حمه سوار عزيز: “لعنة بيضاء”.. مسرحية تلعن واقع المدينة.
حمه سوار عزيز★
مسرحية “لعنة بيضاء” عرض مسرحي عراقي بابلي شارك في الدورة الخامسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح، العرض من تأليف (أحمد عباس) وإخراج (د.محمد حسين حبيب) وتمثيل مجموعة من مسرحي بابل (أحمد عباس، فقدان الحلي، علي عدنان التويجرى،مخلد جايد،علي الطائي،ظفار فلاح) ومجموعة من الشباب الذين شاركوا في التشكيلات الأدائية للعرض.
تنطلق فكرة النص من التناص عن قصة قصيرة للكاتب الإيطالي (إيطاليو كالفينيو) تحت تسمية (الشاة السوداء)، وهي تلك الشاة التي لا تنسجم مع القطيع وتغرد وحيدة خارجها، الكاتب الإيطالي أراد من خلال هذه القصة القصيرة الارتكاز على الصراع الاجتماعي المنبثق من الصراع الفكري بين الثقافات المختلفة، حين أشار إلى أن النظام الاجتماعي الرديء المتكون من داخل السياق الاجتماعي للمجتمع و متجانس معه بشكل هارموني ويعطي نتائج جيدة وقابلة للقبول، أفضل من تلك النظم الاجتماعية التي تأتينا من الخارج ومن رحم نظام اجتماعي بسياقات مختلفة وغريبة عنا، حتى لو حملت هذه النظم، أفكار وتنظيرات أكثر تقدمية شكلاً ومضموناً، إلا أن النتيجة النهائية لاستطيان مثل هذه المنظومات الهجينة والمستوردة، تكون بشكل لا تؤدي إلى تحقيق غايات اجتماعية واقتصادية بشكل مرضي، لأن مرتكزات النظام حتى لو حملت في ثناياها أفكار متقدمة، لا تتوافق مع مجتمع مغاير لم تنطلق من سياقاتها، والأمثلة كثيرة في هذا المجال عندما أراد بعض الشعوب أن تطبق النظام الاشتراكي في سياق مجتمعها، أو الديمقراطية الغربية التي تستند على الوعي الفردي الغائبة عن مجتمعاتنا، كل هذا أدى إلى نوع من التغريب بين النظام الحاكم و المجتمع.
أما نص العرض والذي هو نص المؤلف (أحمد عباس)، ذهب بالصراع إلى منطقة عقائدية ودينية مغايرة، حيث ارتكزت بنية الصراع على القيمة الأخلاقية والفضيلة الدينية في مقابل الرذيلة والانهيار الأخلاقي، هذه النظرة الحدية التي أخرجت النص والفكرة من المساحة الاجتماعية إلى مساحة عقائدية مباشرة، أضرت بفكرة العرض عندما أستندت على منطق (الأبيض و الأسود) في الطرح والتجسيد، هذا الطرح الحدي والمنغلق على نفسه، أطاح بفكرة التحاور و التعايش والاختلاف، باتجاه التصادم و المواجهة المباشرة التي أنتهت أليها العرض فأصبح هناك البطل والقطيع، البطل الذي يحمل الفضيلة من منظورة الأخلاقي والديني والقطيع الذي يتبع صوت السلطة و لايتمرد على أخطائها، لكن المشكلة الحقيقة تكمن في تجاوز المؤلف للدواخل الإنسانية وفكرة الخير والشر الساكنة في داخل كل نفس، فلايمكن أن نقسم البشر إلى الشياطين والملائكة من دون الاعتبارات الاجتماعية والتربوية والثقافية التي تؤثر على فكر والمنظور الحياتي لكل فرد في المجتمع، كذلك ركز المؤلف على قضية المعرفة والجهل في تقسيم انتماء الشخصيات، فصور لنا المثقف والعالم كأنه يمثل الخير كله و أسند الرذيلة إلى الجهل، و هذا ايضا معيار تقييمي غير دقيق، لأن السلوك الإنساني لا يتكأ على المعرفة الذاتية و المعرفة وحدها لا تولد الفضيلة والخير، كما أن الشر ليست وليدة الجهل بشكل قاطع.
عمل المخرج على إيجاد تأسيس مشهدي مغاير للثيمة الواقعية التي أوقعت فيه النص، فعمل على ترسيم المشاهد الدرامية بشكل أكثر تجريدي وحداثوي من خلال تأسيس الفضاء المشهدي بشكل ينتصر فيه للمنظومة البصرية على حساب المنظومة السمعية المنطوقة، لذا كان جسد العرض رهيناً بالحركة السينوغرافية المركزة الذي أعتمدها العرض من خلال تحريك مجموعة من الاشكال الهندسية التي أمتلات بها المسرح وتعامل معها الممثل بشكل مبالغ في التجسيد والتعبير، هذه الأشكال الهندسية التي لم تساعد المنظومة البصرية والأدائية كثيراً، بسبب تكثيفها وعشوائية تحريكها في كثير من الأوقات، حتى أن وجودها أصبح يشكل عائقاً بصرياً يحجب الممثل ويؤثر على علاقته الدينامكية مع المتلقي.
المخرج لم يكتف بهذا التكثيف الحركي للإكسسوارت المسرحية المشاركة في صنع شكل العرض، بل استند أيضاً على التقنية السينمائية في خلفية الأحداث لكي يرسم ملامح المدينة عند ممارسة كثير من الافعال الدرامية كالسرقة والحرق والمواجهة، هذه التقنية التي أضافت بعداً دلالياً ونفسياً للعرض من خلال تعميق الفعل الدرامي وفتح مساحات التأسيسية المشهدية الدالة على مستوى غرق المدينة في الرذيلة والغش و السرقة المباشرة، كما أن المخرج حاول أن يكسر تقليدية السرد و الحكاية من خلال إضافة مشاهد أدائية تعتمد الجسد والدراما الراقصة من خلال مجموعة من المؤدين في استهلال العرض ونهايته، ولكن في تقديري لم تستطع هذه الرقصات والحركات الأدائية أن تصبح جزء حيوي من المشهدية الدرامية للعرض إنما ظهرت كوصلات منفصلة غير قادرة على دخول في سياق القصة أو حتى الصورة المشهدية.
الأداء والتمثيل ارتكز على التناسج و التناسق بين منطقتين مختلفتين، المنطقة الأدائية الساخرة التي تميز بها الممثلون الذين أدوا شخصيات الرئيسية في المدينة، من خلال أداء كاريكاتورى ساخر و مبالغ إلى حد كبير، من أجل تأسيس فكرة السخرية من الأفكار والأفعال المشينة التي تشكل فضاء المدينة، وكان في المقابل أداء تلقيني صوتي وإذاعي يعتمد الوعظ و الخطابة والبلاغة في شخصية (الرجل الأمين) الذي أداها (أحمد عباس) كظاهرة صوتية وأخلاقية بشكل مرسوم ومنضبط، غادر فيها نظم التمثيل و الأداء باتجاه تلقين المتلقي على الأخلاق والفضيلة، وأنا لا أعتقد أن هذه وظيفة المسرح أن تتحول إلى إرشادات أخلاقية و دينية توجهه المتلقي بشكل مباشر، حتى أن النهاية الدينية التي انتهت عليه العرض، كانت نهاية ذات صبغة دينية و أخلاقية عندما قرر أهل المدينة أن يحرقوا الرجل الامين، هذا الإحراق تأسيس فكري لخلق ثيمة البطل المنقذ(القهرمان)، كأن العرض يؤكد على أن لا خلاص إلا بالبطل المنقذ الذي قد يأتينا من السماء أو أي مكان آخر خارج المجتمع، وهذا الطرح الفكري الساذج الذي يسحب الإنسان إلى منطقة اللافكر والاتكالية وانتظار المعجزات، يقتل في الإنسان الطاقة الإيجابية وقدرته على صناعة مستقبله وتغيير واقعه، كما أكد عليه (بريخت) في مسرحية (غاليلو)، عندما يقول (بائس ذلك الشعب الذي ينتظر البطل والقهرمان لكي ينقذه).
★ناقد ـ العراق.