شعر

جواد عامر: سردنة الشعر العربي.. قراءة سردية في القصيدة العربية القديمة.

جواد عامر ★

السرد خطاب يخترق كل شيء ، يتواجد معنا في كل ناحية حتى عد بعض المناطقة الإنسان كائنا ساردا ولعل مقولة بارث الشهيرة التي يعلن فيها على أن السرد موجود في الحكاية والخرافة والقصة والملحمة والأسطورة واللوحة والمنظر الطبيعي والزجاج المزوق .. ، دليل على أن السرد كائن فينا وفي كل شيء من حولنا ، لهذا استطاع السرد في الثقافة العربية أن يجد له موضع قدم في الوقت الذي احتفى فيه العقل العربي بالثقافة الشعرية التي شكلت أساسا خطابيا للمدونة العربية فعد ديوان العرب ، لكن لم يكن ذلك يعني أن السردية كانت غائبة عن المحضن الثقافي العربي فقد كانت بيئة الجاهليين بيئة أخبار ومرويات وأساطير ولعل أشهرها أسطورة أساف ونائلة ، كما أن زمن الوحي نفسه لم يخل من أصول ستشكل الأسس المعرفية والجمالية لتأسيس المشروع السردي في ثقافتنا العربية في مرحلة لاحقة ، فكانت أسطورة “خرافة” من أشهر الأساطير التي تم تداولها في الثقافة الإسلامية ، وستسلك ثقافتنا العربية طريقا جديدا في التعامل مع السرديات مستفيدة من تلاقحها الثقافي مع الدخيل الجديد الذي اندمج في بوتقتها ، ليسير السرد في خط مواز للشعرية العربية دون أن يسحب منها البساط لأن الشعر ظل دوما روح الثقافة العربية فظهرت المحكيات التي ترجمت عن ثقافة الهند وفارس واليونان كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وما جرى مجراهما من الحكي العربي الذي عمل على محاكاة هذا المنتج الأسطوري وظهرت السير كسيرة سيف بن ذي يزن وسيرة الأميرة ذات الهمة والسيرة الهلالية وغيرها ، بل واحتفت القصور بوجود الحكواتيين مثل الفضاءات العامة التي شهدت رواجا كبيرا للحكاية الشفهية مقابل الحصول على المال فتنافس في الحفظ والإلقاء رواة كثر استطاعوا أن ينفذوا إلى القلوب بسحر إلقائهم وقدرتهم على الحفظ الذي وجد فيه العامة من الناس وحتى الخاصة متعة لم تقل عن تلك التي كان يجدونها في الخطاب الشعري ، ومن هنا أمكننا القول إن الخطاب السردي يمتلك قدرة هائلة على الانفلات من رقابة غيره من الخطابات والتشكل الجمالي في بنيات منفردة مثلما أنه يمتلك القدرة على الانفتاح ومعانقة أشكال تجنيسية مختلفة يدمجها في بنيته الجمالية واختراقها كما صنع مع الشعرية العربية منذ العصر الجاهلي حين وجدنا الشاعر العربي يسرد لنا مغامراته في الصحراء والفيافي مع الوحيش ومواجهاته له بالرمح والسهام وما يصنعه هناك من صيد ناقلًا إيانا في فضاء صحراوي رهيب عبر رحلة مليئة بالحركة والمطاردة والتنقل ، في استحضار جمالي لمقومات السردية من زمان ومكان وشخوص وأحداث وعقد وحلول ورؤى وأبعاد نفسية تتشكل في العمق الشعري للقصيدة فتأملنا للمعلقات الشعرية وما أنتجته القريحة في عصر الجاهلية سيثبت حتما أن السرد كان جوهرًا جماليًا شكل بنية القصيدة العربية عبر تلك الأجزاء التي انتظمت بنيانها من وصف للطلل وحسن تخلص بعد تسليم وبكاء وذكر ما صنعت الرياح والزمان بالدور وبعر الآرام والظباء إلى تنقل بالحصان أو الناقة عبر الفيافي ومطاردة للوحش ووصف للمعارك وغير هذا مما حفلت به قصيدة الجاهليين فكانت القصة داخل المتن الشعري جزءًا لا يتجزأ عند شعراء جاهليين كامرئ القيس حين يحكي لنا عن تلك المرأة المهفهفة :

وبيضة خدر لايرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

على حراص لو يشرون مقتل

إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل

فجئت وقد نضت لنوم ثيـــــابها لدى الستر إلا لبسة المتفضــل

فحضور عناصر القصة ظاهرة في هذه الأبيات وما سيليها من زمان ليلي ثم يبدأ العرض القصصي حتى يصل بنا إلى تجاوز مكان كان فيه حراس يشكلون جزءًا من الشخصيات وتظهر الأحداث متوالية في سرد كرونولوجي يحمل المتلقي على توقع الأفق ويلعب الشاعر دور الراوي فينقل لنا الأحداث بضمير المتكلم في نوع من النقل السيري ، وإذا ما انتقلنا إلى مرحلة تاريخية نضجت فيه الممارسة السردية في الثقافة العربية سنجد أن السرد صار جزءا أساسا لا يغادر بعض الصنوف الشعرية التي ظهرت كفن جديد مستقل في البنية الشعرية كشعر الخمرة مع أبي نواس ، فقد ظهرت الجانب القصصي على درجة عالية من الفنية بحكم الوحدة التي مازت النص الشعري بخلاف تعدد الموضوعات الذي وسم النص الجاهلي ، فمثلت قصيدة الخمرة أعلى مستويات السردية الشعرية لما زخرت به القصائد من تشكيل جمالي أظهر بقوة المقومات الفنية التي تؤسس للنص السردي في قالبه القصصي يقول أبو نواس في إحدى قصائده:

وليلة دجن قد سريت بفتـــــية تنازعها نحو المــــدام قــــــلوب

إلى بيت خمار ودون محــله

قصور منيفـــات لــــنا ودروب

ففزع من إدلاجنا بعد هـــجعة

وليس سوى ذي الكبرياء رقيـب

تناوم خوفا أن تكون ســـعاية

وعاوده بــــــــعد الرقاد وجيـب

ولما دعونا باسمه طار ذعره

وأيقن أن الرحل مـــنه خـصيب

وقال ادخلوا حييتم من عصابة فمـــنزلكم ســــهل لدي رحيبُ

وجاء بمصباح له فأنـــــــــاره

وكل الذي يـــــبغي لديه قريب

فقلنا أرحنا هات إن كنت بائعا

فإن الدجـــى عن مُلْكه سيغيب

فالملاحظ لبنية النص سيجد أن مبدأ الوحدة الموضوعية والنفسية ساعد كثيرًا على خلق بنية قصصية موحدة متماسكة المعمار تؤثتها العناصر الفنية من زمان ومكان وشخوص وأحداث وتوترات مع خلق مساحات من التأثيرات النفسية التي يستشعرها القارئ في هذه العتمة المخيفة ليخلق جو جديد من الطرب والأنس إلى حدود الصبح .

من هنا نستطيع عبر هذا المسح التاريخي البسيط أن نؤكد عمق التفاعل بين السردية والشعرية العربية دون أن تفقد سردية النص في إيقاعاتها الفنية جمالية النص الشعري وإنما استطاعت عبر فنية ودربة الشاعر العربي الذي استطاع أن يمتلك ناصية الاختراق الجمالي بين حدود الشعر والسرد أن يصنع إبداعًا غاية في الجمال يتعانق فيه خطابان لا يكادان ينفصلان في الشعرية العربية.


★كاتب ـ المغرب.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى