جواد عامر: العقل العربي والمعرفة.


جواد عامر ★
لا يمكن لأي أحد في أي مجتمع بشري أن يُنْكِر دورَ المعرفةِ بشتى أنواعها علمية كانت أو أدبية أوفـكرية أو فنية أو تراثية .. في بناء الحضارة وصناعة المستقبل ، فمنذ فجر التاريخ والإنسان يتطلع عبر الملاحظة الدائبة تدفَعُه روح الاستكشاف إلى سَبْرأغْوار الوجودِ ومعرفة أسرار الكون والحياة والطبيعة وفهم العناصر المُشَكِّلة لها وكيفية انتظامِها وتأليفِها وإدراكِ خواصِّها وفهْم الجُزئِيَّات التي تشكلها وغيرِ ذلك من دقائقِ المعْرفةِ التي أخذَت في التطور عبر العصور مستفيدة من التراكمات المعرفيَّة التي أنتجتها العبقريَّاتُ الإنسانية التي كمَّل بعضُها بعضًا وِفْقًا ـ بالطَّبع ـ لخصوصِيَّات الحضارة التي عاشت فيها ، إذ كان لكل حضارة نصيب وافر من الإسهامات المعرفية التي ترجمت خصوصيات هاته الحضارات ومنحتها طابعها المتميز، ففي تربة اليونان نمت شجرة الفلسفة والمنطق والمسرح مثلًا ، وفي البيئة العربية كان الشعر ديوانًا ضاربًا أوتاده وباتت الخطابة غارسة جذورها هناك لتأتي المعرفة اللغوية عبر الدرس النحوي والمعجمي والصرفي والصوتي والعروضي والبلاغي مستلهمة من التفكير الفلسفي مقوماتها ومن المنطق والمعرفة العلمية الرياضية تحديدًا دعاماتها في إرساء التفكير اللغوي ، أما المعرفة العلمية التي بنت النظريات الممهدة لتطوير العلوم ، فقد كان لها شأن آخر في رقي الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها معرفة منفتحة على الكون والحياة بخلاف المعرفة اللغوية المتسمة بطابع الانغلاق النسبي على الثقافة العربية وإن كان لبعض المستعربين ممن انسجموا مع حضارتنا بعد الفتح الإسلامي الكبير أقصد الشعوبيين تحديدًا من أبناء فارس دون أن ننسى الروم والزنوج وغيرهم دور في تقدم هاته المعرفة ، ذلك أن المعرفة العلمية تتسم بطابع الامتداد والقدرة على الانفتاح بشكل أوسع لتعانق الوجود الإنساني بكل تمفصلاته ، ولا يعني كلامنا التقليل من شأن المعرفة اللغوية مطلقًا فقد كانت هاته الأخيرة اللبنة الأساسية التي رفعت المعرفة العلمية ومكنتها من الرقي باعتبارها أداة من أدوات الاشتغال ، فقد كان كثير من علماء المسلمين لغويين ويجيدون لغة العلوم فالبيروني(362هـ 440 هـ ) عالم الجغرافيا والفلك والجيولوجيا والرياضيات .. كان لغويا وكان بن سينا (370 هـ ـ 427 هـ ) شاعرا وله قصيدة معروفة في النفس وقصائد جمعت في ديوان خاص ، وكتب في العلوم الآلية التي تشتمل على كتب المنطق وما يلحق بها من كتب الشعر .. وغيرهما من العلماء ممن كان لهم باع ليس باليسير في المجال اللغوي ..، لكن مقصدنا محمول على الدور الفاعل للمعرفة العلمية في تطور الإنسانية كلها أما المعرفة اللغوية بشتى صنوفها فهي تظل رهينة الثقافة التي نشأت فيها وامتداداتها إلى ثقافات أخرى مغايرة تظل محصورة في الجوانب الأكاديمية مُحْتَضَنَة ً في كنف المعرفة العالمة لا غير ، ..
لقد كانت ترجمة كتب اليونان مفتاحًا فَكَّ مغاليقَ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية، فأوقدت منها مصباحها الوهاج الذي أنار الطريق للعقل الغربي ، الذي تلقَّفَ الهدية العربية على طبقٍ من ذَهَبٍ زيَّنَه ُالمنهج العلمي وطرائقُ البحث الدقيق ، ولم يتوانَ لحظة في الأخذ بما صنعته العبقربات العربية الرائدة ، التي عبَّدتِ الطريقَ أمام العقلِ الغربي للانطلاق قُدمًا نحو صناعة الحضارة المتقدمة اليوم ، في الوقت الذي تراجع فيه العقل العربي لأسباب سياسية وتاريخية عميقة ، كان لها أبلغ الأثر في فقدان حضارتنا لبريقها المعرفي ، الذي ظل مجرد سطور في صفحات التاريخ ننْدُبُه وننُوحُ عليه كلَّما ذكَرْناه ، لذلك فالعقل العربيُّ يُلامُ اليَوم ـ أكثرَ منْ أيِّ وقتٍ مضى ـ لأنَّه لم يسْتثمرِالموارد المتاحة في صناعةِ المعْرفةِ وتداركِ الفراغ التَّاريخيِّ المُهْولِ الذي يفْصِلهُ عن العقلِ الغربيِّ ،فظلَّ بذلك يتلقَّفُ ما تجودُ به قرائحُ ومُنجَزاتُ الحَضارةِ الغربيَّة يستهلكها ، دون أن يمتَلكَ القُدرَة ولا حتى مُقَوِّماتِها من أجل الإنتاجِ والإبداعِ ، ..
لا نريد من كلامنا هذا أن يُؤْخَذ على محْمَلِ التنقيصِ وتبْخِيسِ الحقِّ ، فالعبقريَّة ُالعربيَّة كائنةٌ ولا يُمكِن لأيٍّ كان أن يُنْكِرَ ذلك ، لكنَّ حُضورَها يَظلُّ باهِتا وضَئيلًا بسبب عدم الاعتناءِ بصناعَةِ العقلِ العربيِّ وغيابِ التربةِ الخِصْبةِ ، التي تستطيعُ فيها هاته العبقريَّاتُ أنْ تزرعَ فيها بذورَ الإبداع ، لذلك لا نستغرب إذا ما وجدنا بعض المبدعين في المجال الأدبي، قد رفضتهم بلدانهم وتلقفتهم بلدان عربية أو غربية أخرى أو علماءَ كبارًا احتضنتهم بلدان الغرب، فاتحة لهم ذراعيها ليسهموا إسهاما لا حدَّ له في بناءِ حضارتِها وتقَدم علومِها ، ولعلَّ ما زاد الطينَ بَلَّة ًفي الوقتِ الراهن الذي جَرَفَتْ فيه العولمةُ كلَّ شيء بموجاتِها الهادِرَة ِحتَّى الهُويَّاتُ الثقافيَّة ُغيرُ المُحَصَّنَة لمْ تسْلمْ منها ، خاصة مع الفراغ الروحيِّ الذي يعاني منه الجيل الحالي الذي شرع ينْهَلُ من منابِع المعرفة ِالجاهزةِ عبر الوسائل الرقميَّة التي باتت متاحة للكل ، الأمر الذي سيجعل من الأجيال الحالية والقادمة نُسَخًا متشابهة ًغيرَ قادرة على التفكير والابتكار والإبداع والاستدلال والمُوازنة والحُكْمِ والاستقراء والتذوق الجماليِّ فيفقدون بذلك القُدرة على الكثير من المهارات العقلية ويُعَطِّلونَ فيهم الملكاتِ الإسْتيطيقيَّة ممَّا سَيؤدي حتْما إلى تعطيلِ الذائقة الجمالية وما سينتج عن ذلك من عدم القدرة على التفكير بالمعنى الوجودي ومنطقة الأشياء وصناعة النص الأدبي الذي يتطلب المقْدِرَة على الإبداع ، لذلك فالعقل العربي سيكون حتما ـ بعد عِقْدين أوثلاثة على الأكثر ـ على موعد للدخول إلى مقبرة التاريخ بشكل رسمي إذا لم يتدارك الأمر قبل فوات الآوان عبر النظر في هذا النوع من المعارف التي يتلقاها الأبناء على مرأى من المثقف ، من المفكر، من المدرس .. من كل من أخَذ بحَظٍّ منَ المعرفَة ، إنَّه ناقوسَ الخطر بدأ يدقُّ أبْواب العقلِ العربيِّ الذي شَرع َيتخَبَّطُ في متاهَة ٍلنْ يَعْرفَ الخروجَ منها مالم يُشَمِّرْ عن ساعِديْه عبْر نشْر الوعْيِ الجَماعيِّ عبر الخطاب الإعلامي والخطاب التربوي ومكونات المجتمع الثقافي المدنِيِّ لتتظافر الجهودُ وتتكتَّلَ القُوى من أجل إعادة العقل العربي إلى رشده ، ليعود قادرًا على الحركة من جديد وبعث دماء التفكير الفلسفي في شرايينه وجعله قادرًا على الخلق والابتكار عبر زرع الروح الإبداعية في قلبه لينبض من جديد بالحياة كما كان في سالف العهود.
★ ناقد ـ المغرب.