كريم رشيد: “Grave”..بين شح الفعل وفيض الانفعال.
كريم رشيد ★
من حق المسرحيين الشباب علينا تقويم تجربتِهم وتأشير مواضع التألق والوهن فيها بمحبة وحذر ولهذا غمرني دَفَق من الأسئلة والتساؤلات منذ لحظة الإطلاع على المعلومات المتوفرة عن عرض مسرحية ( قبر Grave) تأليف محمد مؤيد وإخراج محمد كاظم ضمن الدورة الخامسة من لمهرجان بغداد الدولي للمسرح 2024 ، ودفعني لتفحص مسارات العرض الذي تأرجح بين الحماسة الفائضة والافتقار للبنية الدرامية على الرغم من وجود (مؤلف) ودراماتورج ومخرج ، وهذا أمر لا يتوافق بالعادة مع عروض المسرح الراقص التي غالبا ماتكون بقيادة كوركراف ، فالرقص وعروض الحركة والتعبير الجسدي تُصمم ولا تؤلف ، وعلى أية حال وضعنا تركيزنا على محصلة تلك الجهود لا على مسمياتها ، حيث حملت خشبة المسرح عرضًا راقصًا يحمل في طياته جهدًا شابًا مليئًا بالطموح في محاولة للتعبير عن لهيب الغضب الذي يغمر النفوس المترقبة لحرية منشودة بُنيت على رُكام من الحرائق والمآسي والفواجع لم تزل نيرانها تتنقل من منطقة الى أخرى في بلداننا العربية التي تنام على الجوع والخوف والصمت كما صمت اللحد أو (القبر) العنوان الذي شكل مدخلا لفهم رسالة العرض التي يعبر عنها المخرج بكلمته : ((لقد وجدنا قبرًا يأوينا، ما حال الذين تلاشت أجسادهم، وأصبحوا ذكرى انفجار، ومن ماتوا في الحروب وبقيت أجسادهم تحت الحطام، أين مزارهم؟ أين دفنوا؟ أين يسكنون ؟
لكن غياب الكوروغراف المحترف أدى إلى أن تظل تلك الرسالة النبيلة أسيرة فيض الحماسة والانفعال وشح الفعل المسرحي، إذ لا يمكن لعرض درامي راقص أن يُبنى على ارتجال الحركة والاتكاء على ما تبثه الموسيقى الصاخبة من انفعالات ،تسبب غياب كوروغراف متخصص قادر على تصميم الحركة بطريقة تعزز من مضمون العرض وتضفي عليه طاقة للتعبير والإيحاء وتحمله مستويات من الرمزية والدلالات الدرامية بفقدان الرقصات لميزة الأصالة والابتكار والخصائص الجمالية ، فبدت وكأنها أشبه بتدريبات رياضية تم تحويرها لتكون رقصًا تعبيريًا ، مما أفقد جسد العرض تماسكه ، فغاب النسق الدرامي والحركي للعرض وبدت المشاهد منفصلة عن بعضها البعض فاقدة لخصيصة الوحدة الفنية للعرض الذي بدأ بمشهد صريح يعلن عن ثيمته الفكرية ، نرى فيه مجموعة من الراقصين مستلقين على الأرض يتحركون تدريجيًا وكأنهم ينهضون من قبورهم في مقبرة تضم ضحايا من مختلف الأديان والطوائف، مما يعكس بوضوح رسالة إدانة للتاريخ الدموي الطويل في منطقتنا العربية والمحلية . رغم تلك البداية الواعدة ، افتقر العرض إلى بنية درامية تواكب هذا المدخل الصريح فقد تراجعت الأحداث والمشاهد اللاحقة عن تقديم نسق حكائي تعبيري درامي ، وتحولت إلى مشاهد متقطعة يغلب عليها الطابع الحركي المنفعل ، مما أفقد العرض قدرته على التواصل الذهني مع الجمهور وتركه لمؤثرات عاطفية تبثها موسيقى صاخبة وحركة منفعلة طغى عليها الغضب والسخط .
ليس بالضروة أن يقدم العرض الراقص بنية حكائية لكن هذا العرض هو الذي ألزم نفسه بذلك عبر وجود (مؤلف) ووجود مشاهد تشير لوجود قصة وأحداث حكاية درامية كما هو الحال عند ظهور إحدى الشخصيات في العرض بهيئة توحي بأنها عروس في ليلة عرس دموي يشهد موت عريسها. كان يمكن لهذه الملامح الدرامية أن تكون محورًا قويًا للعرض لكنها ظهرت بشكل خافت ومتقطع وسط السياق البصري المزدحم بالحركات غير المترابطة ، وبدى ذلك جليًا في مشهد جلوس المرأة بجوار قبر فقيدها ، فرغم قوة الشحنة الانفعالية في المشهد ، لم يخلق المشهد تداعيًا ذهنيًا نشطًا عند المتلقي بقدر ما خلق تعاطفا يدعو للمواساة والتعزية .
افتقر العرض إلى تماسك الوحدة الفنية حيث جاءت الرقصات على شكل مزيج ضعيف التجانس بين طقوس العزاء واللطم، مع خلفيات موسيقية وغنائية متباينة تنوعت ما بين موسيقى البوب والموسيقى الصوفية مما قطّع أوصال العرض ، مثال على ذلك رقصة المولوي أو التنورة المستوحاة من الطقوس الصوفية التي ظهرت وكأنها تنويع خارج عن السياق مما أضعف انسجام العرض وجعل المشاهد تبدو منفصلة عن بعضها البعض.
وقع العرض في مطب مألوف وشائع في المسرح العربي وهو مطب عدم التفريق بين الفعل الدرامي والانفعال الحسي أو الشعوري ، فقدم طاقة كبيرة من الحماسة الفائضة التي جمعت كثير من حركات الألم وجلد الجسد والارتطام بالأرض وصلت الى حد ملأ المسرح بعدد من الأدوات والعلامات التي تحيل مباشرة الى العزاء والنواح والندب وخصوصًا في المشهد الأخير الذي تتوجه الممثلة الوحيدة في العرض وهي تغطي جسدها بالطين ، تلك المفردة المتعددة الدلالات التي لم تستطع للأسف مغادرة المعنى المباشر لها وهو التعبير عن الأسى والكرب والحزن في أقصى درجاته ، ومع كل ما ورد من مآخذ على هذا العرض الشاب فلا بد من الإشارة الى ذلك الحد العالي من الطاقة التي قدمها مؤدوا العرض في محاولة للولوج إلى ضرب من ضروب الفنون الأدائية الصعبة وهي المسرح الراقص في بلد يفتقر لوجود مدرسة أكاديمية لتدريس فن الرقص التعبيري الحديث ، ولا تدخل مادة الرقص في المناهج الأكاديمية المتخصصة بالمسرح، ولهذا فليس هناك إلا عدد محدود جدًا ممن درسوا وعملوا بالكوركراف بشكل محترف ، هذا يجعلنا ندرك دواعي دائرة السينما والمسرح لدعم هذه التجربة الفتية التي تتقدم بحماسة عالية نحو ذلك الفن الصعب ، لأدراك القائمين على دائرة المسرح لأهمية تطوير مقومات هذا النمط من الفنون الأدائية في زمن سادت فيه ثقافة التعبير البصري والحركي وجذبت نحوها بقوة الأجيال الجديدة .
مشكلات تقنية تعوق التجربة
عانى العرض من مشكلات تقنية واضحة أثرت على جودة التجربة الكلية، أبرزها عدم وضوح التسجيل الصوتي للراوي بسبب ارتفاع مستوى صوت الموسيقى المصاحبة،هذا الخلل جعل من الصعب على الجمهور متابعة السياق السردي للعرض وفهم الرسائل التي حاول الراوي إيصالها. مثل هذه الأخطاء التقنية تقلل من تأثير العمل الفني ويفك الارتباط بين الجمهور والعرض.
كما قدم العرض رؤية مبتسرة للسينوغرافيا معتمدًا على تصميم يفتقر للحرفية والقدرة على الإيحاء فامتلئت المنصة بمجموعة من القبور المختلفة ، التي حملت شواهد متنوعة ترمز إلى ضحايا الحروب والعنف من مختلف الطوائف . فلم تحقق وظيفتها الدرامية ولم تسهم في تعزيز المعايير الجمالية بشكل كافٍ لدعم الحركات أو تعميق الرسالة الرمزية. حيث كانت مفردات المكان ثابتة في الشكل والمعنى وغير قادرة على خلق أو بث دلالات متواصلة . كما أنها احتلت حيزًا كبيرًا من المشهد المسرحي دون أن يكون لها أثر في صياغة ذلك المشهد أو معمارية حيز التمثيل والرقص. وفي واحدة من الأمثلة العملية على ذلك، كان هناك ظهور خاطف لراقصة تمر على جسر خلفي في أقصى عمق فضاء المسرح، حيث كان ظهورها باهتًا وسريعًا وخاطفًا لم يتعزز استثماره لاحقًا في العرض بل اختفى نهائيًا.
تباينت الخلفيات الموسيقية بين أساليب مختلفة ، ما بين موسيقى البوب وألالحان والأغاني الصوفية . هذا التناقض أحدث شرخًا في الإيقاع العام للعرض ، حيث افتقرت انتقالات المشهد للسلاسة والتناسج ، كان يمكن اعتماد موسيقى موحدة الطابع تعكس روح العرض وتدعم رسالته وتسهم في خلق وحدة فنية متناسقة.
وعلى الرغم من الهنات الفنية يبقى عرض ” قبر” شهادة شابة على الحماس والرغبة في تسليط الضوء على واقع مأساوي . وكانت الرسالة التي حملها العرض واضحة وساخطة لإدانة الحروب والعنف ، لكن كان يمكن أن تكون أكثر قوة لو تم دعمها بإطار درامي محكم وكوروغرافيا مدروسة.
” قبر” عمل فني طموح يعبر عن سعي جيل شاب لإيصال رسائل أمتعاض وغضب وتقديمها بدون عوائق لجمهور يشلركهم هذا الغضب ، لكنه بحاجة إلى مراجعة وتطوير لتحقيق رؤية أكثر انسجامًا وتأثيرًا. إن تعزيز الجوانب التقنية والبصرية يمكن أن يحول هذا العرض إلى عمل أكثر قوة وإبداعًا، قادرًا على ملامسة قلوب الجمهور بشكل أعمق.
مسرحية قبر Grave
تأليف :محمد مؤيد
إخراج : محمد كاظم
إنتاج دائرة السينما والمسرح ـ بغداد 2024 .
★ناقد ـ العراق.