقت احتياجه له، وهو ماجعله ضعيف الشخصية أمام ماجد، وجعله طرفاً ضد حرية الأطفال بسبب خوفه مما يمكن أن يتعرَّض له خارج الدار من جديد، فأصبح بكل بساطة اسمه رمزاً لشخصيته “عبيد” فهو أسير لسيطرة ماجد ، وقد عبَّر عنه المخرج من خلال لقطة متوسطة قريبة؛ ليرينا أن المسجون هو “عبيد”، وليس “ماجداً”.

صوَّر المخرج بزاويتي تصوير؛ ليرينا الفرق في نظرة كل منهم للأخر، فالأولى استخدم المخرج زاويه علوية ليظهر بها نظرة “ماجد” لـ”عبيد” أثناء تقدمه بطلب يد أمينة للزواج وللأطفال الدونية لهم، وعلى العكس نرى بعدها نظرة “عبيد” له بزاوية تصوير منخفضة؛ لنرى مكانة “ماجد” الكبيرة عند “عبيد”.

منديل البدلة الخاص بـ”ماجد” لم يكن مجرد اكسسوار ، بل كان رمزاً بصرياً يعكس السلطة والهيمنة ، والذي مَرَّ بعدة مراحل بداية من نسيان “عبيد” وضعه في البدلة، مروراً باخذ ” ولعة” هذا المنديل عندما علم بأن “عبيد” قررالانتحار بسبب معاقبة “ماجد” له بسبب نسيانه هذا، وعندما تدخَّل “مفتاح” وأقنع “ولعة” بإعادة المنديل له كانت بمثابة عودة مكانته له ، ولكن عندما أخلف الاتفاق مع “مفتاح” وأنزل الأطفال للعمل في المخدرات مرة أخرى حرق “مفتاح المنديل، وكأن هذه شعلة التمرد على سلطته المستبدة، التي كان لطالما “ماجد” يحاول إغواء “مفتاح ” للانصياع تحتها، والذي عبَّر عنها الحوار بإعطائه التفاحة ليغويه كما أغوى الشيطان آدم.
“يقتل القتيل ويمشي في جنازته ” وضعنا الفنان (محمود حميدة) في حيرة من مشاعرنا تجاهه بسبب أدائه، الذي جعلنا نصدق شعوره بأنه إنسان ذو شعور وإحساس، رغم ما فعله مع الأطفال عند ما حاول “عبيد” الانتحار ، وتأثره الشديد عندما تسمم “قطايف ” ومات ، رغم تأكدنا بأنه القاتل.

لم يركز المسلسل فقط على الأطفال الأيتام ، بل لفت الأنظار للفئات الهشة مثل “عبيد” ومثل الطفل، الذي أدخله “مفتاح ” الدار وهو ليس يتيماً قانونياً؛ لأن والده حي يتركه يبيع في الشارع؛ ليأكل، فهو على أرض الواقع يتيم، وأخيراً بجانب انبهار المشاهدين بسبب تقديم (طه الدسوقي وأحمد مالك ) شخصياتهما باحترافية بتقديمهم أدواراً مختلفة ونجاحهم فيها بشكل لامع، فكان الفنان (محمود حميدة) بمثابة جذع الشجرة، الذي يجمع أغصانها ، لينتج لنا عملاً درامياً فريداً ومؤثراً، يلفت أنظارنا إلى الحقيقة، التي لا تراها نظرتنا السطحية للأمور ، فالمسلسل” ولاد الشمس “مُعبِّر بصورة أعمق من مجرد عرض الفكرة بصورة عابرة ، فهوعمل مميز يستحق المشاهدة.


★ناقدة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى