شهد إبراهيم: كيف قَدَّم “الأرتيست” معاناة أهل الفن؟
شهد إبراهيم ★
بين ضحكتها التي صنعت البهجة، وملامحها التي حملت هموم البسطاء، كانت “زينات صدقي” نموذجاً للفنانة المخلصة لفنها؛ حتى آخر رمق، فهناك وجوه لا تُنسى، وأصوات تظل عالقة في الأذهان، وقد جسدت “زينات” التفاني الذي ميَّز رحلتها الفنية، فمن الهدوء والاستقرار إلى الانقلاب المفاجئ، مروراً بالمعاناة، ختاماً بالتكريم من رئيس الجمهورية، تركت وراءها إرثاً فنياً حياً في الذاكرة.
وعندما نرى بوستر عرض (الأرتيست) على مسرح الهناجر بدار الأبرا، قد يخيل لنا للوهلة الأولى أننا سنشاهد عملًا يتناول سيرة “زينات صدقي” الفنية، ولكن بمجرد أن نخطو داخل صالة العرض، تتغير وجهة نظرنا تماماً عند سماع مجموعة من مونولوجات “إسماعيل ياسين”، التي هيأ لنا بها مخرج ومؤلف العرض “محمد زكي” حالة التأمل في معاناة الفنانين في مجتمع بطريكي يجهض طموحاتهم، وأن العرض سيناقش هذه الفكرة.
تدور الأحداث عام 1976، قبل يوم من الاحتفال بعيد الفن الأول، حيث تتلقى “زينات” اتصالاً من رئيس الجمهورية “محمد أنور السادات” يدعوها لحضور الحفل؛ لتكريمها في وقت كانت تُعاني خلاله العديد من الأزمات المالية الشديدة، وتجسد شخصية “زينات” (هايدي عبد الخالق)، التي تتشابه مع زينات صدقي بشكل كبير على مستوى البعد الشكلي الخارجي لها، وكذلك الأبعاد النفسية، التي قدَّمتها بشكل متألق غير مفتعل، كذلك (فاطمة عادل) صاحبة الحضور والتألق، التي جسدت شخصية “خيرية” والتي ظلت موجودة داخل “زينات”، حتى بعد وفاتها، الداعم الأول والأخير لها في مسيرتها الفنية.
اِعتمد المخرج بشكل أساسي طوال العرض على انتقاء لحظات تنفجر منها الأحداث بواسطة تقنية “الفلاش باك”، وكانت أولى الانتقالات، عندما قررت الذهاب للحفل، فيحدث إظلام تام للمسرح مع إضاءة خضراء، تم تسليطها على “زينات” لتعزيز حالة التأمل في ماضيها، وهي تفتح الدولاب الخاص بها، الذي يرمز إلى دولاب ذكرياتها، الموجود في عمق خشبة المسرح؛ ليخلق حالة من المعايشة، مع انبعاث دخان مصحوب بمقطع “سنين ومرت زي الثواني” لأم كلثوم، والذي ساهم كل هذا في تدعيم الحالة الدرامية، وتقنية الرجوع للماضي، فتغيير “زينات” ملابسها للانتقال إلى زوجها صلاح، فتضيء خشبة المسرح.
فكان الدولاب موجه تراكمي في منتصف عمق خشبة المسرح يرمز إلى السنين، التي مرت في حياتها قبل هذا اليوم، وجاء في منتصف عمق خشبة المسرح؛ حيث إنه بمثابة النافذة المسؤولة عن كشف وإظهار الماضي، فنجدها تقوم بتغيير ملابسها بشكل متكرر منه عند الانتقال من مشهد لآخر، فبعد ما خيَّرها زوجها (محمد زكي) “صلاح” بين الفن وبينه واختارت الفن، قامت بتغيير ملابسها مرة أخرى منه، وتقوم برفع الستارة الموجودة يمين خشبة المسرح، والذي يرمز هذا لتعرية جانب آخر من معاناتها النفسية؛ حيث نجد أهلها يُجبرونها على الزواج وهي بعمر الخامسة عشر عاماً، وتدور أحداث هذا المشهد في غرفتها، التي نجد بها برواز به صورة أبيها، والذي يرمز إلى أنه العائق الأكبر في حياتها، وأنه يمارس عليها القمع والإجبار في الزواج من ابن عمها.
لنعود مرة أخرى للحاضر في منزل “زينات”، حيث نجد شخصيتين (السفرجي والخادمة) تم إقحامهما من قِبَل المؤلف ربما لإظهار جانب من الإنسانية في شخصية “زينات” ومعاملتها الطيبة لهم، ومدى قربهم منها؛ حيث نجدهما يلتفان حولها مع ابنة اخيها يطلبون منها الغناء، مصاحب لهم إضاءة زرقاء وخضراء، والجمع بينهما للتأكيد على وجود حالة من الدفء بينهم يعززها اللون الأزرق، وحالة رجوع للماضي، والذكريات يعززها اللون الأخضر، وتبدأ حركتهم تتباطأ مع تباعد صوت غنائهم تدريجياً؛ لنجد “زينات” تُغني، ولكن بداخلها صوت “اُرقصي يا زينات، هزي كويس” لنعود معها لتلك الذكرى عندما سافرت مع خيرية للبنان، وبذلك منح المخرج هذا المشهد بُعداً سينمائياً.
ونجد في حديث “خيرية، وزينات” الخطاب النسائي المسيطر على المشهد؛ حيث الغناء والرقص والقافية، وهمهمات التواصل، فعلى الرغم من أن كلمة “آه” هي لازمة للممثلة، إلا أنها كانت في حديثها معها تصدر بعض الهمهمات الإيجابية، التي توضح الانتباه، وعادة ما تبديها النساء وقت التحدُّث، ونجد هنا “خيرية” تقف في مقدمة خشبة المسرح “الأفانسيه” بقوة، وتقوم “خيرية” بتشخيص ولعب مجموعة من الأدوار، وكأنها على خشبة مسرح وأمامها جمهور؛ لتنضم إليها زينات، ويتحدثن عن تعلقهما بالفن، ولكن نجد الإضاءة تلك المرة، باللون الأحمر على “زينات” ؛ حيث ترمز إلى جانب النجاح التي ستحققه “زينات”، بينما باللون الأخضر على “خيرية” ربما لأنها ستصبح في يوم من الأيام، من إحدى ذكريات “زينات”، وهذا لأنها ستفارق الحياة قبل تحقيق أحلامها؛ لتعود زينات للحاضر ثانية بالانتقال من جملة “راجعي على المشهد بسرعة” لنعود إلى مشهد الرقص في الحاضر مع الأحفاد لتتعالى الموسيقى تدريجياً مع أصواتهم، وهذا التناص في الحدث المصاحب للمشاهد، جعل التنقل بين الماضي والحاضر أكثر انسيابية، مما جعل الأحداث أكثر ترابطاً ومتعة للعين.
“فكروني ليه…كنت نسيت حصلي إيه علشان ابقى زينات” ربما عند هذه النقطة يمكننا أن نصبح مُلِمِّين بما حدث لها لتصبح “زينات”، ولكنه أصبح يمر أمام عينيها مرة أخرى مع أغنية “كلموني تاني عنك…فكروني” فبعض الآلام، وخاصة من الأهل لا تنسى، وينقلنا المخرج لمحطة أخرى؛ حيث تُفتح الستارة اليسرى عمق خشبة المسرح على مصمم الأزياء الخاص لزينات “فاسيلي” والذي تألق في تجسيده (أحمد الجوهري)، بصدى صوت يعطي لنا شعوراً بالرجوع للماضي، وهو معادل أيضاً لفكرة معاناة الفنان، الذي ينقلب به الحال مرة واحدة، بعد أن هجره كل الفنانين، وعلى الرغم من أنه يمكنه الذهاب لهم، إلا أن اعتزازه بنفسه وبفنه، الذي يقوم به يمنعه؛ حيث يقول “أنا فنان…أرتيست” ليتحول هو الآخر في هذه اللحظة، من مصمم ملابس إلى معادل رمزي لكل الفنانين، الذين نتناساهم مع مرور الوقت، وعلى الرغم من أننا في مستوى زمني قديم إلا أن المخرج ينقلنا لمحطة أقدم مع جملة “فاسيلي” “خسرتي بيتك وأهلك…” مصاحبة هذه الجملة موسيقى هادئة تنقلنا لمستوى زمني أبعد؛ حيث نجدها في بيتها تتدرب مع شقيقها “سيد” (إبراهيم الألفي)، الذي يدخل مع والدهما في نقاش كي يترك “زينات” تحقق حلمها، وقد توتر هذا النقاش بجملة سيد للأب “زينات أجدع منك أنت كمان” فقام الأب بصفع الابن على وجهه، فعلى الرغم من أن النقاش الخاص بالتمثيل، قد بدأ قبل تلك الجملة تقريباً بدقيقة ونص، إلا أن اتهام الابن لأبيه أن أمرأة “أجدع” منه أثار غضبه تأكيداً من مؤلف العمل على الفكر الذكوري المهيمن والمسيطر على المرأة من كل الجوانب في هذا الوقت للمجتمع، ليقطع “فاسيلي” هذا المستوى بجملة “سرحتِ في إيه زينات”.
وتعيد الحياة نفسها مرة أخرى، وتستمر حلقة القمع؛ حيث نجد “سيد” والذي جسد شخصيته هذه المرة (إيهاب بكير)، في منتصف المسرح؛ حيث قوة الحدث، يقوم بضرب ابنه “طارق” عندما قام باتهامه نفس الاتهام ” الست دي أجدع من أي حد…أجدع منك أنت كمان” ليتناص هذا المشهد أمام أعيننا مع ضرب والدهما في الماضي، وكانت كلمات سيد وقتها جميعها تؤكد على أن ما يربط اعتراضه على حياة “زينات” الفنية هو فكر المجتمع وقتها؛ حيث نجدهما في أقصى يمين المسرح، وقد اظلم المسرح بأكمله، وتم تسليط بؤرة صفراء عليهم؛ لتكشف عن الدوافع النفسية بداخله تجاه أخته؛ لنجد صوتاً داخلياً له يقول “أنا مش شمتان فيكِ…أنا بس” ليخرج بعدها بعد أن يطلب منها أن تجعل الأولاد تستقيم عن هذه الأفكار، ربما يصبح في المستقبل “طارق” نسخة طبق الأصل من سيد، ولكن تجدر الإشارة هنا أن شخصية “سيد” تم إضافتها من قبل المؤلف؛ لخدمة الدراما، ليُظهر المؤلف، ويعزز منظور السلطة، التي تتعرض لها المرأة بشكل خاص/ الفنان بشكل عام، تلك السلطة المرتبطة بعادات وتقاليد مزيفة.
لعبت الإضاءة لـ (ابو بكر الشريف) مع الموسيقى دوراً فعالاً في الفصل بين المَشاهد، وجعلت الانتقال بين مستويات الزمن أكثر سهولة، فضلاًعن الديكور المقسم لأكثر من فضاء درامي، يشغل خشبة المسرح بشكل منظم، مريح للأعين، وكان الديكور لـ (فادي فوكيه)، ونجد خطاً درامياً، يحدث دائماً أمام خشبة المسرح؛ حيث كان يمثل يسار الخشبة البدروم ويمينها السطوح؛ حيث يتقابلان به كل من “طارق” (محمود الغندور)، و(ياسمين عمر) “وردة” ويعتبر حذف تلك المشاهد لا يؤثر على مستوى الحدث الدرامي، إلا أن وجودها أمر مهم؛ لتخلق حالة من الكوميديا، التي تخفف العبء على المُشاهد في مثل تلك العروض، التي تتضمن مأساة ومعاناة.
وكانت الملابس لـ (أميرة صابر) والتي كما ذكرنا لها دور كبير في الانتقال بين الأزمنة؛ حيث تبديلها لها طوال الوقت بما يتناسب مع المكان الموجودة به، والتي كانت تعبر عن كل شخصية؛ حتى الإكسسوارات الخاصة بكل ممثل، والتي تعبر عن شخصية كل ممثل بشكل بسيط، كل ذلك بالإضافة للتناغم والهارموني الموجود بين جميع الممثلين دون استثناء بشكل متألق.
وقد اختتم المخرج عرضه بتسجيل صوتي قديم لـ “زينات صدقي” في أحد البرامج التلفزيونية سنة 1973، قائلة “اللهم انصر الفنانين على أهاليهم اللي ما بيعترفوش بالفن” فحين نذكر “زينات صدقي”، فإننا نستحضر ضحكة مصرية، وجوهراً كوميديياً لا يتكرر، فهي التي جعلت من الأدوار الثانوية بطولات تُخلدها الذاكرة، بصوتها الذي ينطق بالبهجة، هكذا صنعت مكانتها كأيقونة للكوميديا والإنسانية؛ لتصبح أيضاً نموذجاً نحتذي به الآن في أعمالنا ونقدِّمه.
تفاصيل العرض:
تأليف وإخراج: محمد زكي.
شارك في التأليف: أسماء السيد.
مخرج منفذ: ياسر أبو العينين، خالد مانشي.
ديكور : فادي فوكيه.
إضاءة: أبو بكر الشريف.
أزياء: أميرة صابر، محمد سرحان.
مكياج: إسلام عباس.
تمثيل: هايدي عبد الخالق، فاطمة عادل،ياسمين عمر، محمود الغندور، إبراهيم الألفي، أحمد الجوهري، إيهاب بكير.
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.