مارينا صفوت:” 200 متر” جدار يفصل، وجدار يضم.
مارينا صفوت ★
هل لك أن تتخيَّل أن مجموعة من الأحجار والصخر والطين قادرة على تحطيم آلاف الحيوات !
هل تدرى ماذا فعلتَ أيها الجدارالصامد، وما تسبَّبْتَ فيه من جرائم؟
فيلم “200 متر” هو فيلم روائي من إخراج “أمين نايفة”، و من إنتاج “مي عودة” تم إنتاجه عام “2020” يطرح لنا لمحة من الجرائم المعنوية، التي تسبَّبَتْ فيها القوات الإسرائيلية، مُجسداً ذلك فى عائلة “مصطفى” و”سلوى” وأولادهم تحديداً من خلال ذلك الجدار، الذي بناه الإسرائيليون، المكون من مجموعة أحجار وصخر، لكنه فى النهاية، وسيلة لتشتيت شمل هذه العائلة.
يحكى الفيلم عن عائلة فلسطينية فرَّقها الجدار الإسرائيلي؛ حيث ظل الأب يسكن فى الجانب الفلسطينى، والأم والأبناء فى الجانب الإسرائيلي، وفي أحد الأيام دخل أحد الأبناء إلى المستشفى، وهو في الحقيقة لم يبعد سوى” 200 متر” لكن فى الحقيقة هذا ما يسمى باللغة الدارجة (بالسهل الممتنع) ..نرى أن المسافة صغيرة؛ حيث يستطيع الطرفان أن يروا بعضهم البعض من النافذة الخاصة بهم، لكن يُظهر لنا الفيلم كَمَّ الصعوبات والمخاطر، ليست فقط الجسدية، لكن الألعاب النفسية أيضاً، التي واجهها البطل “مصطفى” للحصول على أبسط حق له فى الاطمئنان على ابنه المريض فعند التعرَّض لموقف ما، يتم فيه سلب أبسط حقوقنا، لا نصمت فى العادة، لكن هنا الوضع يختلف؛ لأنه لا مجال لحق الاعتراض، أو التمرد على هذه الأوضاع من الأساس.
بالنسبة إليّ تَظهر قوة الفيلم فى أن المخرج “أمين نايفة” لم يستخدم التراجيدية المبتذلة، التي تعتمد على المَشاهد البصرية المؤثرة كالحروب، والدماء أو مشاهد العنف لإيصال الثيمة الرئيسية، لكنه بدون استعمال هذا الابتذال صَوَّر لنا العنف الرمزي، ورأينا من خلاله معاناه الشعب الفلسطيني، ومأساته، وبشاعة القوات الإسرائيلية بصورة أكثر تعمقاً وتأثيراً من العنف المادي، وتم توظيف العناصر الفنية؛ لإيصال ذلك المعنى والاحساس بمعاناة الأب للوصول لابنه؛ باستخدام اللقطات الواسعة؛ لإظهار طول الرحلة، ومشقتها، بينما يستخدم الكادرات المتوسطة والقريبة، التي تُوَضِّح تعابير وجه “مصطفى”؛ لنرى مدى التعب، والألم النفسي، والجسدي الذي يتعرَّض له طَوال الرحلة، التي كانت فى الأصل” 200 متر”
ونرى فى الإضاءة أيضاً، تم إضفاء أجواء معينة، مثل المَشاهد، التى يَظهر فيها مع عائلته فى البداية، تكون ذات إضاءات دافئة، والوان ساخنة نوعاً ما؛ مما أعطى إحساساً بألفة العائلة، التي سيفقدها باقي الفيلم؛ حيث نرى فى رحلته مَشاهد ذات إضاءة خافتة؛ لإظهار حالة الضياع، والبؤس، التي وصل لها الأب، وأيضاً على مستوى المونتاج، نرى لقطات طويلة عبر خوضه للرحلة دون قطع كثير؛ ليوحي إحساساً بطول الرحلة، ووطأة هذه الرحلة.
ويُظهر لنا قصصاً موازية كقصص الركاب، الذين معه، مما جعل لدية وسيلة لطرح مواضيع أخرى تتعلق بالهوية والهجرة غير الشرعية، والعنف، وكثرة الإجراءات، والكمائن، فتخيَّل عند الذهاب لجهة حكومية لعمل إجراء روتيني بسيط، مثل إصدار بطاقة هوية مثلاً، كَمْ من الوقت والجهد والطاقة، التي تبذلها للحصول على شيء كهذا، لكن هنا الأمر يختلف، إن “مصطفى” غير مطالب من الأساس ببذل أدنى مجهود للتنتقل فى بلدته بحرية، أو رؤية عائلته وأيضاً هنا ليس بمقابل بعض من الجهد وحسب، لكِنْ كَمُّ الإجراءات والكمائن والوقت والثغرات، التي تعيق ذلك الإجراء البسيط ، تُعد و لا تحصى .
برغم كل هذا تم رسم شخصية “مصطفى” بمنتهى البساطة” فهو أب حنون، وزوج صالح، وحتى أنه فى رحلة السفر كان مُنجداً جيداً لكل من حوله، ويتعامل بحب ورفق مع الركاب، برغم ما يشعر به من خوف وألم … و نرى من أروع مشاهد الفيلم عندما كان يتبادل أضواء الإضاءة مع أولاده، وهم يتبادلونها معه، وكأنها وسيلة اللعب والتواصل بينهم، فهو خلق حياة وأملاً من أبسط الأشياء.
وفي النهاية نرى الفرق بين جدار وجدار، جدار لديه القدرة على ضم عائلة فى أحضانه، وآخر قادر على تفكيكها، فهل للجدار، الذي استطاع أن يقسم ويفرق ويشتت، لديه القدرة أن يجمع و يحتضن فيما بعد ؟
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.