د.حيدر الأسدي: طقسية الألم والتساؤلات الوجودية في العرض المسرحي (كثب) للمخرج حسين عبد الحميد.
د.حيدر الأسدي★
خلال اليوم الخامس لمهرجان نظران المسرحي بنسخته الثالثة الذي تقيمه نقابة الفنانين في البصرة، قدم العرض المسرحي (كثب) تأليف عبدالحميد هاشم وإخراج حسين عبدالحميد، وأداء مجموعة من الفنانين الشباب من مدينة البصرة، والعرض المسرحي يمتلك ناصية الوعي برسالة ووظيفة المسرح فهو يستحق منا الوقفة الجمالية لتحليل بناه ابتداءً من النص وصولاً إلى علاقته (أي العرض) بالمتلقي ، فالنص ارتكز على حمولة فلسفية ودلالية عالية التعبير ، فهو قدم رؤية تزاوج الحياة والموت، وتطرح تساؤلات فلسفية عن الوجود وعن محطات الألم التي يواجها الشاب العراقي ، أسئلة الحياة والتنوير والوجود تلك التي يجب ان يطلقها المسرح لخلق حالة من (الوعي) كانت حاضرة، وإن ضم بعضها استدعاءات وتوظيفات وتنقلات كبيرة بحيث لم يمنحنا المؤلف فسحة للتأويل والتلقي إلا وانتقل لنا بفكرة أعمق واكثر دلالة ورمزية ، إن اتكاء المؤلف على الاستدعاءات من نصوص شكسبيرية متنوعة كانت قصدية لتتواءم مع فكرة النص التي قدمها ، الحمولة الفكرية التي ضمها النص كانت عالية جداً إلا أن المخرج كان ذكياً بتحويل كل المفردات إلى تعبيرات جسدية تتسم بجانبها الطقسي الاحتفالي في بنية العرض المسرحي ، وهنا يكمن ذكاء المخرج الذي يحمل معه شهادة الماجستير في المسرح ، فحسين امتلك قدرة واعية لتحويل الكلمة إلى فعل عياني ضمن فضاء بيئة مغاير يختلف عن مسرح العلبة الإيطالي فهو حول مكان جلوس الجمهور إلى بيئة لعرضه، ولكن هل هذا التغيير جاء لحاجة جغرافية مكانية تتسق وسياق العرض من ناحية الديكورات وتحرك الممثلين وفقاً لأعدادهم أم هي فلسفة ضمن فلسفة بناء العرض المسرحي المغاير؟
إن الحوارات المتزامنة التي جاءت في هذا العرض بشيء من تصوير للفوضى الخلاقة إنما هي إحالة (للفوضى الحياتية) التي عبروا عنها الشباب بهذا العرض الاحتجاجي الواعي، وكذلك نبرات الصوت والصرخات والأصوات العالية فيزيائياً انما كانت (أصوات الشباب) الباحث عن فسحة في صخب هذه الحياة والباحث عن (اثبات الصوت والوجود) في خضم هذه الحياة المتناقضة وهو توظيف واعي وقصدي من المؤلف والمخرج معاً ، فضلاً عن الأجواء الطقسية التي رسمها المخرج ضمن بناء الحيرة السيكولوجية للشباب في هذا العرض فانتقل بالتساؤلات ليرسمها ضمن فضاء الإضاءة تساؤلات تشكل حيرة شباب اليوم : (أنا منو ، أنا ميت لو عدل؟ ) (وأنا هم ما أدري) .
فالمؤلف والمخرج معاً ذهبوا لمناطق متعددة من الأفكار والتساؤلات في هذا العرض الطقسي وقدموا إيماءات متعددة وأشاروا لمضمرات تتسم بطابع التابو لدى المجتمع لذا كانت إشارات نسقية عابرة (فكرة الشجرة/ فكرة الانتظار/ الأرقام/ العباءة/ المنشار/ المطرقة) مع هذا لم يكن الديكور فيه أي زوائد بل كان هناك اتساق تفاعلي بالكامل مع المفردات الديكورية التي تحرك خلالها الممثلين بفضاء تشاركي مع الجمهور رغم كبر حجم الكتل إلا أن الممثلين برعوا بالتفاعل معها وفقا لمدلولاتها وتحولاتها طيلة العرض المسرحي وهذا يحسب للمخرج أيضاً.
أن المجموعة بالكامل تحركت وكأنها جسد ممثل واحد وهو ما ميز العرض رغم ارتفاع درجات الحرارة وهو ما أصابهم بالاستهلاك للياقة الجسد في آخر دقائق العرض وهي الملاحظة التي يجب أن تؤشر إذ ما تكرر العرض في مكان أخر وهي أن على الممثل الذي يقدم عرضاً مسرحياً فيه جهد لياقي وجسدي عليه أن يوزع جهده على أوقات العرض المسرحي ولا يستنفذه في البداية؛ لأن ذلك يجبره على فقدان بعض التركيز او بعض الأداء الذي ربما يحتاجه في ختام العرض المسرحي وهذا ما حصل لدى بعض ممثلي العرض الذين بذلوا كل طاقتهم في بداية العرض واحتاجوا إلى التقاط الأنفاس في ختام العرض وهذا مبرر لهم لانهم قدموا العرض بدرجة حرارة مرتفعة وضمن حلقة تحيطهم بالمتفرجين لانهم عمدوا الى مغايرة فضاء بيئة العرض وتقديمه ببيئة مغايرة تتسم (بالتشاركية والتفاعلية) ضمن فضاء طقسي احتفالي (رقصات ، ضحكات ، صرخات، حركات إيمائية ، موسيقى ، غناء، وغيرها)، والنقطة المهمة كذلك التي تؤشر على العرض المسرحي هو حشد الأفكار المتعددة ضمن (بنية النص المسرحي) والتي تحولت فيما بعد الى بنية العرض العياني فالتنقلات كثيرة وكبيرة على المشاهد الذي تحمل العديد من الأسئلة التي تتسم بطابع فكري ودلالي فقدم لنا المؤلف والمخرج وجبة غنية من الحمولات الفكرية التي لم نستطع أو بالكاد التقطنا حمولاتها الفكرية فالفكرة المسرحية تحتاج الى تأويل وتفكيك وإحالة مرجعية، وهو ما سعى العرض من تقديمه بهذه المسرحي في محاولة لخلق (حالة من القرب مع المتفرج/ وفقاً لعتبة المسرحية الأولى) قرب على المستوى الجغرافي وقرب على المستوى الفكري فاستند بذلك الى حوارات (من الواقع/ بوظيفتها التسجيلية) عن الشباب الذين ذهبوا ضحايا في مجزرة سبايكر، والذي وثق لهم بصورة مسرحية جمالية وتارة عبر التحولات التي تقدمها (المجموعة) المسرحية ( ضحايا/ شباب ثوري يتساءل عن جدوى كل هذه المتناقضات الحياتية/ مجموعة من البلهاء والزومبي والروبوتات يقودهم أحد ما للقتل والذبح من دون وعي بفعلهم هذا وهي انتقادية واضحة لفكرة داعش وتفرعاتها!) فالشباب تناغم مع رسالة المعرض المسرحي؛ لأنه جزء من وعي عام للشباب العراقي الذي يطرح الأسئلة الانتقادية الثورية للوضع القائم سواء السياسي أو غيره ، ويشيرون إلى أصابع الاتهام (للجزار القاتل/ والمقصر) معاً!
العرض المسرحي امتاز بقدرة أدائية عالية وقدرة إخراجية جمالية ذكية من الشاب حسين عبد الحميد مما جعل الجمهور يتفاعل ويبتهج لهذا العرض المسرحي الذي قدم رسالة الشباب الواعي وأغلب تساؤلاتهم الحياتية.
★ناقد-العراق.