شهد إبراهيم: في “كحل”هل يصنع غياب الأب أُمّاً متسلطة؟
شهد إبراهيم ★
بفستان أحمرَ زاهٍ، تظهر فتاة على المسرح؛ وسط مشهد راقص على أنغام موسيقى “الوايلي” المميزة، حيث تتمايل على إيقاع أغنية (صفر)، التي تحمل دلالات عن الانكسار، وخيبات الأمل المتكررة، تلك الخيبات التي لم نعرف أسبابها بعد، يُقدم ذلك الاستعراض أمام ديكور منزلي، محاطة جدرانه بأعمده حديدية، توحي بقضبان السجن، والتي يتضح من خلالها أنه سيتم سرد حالة من العزلة، والتقييد، والصراع الداخلي لشخصيات العرض ـ تلك التيمة التي قد تبدو مألوفة بالنسبة لنا ـ ولكن بالالتفات للسؤال الدرامي الأهم، والذي ينطلق منه كل مبدع: ليس “ماذا تريد أن تقول؟” بل “كيف ستقول ما تريد ؟”.
هكذا افتتح المخرج “أحمد السيد”، عرضه المسرحي “كحل”، تأليف “إسراء محبوب”، ضمن مسابقة العروض الطويلة، في المرحلة النهائية لمهرجان “آفاق مسرحية” في دورته العاشرة، دورة الراحل “نور الشريف”، والعرض عبارة عن دراما عائلية تتصارع فيها المسؤوليات، والأدوار ما بين الماضي والحاضر، وسط غياب مفهوم الأمان بالنسبة للأسرة، وهو الأب، الغائب الحاضر.
من داخل الديكور المنزلي، يأخذنا العرض لسرد حكاية عائلة مكونة من خمسة أبناء، وأم، وجدة، وأب غائب منذ عشر سنوات بلا أي رسالة وداع، ذلك الغياب له أثر حاضر وواضح، حيث إنه يخلق مشاعر ملتبسة، ومخاوف، ومسؤوليات، وكان الديكور معبراً عن جزء أساسي، ومهم وهو “الصالة” حيث إنه ـ في الأغلب ـ مقر اجتماع أي عائلة، حيث يوجد على أقصى يمين المسرح كرسي وتلفاز، وأقصى اليسار أريكة وطاولة، ويتوسط المسرح كرسي آخر، ويحمل هذا التوسط دلالة قوية خلال الأحداث حيث سقوطه في أحد المشاهد، يعطي دلالة لخضوع الأم في أخذ قرار زواج ابنتها لضغوطات من حولها، ثم محاولة لسرد حكاية كل شخصية من شخصيات الأسرة، فالابن “زياد” والذي يجسد شخصيته “محمد سامح”، يقوم مقام الأب باعتباره رجل البيت، وقد كان أداؤه مناسباً، وحاول التنوع في انفعالاته؛ لتبدو واقعية، بينما “حسين فادي”، والذي يجسد شخصية “عبدالله” الابن المغضوب عليه دائماً في خلاف مستمر مع والدته بسبب المال.
وقد أظهر “عبد الله”، شخصيته ببعد واحد نمطي، دون أي تدرجات للأفعال، وربما ما يبرر هذه النمطية هو تسليط الضوء على مثال فج مباشر للشباب الذين يشبهونه في الواقع، وهو المغيب طوال الوقت عن الوعي بسبب الإدمان؛ حتى يخرج عن واقعه الذي لا يريد أن يعيشه، حتى على مستوى الملابس حيث القميص المفتوح، وسلسلة الرقبة، واِكسسوارات اليد، والسروال المقطوع، وكذلك تسريحة الشعر التي أصبح معظم الشباب في الشوارع متخذينها “موضة”.
وعن الأم “عبير” والتي تجسد شخصيتها “مارينا حنا”، تبدو في مظهرها فتاة عشرينية، وهذا غير مناسب لما وصفها به الحوار المسرحي، فنجدها في حوارها مع والدتها تذكر أنها تزوجت، وهي ابنة تسعة عشرعاماً، وعلى جانب آخر نرى “مروة” ابنتها في الثلاثينيات من العمر، فمن المتوقع أن تكون الأم في أواخر الخمسينات تقريباً، والذي لم يظهره البعد الخارجي لها، فالدور هذا قد يتطلب أماً ممثلة أكبر في العمر، أو تلاعباً بالماكياج؛ لإظهار الممثلة بهيئة مناسبة لدورالأم؛ ولكن على المستوى التمثيلي لها، كان مناسباً، على الرغم من أننا في بعض المشاهد لم نتمكن من سماع صوتها، ؛لكن في البعض الآخر كان صوتها مفتوحاً وقوياً، وكانت ملابسها تعبر عن الصورة الذهنية المعتادة لنا عند سماع كلمة أم، حيث جلباب البيت، ولفة الشعر كعكة طوال الوقت، مع عدم وضع أي ماكياج، مما أضاف جزءاً من الواقعية على الشخصية.
وعن “مروة” جسدت شخصيتها “ندى محمد قطب”، وكان أداؤها مناسباً، وخفيف الظل، بالإضافة إلى عدم مبالغتها في الأداء؛ ولكنها وقعت في فخ النمطية في بعض المشاهد ـ وليس كلها ـ وخاصة مشاهد الحزن، على الرغم من أن لتلك الشخصية بُعداً نفسياً كبيراً جداً، سواء إجبارها على الحجاب من قبل الأب، أو منعها من حب حياتها في الصغر، بالإضافة للعنصر الأكبر التي تدور حوله الأحداث، وهو غياب فرد مهم ومؤثر في حياتها كفتاة، وهو الأب، ولكن على كل الأحوال كان أداؤها مناسباً، وبشكل كبير لم تقدم الصورة النمطية البحتة.
وصنع المخرج كولاجاً لصور متتالية، يوضح لنا بها المعاناة المتوارثة الناتجة عن غياب الأب، وسوء معاملته لهن، حيث نجد الحوار يتنقل بين زمن وآخر، وموقف وآخر، نظراً لتشابه المواقف، ونهاية المصير، وقد نجح في صناعة تداخلات حوارية، ومواقف داخل بعضها، حيث العودة للماضي، وذكر حكاية الأم “عبير” وحديثها مع والدتها الذي يتضح منه أنها غُصبت على الزواج، ولم تتزوج ممن تحب؛ لتُكمل الحديث من بعدها “مروة” وهي تنصح أختها الأصغر “سلمى” باختيار من تحب والإصرارعليه، ولا تفعل مثلما فعلت هي، وأصبحت بلا زواج، أو كما يقولون أصبحت ممن “فاتهن قطار الزواج” وفي حقيقة الأمر بجانب نجاح المخرج في هذا المشهد، نجحت أيضاً “الجدة سميرة” والتي تجسد شخصيتها “ناردين نوار”، حيث طوال العرض نرى ناردين، محافظة على مشيتها المائلة على عكاز تتسند عليه، وصوتها الكبير في السن؛ لنجدها في هذا المشهد، مفرودة الظهر واقفة، وصوتها كالشباب صغير، أعطت لنا كمشاهدين إحساس العودة بالزمن، وأن الحوار هذا من المفترض أنه يدور في الماضي، على عكس “الأم عبير” على الرغم أنه من الطبيعي أن الزمن عاد للوراء بهن هما الاثنتان، بالإضافة إلى خفة ظلها الناتجة عن مواقف العرض، وأدائها التمثيلي، ونبرة صوتها المميزة، فقد تألقت طوال فترة العرض على جميع المستويات.
وليس هذا فقط الذي نجح المخرج في استخدامه؛ لإيصال أو التأكيد على فكرته الذي يتبناها، ولكن أيضاً نجده كسر الحائط الرابع في مشهدين مهمين جداً، للتأكيد على فكرته وإيصالها للجمهور؛ حيث المشهد الأول “سلمى” و”علي” وهي تحكي له أنهم يحاولون إجبارها على عريس معين، وأنها بهذا ستتنازل عن حبها، وهي منتقلة من صالة العرض إلى الجلوس على حافة خشبة المسرح، وقدماها متدليتان لأسفل؛ لتحادث في ذلك الجمهور بشكل مباشر؛ لتعطي لهم رسالة أن يترفقوا ببناتهم، ولا يجبروهن على شيء، وخاصة الزواج؛ لأنهن سيعانين كما نرى معاناة “عبير” وأبنائها عند غياب دور الأب.
وعن المشهد الثاني فهو أيضاً رسالة لجميع الآباء الذين يفرضون دائماً معايير نجاح لأولادهم إن لم يحققوها، فبالنسبة لهم قد فشلوا ـ دون النظر لهم ـ حيث نجد الأخوان “زياد” و”عبدالله” وهما يتحدثان، وهما في نفس الوضعية الأخيرة، ويتحدث “عبد الله” أن والدته دائماً تشبهه بأبيه، وبالصفات السيئة، وأن النجاح والجمال بالنسبة لها أن أصبح أنت، وذكر بعد ذلك ما عادة نذكره في مجادلاتنا مع أبائنا وهي “أنا عايز أبقى الحاجة اللي بحبها”، وقد أكد المخرج على فكرة الغصب الدائم من الأهل تجاه الأبناء بمشهد طقسي؛ إذا أردنا تشبيهه بأقرب شيء مناسب لثقافتنا، فسنشبهه بطقوس الزار؛ حيث استخدام الطبول، والزي الأسود الموحد الخاص بهذا الطقس، وقد التفوا حوله، وهم ينادون بعبارات مكررة “متسبناش يا زياد” لطرد فكرة الزواج من داخله.
ومع ذكاء المخرج للتأكيد على فكرته برسم تكوينات، ولوحات مسرحية ماتعة بصرياً؛ إلا أنه قام تقريباً ـ دون مبالغة ـ بتكرار الظلام التام “بلاك” بشكل مستمر بين كل مشهد والآخر، مما أعطى لنا فكرة عدم الانسجام والتناغم، وكأن العرض عبارة عن مجموعة مشاهد غير متصلة؛ ولكن من اللوحات الذي استطاع المخرج رسمها بشكل مختلف، هي لوحة جلوس “عبدالله”، وهو سرحان يتذكر قسوة الأم عليه عندما كان دائماً يشتري لها هدايا، ودائماً لم ترضَ بها، وإضاءة صفراء لتزيد من الآلام النفسية الموجودة داخله؛ لنجد خلف “عبدالله”، الأم جالسة في وسط المسرح، بلغة جسد واضعة قدماً على قدم، دلالة على السيطرة والتحكم، ومن حولها شخصيات ترتدي قناعاً لصورة “عبدالله”، وبيدهم صناديق هدايا؛ لرسم خيبات الأمل المتكررة المختلفة لـ “عبدالله” بسبب الأم.
كما لمع من بين شخصيات العرض “صلاح” وهو خالهم الذي كان في خلاف دائم مع عبير، بسبب الميراث، وجسد شخصيته “محمد سعيد عبده، وكان خفيف الظل، ومواقفه الكوميدية نابعة من الموقف، لم يقع في فكرة فرض “الإيفيه” غير المؤهل، كذلك “سلمى” والتي تقوم بشخصيتها “نور محمد”، فقد تألقت في دورها بشكل مناسب، وأداء غير مبالغ فيه، والفتاة الصغيرة “سارة” التي أصبحت طالبة في المرحلة الإعدادية التي دائماً تحكي، وتتحدث إلى والدها منتظرة عودته، حتى نهاية العرض، فالجميع خلفها متجمدون، وهي تحكي لوالدها عن زواج أختها، وتتخيله، وكان أداؤها مناسباً ذا طابع دافىء وقدمت شخصيتها “سهر محمد الخولي”، كذلك “مديحة” التي قدمتها “نورهان عبد العليم”، بشكل مناسب، و”علي” الذي تألق في تقديمه “عمر النحراوي.”
وقد تشتت الإضاءة بالفعل بسبب فكرة “البلاك” بين معظم المشاهد، إلا أنها في بعض المشاهد عبرت عن الحالة الدرامية للمشهد، ويذكر أن الإضاءة كانت لـ “وليد درويش”، بينما الديكورلـ”رضوى طارق”، و”روماني جرجس”، وقد تم توظيفه لخدمة العرض بشكل كبير، وكانت الملابس، والماكياج لـ “مريم مجدي”، وقد كانت الملابس مناسبة لكل شخصية، كذلك نجحت في فكرة توحيد اللون في المشاهد التي تطلبت ذلك، كذلك وفقت في الماكياج، وظهر بشكل كبير في شخصية “الجدة”
وكانت المؤثرات الصوتية مناسبة، ومنضبطة مع الأحداث، وعن الإعداد الموسيقي ، الذي كان لـ “أحمد السيد”، ومن أفضل اختيارات الموسيقى كان لأغنية “صفر” في بداية العرض التي تقريباً تحكي عن الأحداث، والاضطرابات النفسية، التي ستحدث في العرض، وهي “تتوجع ثم بتتعود…. ويعيد من تاني فيلم السيما” أكثر الدلالات المعبرة، ولكن في معظم المشاهد كانت مستوى صوت الموسيقى، أعلى من مستوى الصوت لدى الممثلين مما جعلنا نعاني من سماع أصواتهم بجانب ضعف أصوات البعض منهم الطبيعية، بالإضافة أيضاً لافتقاد جانب التعبير عن الحالة الدرامية، فكان من الأفضل توظيف الموسيقى بشكل يناسب العرض أكثر من ذلك.
وفي الحقيقة فكرة الزيجات الخاطئة للنساء ـ بالأخص ـ عادة ما يدفع ثمنها بناتهن، فيتحول الشعور بالفقد إلى الخوف من تكرار ذات القصة في حياتهن، فالأثر العاطفي الناتج عن غياب الأب، يترك أثراً عميقاً يتجاوز الطفولة، ويتسرب في أروقة أنفسهن؛ ليتجسد في مخاوف من المستقبل طوال الوقت.
★ طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي جامعة عين شمس ـ مصر.