حمه سوار عزيز:”عطيل و بعد”…عرض تونسي يعيد صياغة الصراع.
حمه سوار عزيز★
المسرحية التونسية (عطيل و بعد) من أهم العروض المسرحية العربية التي شاركت في الدورة الخامسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح، المسرحية من تأليف بوكثير دومة وإخراج حمادي الوهايبي وتمثيل مهذب الرميلي وفاتن الشوايبي ومجموعة من الفنانين التونسين، العرض قُدّم على صالة المسرح الوطني ببغداد.
استند العرض على التناص عن النص الشكسبيري (عطيل)، فحاول المؤلف /المخرج أن يؤسس على مجموعة من الشخصيات الشكسبيرية داخل النص لكي يوسع من دائرة الصراع الشكسبيري الذي أستند على العمق السايكولوجي للشخصيات وتصادمها من خلال المرجعيات الثقافية والبيئية والتربوية، فعمل المؤلف والمخرج على سحب هذه الشخصيات من بيئتها السيكولوجية والعاطفية إلى مناطق صراع جديدة ومغايرة للبيئة الشكسبيرية من خلال توسيع دائرة الصراع من الفردانية الشخصية إلى تصادم الثقافات والمرجعيات الفكرية والأخلاقية التي تميز بها شخصيات نص العرض التونسي، فلم يعد عطيل ذلك الشخص البربري الذي لايستوعب التعايش والتجانس بين الثقافات المختلفة وظهر كأنه كائن إفريقي شرقي متجرد من العقد الشخصية التي تحكمه مجموعة من المشاعر والأحاسيس الجياشة والمنفعلة التي قد تجعل منه قاتلًا في أي لحظة.
عطيل في مسرحية الوهايبي يتميز بعقلانية كبيرة ومنضبطة من جراء انتماءه الثقافي والجغرافي، الثقافة التي أضافت الأصالة والعمق التاريخي والحضاري والرؤية العقلانية في تعامله مع المواقف العاطفية والحسية التي تتعرض لها الشخصية في النص الشكسبيري، عطيل عند الوهايبي شخصية مختلفة ومغايرة للشخصية الشكسبيرية التي ارتكز أداؤها على البربرية ونزعة التدمير، باتجاه شخصية إفريقية مؤمنة بحضارتها وكيانها وتمتلك ثقافة حياتية عالية قادرة على التعايش والتناسج مع الثقافات المغايرة.
استند شكسبير في تأسيس شخصية عطيل على إدانة المد الشرقي الإسلامي التي وصلت إلى أوروبا من خلال الفتوحات الإسلامية، فأظهر عطيل كأنه شحصية بربرية لايستوعب لغة الحب والتعايش ويرتكن إلى القتل و التدمير، فكان العرض إدانة واضحة لهذه النظرة الشكسبيرية والغربية للإنسان الشرقي أو الجنوبي كما وصفها العرض، حين أظهر أن بؤرة الصراع ليست بؤرة عاطفية وحسية تفتقد إلى العقلانية والفكر، الصراع الحقيقي هو صراع بين ثقافتين مختلفتين بمرجعيات فكرية مختلفة قابلة للتجانس والتعايش ولا تستند على مرجعية القوة الجسدية والعاطفة السطحية المغيبة للعقل والمنطق.
بهذه الرؤية الكونية سحب المؤلف والمخرج الشخصيات إلى دائرة أخرى من التصادم والتشابك التي استند في النص الأصلي على الصراع بين الحب والرومانسية الغربية والعاطفة الشرقية الجياشة الممتلئة بالغيرة والعنف والقتل، إلى دائرة التواصل وقدرة الإنسان على استيعاب الآخر المغاير مع الحفاظ على أصالته وهويته الأصلية، وقد أضاف المؤلف والمخرج شخصيتين جديدتين إلى الصراع، غيرت من المبنى الفكري للصراع و هي شخصية الأم المرئية وشخصية الابن التي كان غير مرئي، الشخصية التي مثلت رؤية عطيل لمستقبل هذا الصراع والتصادم الثقافي بين الأطراف المتصادمة والمتشابكة، فظهرت شخصية الأم بصوتها الرنان ونبرتها الواثقة الخطابية التي جسدت الثقافة الإفريقية والشرقية الأصيلة المرتبطة بالأرض والتاريخ والحضارة، الشخصية التي أضافت لشخصية عطيل العمق الثقافي والتاريخي وسحبتها من المنطقة البربرية والهمجية التي ارتكز عليها شكسبير، أما شخصية الابن أو المولود التي كانت تحملها دزدمونة في أحشائها، تعبر بشكل واضح وصريح عن الرؤية المستقبلية لوهايبي والمؤلف لبؤرة الصراع القائم بين الحضارتين وكيف يمكن لهذه الثقافات المختلفة أن تلتقي في نقطة معينة تحضر فيها الوعي الثقافي و ترتكز على سياسة التعايش والتجانس من خلال قدرة الإنسان الواعي على التواصل مع الآخر عن طريق الحب والحوار الإنساني دون الارتكان إلى منطق القوة والقتل والتدمير، هذا المنطق الذي تسبب في كثير من الحروب والكوارث والفواجع للإنسان من خلال فرض العقلية الكولونيالية على الآخر ومحاولة مسخ ثقافته، فكان العرض رسالة إنسانية وعقلانية تستند على منطق الحب والحوار بدل من منطق القوة والاحتلال التي تتميز بين العلاقة الآنية الشائكة بين الحضارات المختلفة.
ارتكز جسد العرض على البنية المشهدية البصرية التي استحضرها العرض من خلال التقنيات الضوئية والبصرية المركزة والحاضرة في تأسيس الفضاء الشرطي، التي أتاحت للممثل أن يؤدي بأريحية كبيرة عظمت من حضوره وكيانه الفاعل في تأسيس خطاب العرض، هذه المشهدية التي أعطت جمالية كبيرة لشكل العرض وانسيابية هارمونية جمعت بين الوظفية الأدائية للممثل مع الفضاء التجريدي المواكب لحضور الشخصيات وتناسجها مع الفعل الدرامي وسحبته من المنطقة التقليدية في التأسيس المشهدية الكلاسيكية الذي قد يحضر في العروض الشكسبيرية.
المخرج كان بارعًا في توظيف العناصر التقنية و الجمالية في خدمة الفضاء الفكري والدرامي للعرض بحيث جعل من الممثل البؤرة الرئيسية التي تقود العرض داخل السياقات النفسية والفكرية المكثفة التي حضرت من خلال التقنية السينمائية الصورية و المنظومة الضوئية المعبرة عن أفكار النص وبؤرة الصراع بين الشخصيات، فكان الشخصيات محصورة بشكل كبير داخل المد الثقافي الغربي من خلال الاشكال الهندسية والسينمائية المرئية التي عبرت عن الثقافة الغربية السائدة التي تريد فرض ثقافتها و خطابها الفكري في مواجهة الشخصيات المستوطنة بشكل قهري داخل تلك السياقات، وظهر ذلك بشكل واضح من خلال تسييد شكل الصليب ومن ورائه الكتلة الطاغية والمحتكرة لفضاء العرض التي مثلت الصليب والجدران الصلبة والعتيقة للكنيسة، كأن المخرج يريد أن يخلق نوع من المواجهة والتصادم بين الممثل العامل للشخصيات الإفريقية مع المد البصري الطاغي على فضاء المشهدية الدرامية و البصرية التي خلقت فضاءً نفسيًا عميقًا لابتلاع الشخصيات وأفكارها، فكان صراع الأكبر في العرض مرتكزًا على كينونة الشخصية الإفريقية بزيها التقليدي ونبرتها الواثقة والحضور الثقافي والمدني من خلال الموسيقى والأغاني الإفريقية التي تعبر عن الأصالة والتاريخ في مواجهة المستطيلات والأشكال الهندسية التي عبرت عن الصليب والحضور المهيمن للكتلة الكنسية في البنية المشهدية.
تردد شخصية عطيل في قتل دزدمونة من خلال استسلام للنداء الكوني الأصيل التي عبرت عنه شخصية الأم التي مثلت صوت الحياة والمحبة والتعايش والعازف الموسيقي الذي رافق ظهور تلك الشخصية من بين الجمهور، التي مثلت بظهورها في هذه الجغرافية المشهدية، الآنية و الزمكانية المغايرة للخطاب الشكسبيري، كما مثل إحالة فكرية مهمة للعرض جعلت من الجمهور مشاركًا في الحدث في البنية الدرامية ومصدرًا للأفكار الإنسانية من خلال توطين فكرة التعايش والتجانس الثقافي داخل فضاء شكسبيري درامي مرتكز على الغدر والخيانة والمصالح الشخصية والطائفية، التردد الذي أصبح مدخلًا جديدًا لفتح أفاق مغايرة لرؤية هذا الصراع وسحبها إلى منطقة التحاور والتواصل ونبذ الخلافات في سبيل انتصار الإنسانية والخطاب الإنساني العقلاني على الخطاب التدميري الكولونيالي الاحتلالي.
ارتكزت المنظومة الادائية للعرض على الأداء الحسي للشخصيات والأداء الجسدي الباث لكينونة الشخصية من خلال مرجعياتها الثقافية والسيكولوجية، أبدع فيها الممثلون بشكل مميز من خلال أداء منضبط ومعبر عن كينونة الشخصيات المتصادمة التي قادت الفعل الدرامي بانسيابية عالية وتكنيك أدائي أتسمت بالهارمونية الأدائية في رسم علاقة الشخصيات مع بعضها البعض والعلاقة المجازية مع البنية المشهدية التي مثلت زمكانية العرض بشكل تجريدي وشرطي، فكان الأداء الحركي و الحسي للمثل موازيًا ومتجانسًا مع المردود الدرامي والبصري الجمالي لكل مشهد من مشاهد العرض والتحولات الفكرية والسيكولوجية المضمرة في تأسيس بنية الشخصيات و تجريدها من الواقعة التاريخية باتجاه خلق شخصيات جديدة تتعامل بشكل مغاير مع التحولات الآنية التي تسود الفضاء العالمي المتوتر في التواصل الثقافي والحضاري المفقود بفعل العولمة والفكر الكولونيالي المهيمن من خلال تصدير الثقافة الغربية بهدف محو الثقافات الاصيلة المستوطنة داخل الشخصيات الشرقية أو كما أشار إليها العرض بالجنوبية.
حرص المخرج أن تظهر الشخصيات بشكل معاصر و متجدد من خلال الأزياء والمنظومة الأدائية التي غادرت المنطقة الكلاسيكية لكي يعبر بشكل صريح عن الإشكالية التاريخية في التعامل مع هذا الصراع الدامي بدأ بالفتوحات الإسلامية والحملات الصليبية والاستعمارية التي تعاملت من منطلق القوة والتدمير و الاحتلال، لكي يؤسس لخطاب عقلاني وإنساني قادرًا على استيعاب الاختلافات الثقافية والجغرافية والدينية بين مختلف ثقافات العالم من خلال التطهر من الفكر التعصبي الزائف عن طريق جمعها تحت غيمة سماء تمطر الحب والمحبة والتواصل الذي قد يؤدي إلى خلق كائن متجدد تدخل في كينونته التجانس الثقافي والتعايش السلمي بين تلك الأفكار والثقافات، فكان شخصية الجنين هي البذرة التي قد تبشر مستقبل البشرية بالخير والسلام وتحافظ عليه من الكوارث والفواجع والحروب.
في النهاية بالرغم من أن العرض عمل على جذب المتلقي من خلال الصورة المشهدية المتقنة والمعبرة التي أسست المنظومة الجمالية للعرض بشكل مبهر و خلقت الدهشة والصدمة الجمالية، إلا أن العرض في بعض مشاهده وقع ضحية للتكرار والصورة المشهدية المكررة خاصة في وسط العرض، مما أفقده الإيقاع نسبيًا وخلق نوع من الرتابة من جراء تشابه المشاهد و الصورة المشهدية المرتكزة على المنظومة الضوئية، كان يمكن تجاوزه بنوع من الاختزال والمشهدية المغايرة في التأسيس والأداء.
★ناقد ـ العراق.