مسرح

محمد خالد:”أوبرا العتبة” .. عندما يجتمع الفن والفوضى.

محمد خالد ★

       ربما يلفت انتباهنا حين نطالع جدران المسرح القومي؛ تلك المقولة المنقوشة أعلى خشبة المسرح لأمير الشعراء (أحمد شوقي): “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.”
تلك المقولة التي تمثل دستوراً للمسرح بشكل خاص، وللمجتمع بشكل عام ، فالأخلاق هي عنوان الشعوب، وهي التي تبني مجتمعاً إنسانياً فاضلاً ، فماذا يحدث حين تنهار الأخلاق في أي مجتمع، وتحل مكانها الفوضى؟
      على قاعة زكي طليمات بمسرح الطليعة، قُدم عرض “أوبرا العتبة” من إنتاج البيت الفني للمسرح، التابع لوزارة الثقافة، كتابة وإخراج (هاني عفيفي)؛ ليناقش من خلاله عدة مشكلات في مجتمعنا، أبرزها علاقة الفن المتمثل في مسرح الطليعة، بما يدور عبر محيطه من الباعة والمارة بسبب موقعه الجغرافي،  فهل يصمد الفن أمام تلك الفوضى؟ أم ستؤدي لموته؟
       في البداية قبل دخول الجمهورللمسرح، اِستخدم المخرج الفضاء الواقعي؛ ليكون مدخلاً لعرضه ؛ حيث يقف اثنان من مطربي الأوبرا (روجينا صبحي، ومحمود إيهاب)  في ساحة مسرح الطليعة يغنيان على طريقة الأوبرا الإيطالية، وهنا يحدث مستويين من الصدمة؛ المستوى الأول، صدمة جمهور المسرح القادم لمشاهدة العرض، وجعله يتساءل هل الذي يراه مرتبط بالعرض؟ أم أنه مجرد شو تمهيداً للعرض؟


والمستوى الثاني، هي صدمة الباعة والمارة بالعتبة عند مشاهدتهم الغناء الأوبرالي خارج ساحة المسرح، فهم لا يدركون ماذا يحدث، وماذا يفعل هؤلاء الناس؟
      وبالدخول الي قاعة المسرح ينقل المخرج الجمهور إلى الفضاء الرمزي، وأثناء جلوس الجمهور في أماكنهم، يدخل الممثلون في شخصيات الباعة من بين الجمهور بالميكروفونات، ويحاولون أن يبيعوا منتجاتهم بشكل  صاخب، مثلما يفعل البائعون خارج المسرح، وهذا نوع  من التغريب، وكسر الجدار الرابع؛ ليجعل المتلقي يفكر ما الذي يحدث، ونجد أن المخرج مع مصمم الديكور (عمر غايات) قسما المسرح إلى ثلاث مستويات؛ المستوى الأول، وهو عمق المسرح الذي نجده مليئاً بالكراتين المتراصة بجانب، وفوق بعضها؛ التي تشير إلى البضائع التي تسيطر على عمق المسرح، أمامها مباشرة في المنتصف مجموعة من الأخشاب الرفيعة الطويلة مربوطة ببعضها على هيئة مبنى آيل للسقوط، المستوي الثاني، نجد على يسار المسرح  إطاراً أيضاً من نفس طبيعة الخشب السابق؛ يمثل منزل الزوجة التي قامت بدورها (دعاء حمزة) تلك الزوجة ذات الوسواس القهري؛ التي تعيش مع أبنائها وزوجها  المغترب، تحاول أن تحسب احتياجات البيت طوال الشهر، وتبحث عن المنتجات، والأدوية بشكل هستيري خوفاً من نفاذها، ونجد أنها محاطة بمجموعة من الكراتين المليئة بالمنتجات التي تشعر معها بالحميمية، والأمان، والدفء، ومن بداية العرض حتى نهايته نجد تلك الكراتين في تزايد مستمر؛ ليملأ ذلك الإطار الخشبي، ولعبت (دعاء حمزة) دور الزوجة بسلاسة جعلتنا نشعر بخوفها من الوحدة، وهستيريتها في توافر المنتجات، والأدوية.


  وعلى يمين المسرح، نجد نفس الإطار الخشبي بشخصية المثقف المنعزل عن الشارع، رافض التأقلم مع حال المجتمع من انحطاط الذوق، وأغاني الإسفاف، وغياب الأخلاق، وفكرة إطار البيت الخشبي – سواء كان للزوجة أو المثقف – تعطي دلالة لعدم الأمان والاستقرار، فالبيوت التي تصنع من الخشب تكون مهددة بالسقوط، وغيرآمنة، فنجد الزوجة كما أشرنا مسبقاً تخاف من الوحدة، وعدم الاستقرار، فجاء الديكور مُعبِّراً عن تلك الحالة، كذلك شخصية المثقف؛ الذي تزعجه الفوضى، والصخب الذي يفعله البائعون؛ حيث كان إطار غرفته أسفل الخشبة، وأمام الجمهور، المستوي الثالث، من تقسيم المسرح، وهو مكان البائعين الجائلين.
     ديكورغرفة المثقف بها مكتبة مليئة بالكتب، واللوحات؛ لِتُعَبِّر عن شخصيته المثقفة ، يقول أبياتاً للشاعر (محمود درويش) “سقط القناع..” ومرة أخرى يقرأ مقاطع من كتب تاريخية، ومنها جملة في اعتقادي أنها مفتاح العرض “كانت مصر الشمس الذي ينبع منه شعاع النور”، فماذا حدث لمصر؛ التي كانت مهد الحضارات، والفنون، والثقافة؛ إلى أن أصبحنا أمام انحدار جارف للثقافة، وانعدام الأخلاق والذوق، وهو ما أبرزه  العرض في المشكلات الأخرى بشكل أشبه بالاسكيتشات، فنجد سيطرة اغاني المهرجانات الفاجعة على الشباب، والباعة الجائلين، وكذلك جنونهم بالتيك توك، واللايفات، وكل شاب أو شابة بدلاً من أن يحلم أن يصبح طبيباً، أو معلماً، أويحلم بوظيفة تخدم المجتمع، نجدهم يريدون أن يصبحوا ما يسمى بالتيك توكر، أو بلوجرز.
    ويلقي العرض الضوء على حالات التحرش في المترو؛ مع استخدام قطعة ديكور يجلس عليها الممثلون، وبعض الموتيفات التي توجد بالمترو، فجاءت بشكل واقعي، وبجانب التحرش يبرز أيضاً الأشخاص الذين يَدَّعون أنهم مرضى، ويمثلون أن  لديهم عاهات – وهم متسولو المترو- من أجل أخذ المال من الناس، والمعاناة بين العميل وخدمة العملاء، وإسقاط على حال أسماء البرامج، ومضمونها، وانحدارالذوق العام من خلال أغاني المهرجانات في الأفراح، وحياتنا اليومية إلى أن أصبحت مهيمنة عليها، ومشكلة غلاء أسعار الوقود؛ التي يستغلها الجميع لصالحهم ، فكل شخصية تتحدث في هاتفها أن الوقود قد ارتفع سعره، فنرفع نحن أيضاً أسعار منتجاتنا.


    أما عن مشاكل البائعين، فنجد دخول فتاة في وسط المسرح معها عربة، وعليها أحذية للبيع، ويطلب منها البلطجي أرضية عالية من أجل وقوفها هنا، وتسرد لنا معاناتها أن والدها مريض بالسكر، و أثر ذلك بشكل كبير على نظره، فاضطرت أن تعمل، وتبيع مكانه، وتتعرض للمضايقات فهناك من يفاصل ولا يشتري، وهناك من يلقي عليها بكلمات تؤلمها، وكذلك بقية البائعين سواء أكان من يريد السفر، ومن يكون ابنه مريضاً، ويريد أن يأتي له بعلاج، فنجد أن المخرج ركَّز على معاناة هؤلاء البائعين، وعلى الطريقة البريختية لعب كل ممثل أكثر من دور؛ سواء أكان من الباعة الجائلين، أو في بقية اسكتشات العرض.
      لعبت الإضاءة دوراً في فصل الاماكن، والاسكيتشات عن بعضها من خلال الإظلام التام على المسرح، وبؤر على الحالات، والمشكلات الموجودة في المجتمع؛ ليضع تركيز المتلقي مع الحدث، ساعدت الموسيقى، والمؤثرات الصوتية على حالة الحدث، فجاءت واقعية يشعر معها المتلقي بواقعية الحدث، كما دمجت مع الإضاءة من خلال الإسقاط الضوئي على مجموعة من الكراتين في مقدمة يمين المسرح على شكل هاتف عُرض عليه مقاطع من تطبيق التيك توك، مع موسيقى صاخبة؛ لتدل على الصخب الذي يحدثه هذا التطبيق، والحالة التي وصل لها المجتمع،  وكذلك في مشهد تقريباً كان مسابقة تنافس بين فتى وفتاة من خلال من يخلع ملابس أكثر؛ يفوز،  وإسقاط هذا المشهد على الواقع في ظهور الفتيات والشباب، وهم شبه عُراة من أجل الشهرة؛ حتى لو كان على حساب الشرف، فأبرزت المؤثرات الصوتية، البعد الواقعي للعرض، كما لعبت الموسيقى على ثنائية الفن والفوضى (الجيد والردئ)  كان يصاحب شخصية المثقف؛ التي ترمز للفن والأصالة أغانٍ لأم كلثوم، يقابلها أغاني الضجيج (المهرجانات)، فجاءت موسيقى (حازم الكفراوي) مُعبِّرة عن هذه الثنائية.


    ويعد المشهد الذي كان يلقي فيه المثقف مونولوجاً لتريزياس – الحكيم اليوناني الذي يعرف الماضي، ويرى المستقبل – نسمع صرخة طفل من وسط الجمهور – ضمن فريق العمل- فيحاول المثقف أن يتماسك، ويكمل مونولوجه؛ ليقوم شخص آخر من بين الجمهور – ضمن فريق العمل ايضاً – ويصيح، ونسمع صوتاً من الجمهور “الصوووت” – ضمن فريق العمل أيضاً – ؛ ليبرز هذا المشهد الوضع الحالي للمسرح – الطليعة – والمبدع وسط ما يحيط به من فوضى، وصخب يمنعانه من تأدية فنه بشكل جيد، ويبقيان عائقاً له ، وعبئاً على الفن .
    والمشهد الأخير في اعتقادنا من افضل مشاهد العرض؛ أثناء عزف المثقف على الكمنجة مع غناء مطربَيْ الأوبرا الذي كان وجودهما ليس كأشخاص؛ بل كفكرة ترمز لأصالة الفن؛ حيث الاغاني الأوبرالية، واحدة من أعرق الفنون، وكان يقابلها أغاني الفوضى والصخب (المهرجانات) ؛ لتبرز لنا أيضاً ثنائية الفن والفوضى ، مع دخول البائعين الجائلين، ومعهم أشولة يحملونها، ويصعدون على المسرح، ويضعونها على الإطار الخشبي الخاص بالمثقف، وهو يعزف إلى أن يتضاءل؛ لتصبخ الكمنجة،  هي الظاهرة وسط تلك الأشولة؛ للدلالة على موت الفن، والثقافة علي يد تلك الفوضى.


  وهنا يحدث الربط بين ما شاهده الجمهور قبل دخول المسرح (الفضاء الواقعي ) وما شاهده داخل المسرح (الفضاء الرمزي)، ربط ما يحدث حول محيط المسرح بالمسرح نفسه (الواقعي والرمزي)، وكذلك صدمة البائعين والمارة عند مشاهدتهم للمغنيَيْن، وهم لايدركون ماذا يحدث، فهي دلالة على أنهم لا يدركون وجود أهمية هذا الصرح الثقافي الكبير والعريق،  وما يقدمه من فن وإبداع.
     ولكن يظل يؤرقنا سؤال؛ كيف صوَّر المخرج حال هؤلاء البائعين، ومعاناتهم داخل العرض كما ذكرنا ، ومن الناحية الأخرى جعلهم السبب في موت الفن والإبداع؟!!!.، كما أن  تعدد أفكار العرض في الحقيقة، لم تَصُبَّ في مصلحة الفكرة العامة؛ بل عملت على تشتيتها، فكنا ننتظر التركيز بشكل أكبر، والتعمق في علاقة المسرح بمحيطه؛ حيث يمكن اعتبار هذا المحيط – منطقة العتبة – صورة مصغرة من المجتمع، فعندما غابت الأخلاق، اِنتشرت الفوضى، وهو ما يحدث حول المسرح، الذي منه يمكن أن تنطلق جميع القضايا.
    في النهاية عرض “أوبرا العتبة” عرض جيد يحمل فكرة مهمة، ربط المكان الجغرافي لمسرح الطليعة بما يدور حوله ، وما قد تسببه تلك الفوضى على الفن والمبدع ، كما أن هذه الكيانات المسرحية، سواء كان المسرح القومي، أو الطليعة، أو العرائس هم واجهة الفن المصري، ويعرض عليهم  في بعض المهرجانات الدولية عروضاً أجنبية،  فكيف يمكن أن تكون صورة الفن في نظرهم، وسط هذا الكم من الفوضى؟
ولكن لو كان التركيز على هذه الفكرة بشكل أكبر؛ لكان العرض شيئاً آخر.


★خريج قسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى