مسرح

سارة أشرف: “مونولوج الوداع”.. من القلب للقلب رسول!

سارة أشرف ★

كتبت مقدمة لهذا المقال تشبه مقدمات المقالات النقدية العادية الباهتة، سواء لي أو لزملائي من النقاد، ولكن حمداً لله مسحتها، وقرّرت البدء من جديد، البدء بالحديث من القلب عن عرض مسرحي يلمس القلب، ومن القلب لقلوبكم رسول.

الأولوية للإحساس!

عرض “مونولوج الوداع” من إخراج (منير يوسف) ودراماتورج (فادي نشأت) عن نص أغنية التيم لـ “أنطون تشيخوف”، نص شهير عن ممثل عجوز عقب انتهاء آخر عرض له، يصاحبه في وحدته الملقن، والخمر.

كنت أود كثيراً عقد المقارنات، والإطالات بين نص تشيخوف، والنص الموازي لفادي، وما شاهدته بالعرض، ولكن هذا الأمر لا يستهويني ، لأن العقد بيننا في هذا المقال ينص على أن للإحساس الأولوية، خصوصاً وأن نص تشيخوف يمكن الوصول له بسهولة، وإن لم تستطع قراءته، أنصحك بسماعه عبر إذاعة البرنامج الثقافي، التي سجلت نصوصًا عالمية عديدة، ولكن دعنا نذكرك أنك لن تصل لأي شيء مما شعرت به، سواء أثناء مشاهدة العرض أو حتى بعده، وصولاً إلى اليوم التالي وهذه اللحظة، التي أكتب فيها.

ربما غيري من الأشخاص يذهب لمشاهدة العرض ويختلف معي ، ولكن أنا لدي البرهان والتحليل، لأني تابعت العرض من بدايته بعدسة مكبرة، عدسة التحليل والتساؤلات، إلى أن وصلت لمشهد موت البطل (فاسيلي/محمد هاني ) وهو يؤدي مشهدًا من (عطيل)، سقط هو وسقطت معه دموعي، غير مدركة متى تعلقت بذاك العجوز، الذي يشرب الخمر للاحتفال، أورثاء نفسه، عجوز يذكرني بمواقف الممثلين، التي طالما سمعنا عنهم أنهم في الكبر تصيبهم الأمراض والشيخوخة، وفي كواليس المسرح حالتهم يُرثى لها، وبمجرد وقوفهم على خشبة المسرح يؤدون دورهم، يرتدون الشخصية الأخرى وحتى صحتها، ليس مجرد ارتداء ملابسها واكسسواراتها، وهو ما تراه في المباراة بين فاسيلي ونيكيتا الملقن الذي قدمه (أحمد صلاح الدين)، كلاهما مخموران، ويمثلان هذا عبر الخطوات المترنحة كأي شخص شرب الكثير، في حين أن الفواصل التي يؤديان فيها مشاهد من مسرحيات عالمية كهاملت (شكسبير) أو تريسياس العجوز في (أوديب)، أو دنجوان ( موليير) كل هذه المشاهد يتلاشى فاسيلي ونيكيتا، ويؤديان تلك الشخصيات بمنتهى السلاسة، حتى وإن نسي فاسيلي الكلمات، يلقنه نيكيتا دون الحاجة لكمبوشته.

مسرحيون بلا مأوى!

بدأ العرض بدخول فاسيلي في ظلام دامس، لا ينيره سوى كشاف صغير في يد فاسيلي ينير به وجهه، ويتحدث مخمورًا، بعدها ينادي على نيكيتا، نيكيتا يدخل بملابس النوم (فانلة قطنية بيضاء) موضحًا أنه ينام بالمسرح كمبنى، وتحديدًا أسفل الخشبة، ليس هو فقط، وإنما شباب الفرقة الموسيقية أيضاً ينامون بالأسفل، والأسفل هنا  ليس مجرد وصف للموقع، وإنما هي تحميل ما هو أبعد، مسرحيون بلا مأوى، يأوينا المسرح، سأهرب قليلاً، وأحكي عني أيضاً حين راودتني فكرة مجنونة؛ فحواها أن الانسان لو هرب من منزله مثل نيكيتا، سأهرب إلى المسرح، سأبيت في الغرفة التي كانت مكان بروفات أحد العروض، ولكن لظروف ما لم أكمل العرض، ولم أهرب.

مرايا وإضاءة وديكور

بعد دخول نيكيتا نحتاج للإضاءة، بالطبع لن نكمل العرض في الظلام، والحقيقة هذه المرة الأولى التي أرى فيها تسليط الضوء على فكرة أن العرض يتكون من عدة عناصر تتكشف واحدة تلو الأخرى، ممثلون، إضاءة، ديكور، موسيقى، وبعدما رأينا ظهور العناصر كل واحد على حِدة، نراهم مندمجين، ممثلين المعنى لكلمة عرض مسرحي.

نيكيتا بناء على طلبات فاسيلي ينير خشبة المسرح، نرى على اليسار قطعة ديكور معدنية معلق عليها عدة ملصقات لعروض مسرحية تُقام على خشبة المسرح، الذي يمثل به فاسيلي، ويعمل به نيكيتا ملقن، وهي نفسها المسرحيات العالمية التي على مدار العرض نرى منها مشاهد، وينير البؤرة التي خلفها، فنرى موقع جلوس عازفي الموسيقى، وينير وسط الخشبة حيث موضوع كرسيان ومنضدة صغيرة عليها زجاجات الخمر، وينير يمين المسرح نرى مرآة نعلم جيدًا، أنها تكون موجودة بالغرفة التي يجهز بها الممثل، ووصولاً للمرآة التي هي كقطعة ديكور على خشبة المسرح تكشف، وتعكس، وتؤكد معاني معينة، وهنا لا يفوتك ملاحظة أن نيكيتا نفسه شخصية تعمل عمل المرآة على مدار العرض، في البداية تظنه ملقنًا فقط، ولكن بعدما يفتح فاسيلي ماسورة النوستالجيا، ويطلب من نيكيتا أن يساعده في اللعبة، اللعبة كان فيها تذَكُّر، وتأدية مشاهد من بعض العروض التي قدمها فاسيلي، تنكشف لك موهبة نيكيتا في التمثيل، إذن هو ممثل قرر التخلي عن موهبته وأحلامه في سبيل أن يعيش كأي رجل متزوج عادي، في حين أن فاسيلي بعد عرضه الزواج على إحدى أجمل الفتيات، تضع شرطها أن يترك المسرح.


قبل الإعتزال!

إذن هما رجلان متضادان في القرار، الذي بُنيت عليه حياتهما بعد ذلك، ولكنه تضاد يؤكد معنى (الفنان وشكل علاقته بالمسرح، أو حتى أي مجال فني) ويبرزه.

طلبات فاسيلي العجوز كلها مستجابة، فهذه هي ليلته الأخيرة في المسرح، كانت آخر ليلة عرض مسرحي قبل اعتزاله، ولكن العرض الحقيقي كان جلسة السُكر، والتمثيل، والبوح مع نيكيتا، كان طلبه التالي بعد الإضاءة التي لم تعتمد فقط على الإنارة الصفراء، ولكننا كنا طوال العرض بداخل الحالة الشعورية، التي تتماشى معها الإضاءة جنبًا إلى جنب، سواء بؤرة لمونولوج بعينه، أو إضاءة متهللة مع الأغاني.

العزف على أوتار القلب

حين طلب فاسيلي موسيقى؛ لإكمال حالة البهجة، بهجة مبطنة بمعاناة ممثل عجوز وحيد، عاش على المسرح وسيموت عليه، يلبي نيكيتا الطلب بمنادة العازفين، يصعدون بملابس نومهم، وفي أقدامهم (شباشب)، وبهذا لم تكن مجرد موسيقى حية مصاحبة في خلفية العرض، محمود شعراوي لم يؤلف ويلحن فقط، بل أيضًا اختار الآلات الموسيقية بعناية، تشكلت من بيانو وكلارينت وتشيلو وفيولينت، أغلبها آلات وترية، تتماشى مع الواقع مع أن العرض بأكمله يعزف على أوتار القلب بهدوء وتصاعد، يعيبه فقط أن الموسيقى في بعض الأوقات كانت أعلى من صوت الممثل، بل حتى أنها غطت على كلمات الأغنية في نهاية العرض.

الحياة لا تنتهي هنا!

نص تشيخوف جامد بلا حراك، حتى نهايته بائسة، طوال النص يتحدث الممثل عن الموت، وعن النهاية الحتمية لحياته، وهي النهاية الحتمية لكل إنسان، في حين أن مونولوج الوداع، الذي تكون نهايته عبارة عن مشهد يمثل فاسيلي ونيكيتا، يموت فاسيلي ساقطاً أمامنا، نصدق جميعًا مع نيكيتا أن هذه هي النهاية، ويُكمل فاسيلي لعبته، ويُفاجئنا بأنه على قيد الحياة؛ لنهلل، ونضحك.

لطالما قرأت أن تشيخوف سمَّى نصه بأغنية البجعة، أو التيم، لأن البجعة تعزف أجمل لحن لها في حياتها قبل مماتها، وهو ما يفعله فاسيلي، يقدم أفضل أداء له قبل مماته، ولكن من قال إن الحياة تنتهي هنا، من قال إنه إذا وصل الفنان لسن الاعتزال، ومع آخر عرض يغرد فيه أجمل أداء له، تنتهي حياته، من قال هذه الترهات في وجود فاسيلي الذي قدم أغنيته الأخيرة، ومع ذلك لم يمتْ.


★ناقدة-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى