نهلة إيهاب: مونودراما ” فريدة” طرح إنساني.. وأداء احترافي من “عايدة فهمي”.
نهلة إيهاب ★
عندما يكون الفن نوعًا من الدفع الداخلي؛ الذي يستولي على عقل ووجدان الإنسان، ويجعل منه أداة له، يكون الفنان هو ذلك الشخص الذي يسمح للفن أن يحقق أهدافه من خلاله.
فالفنان يستفيد من خبرته الشخصية، ومن خبرات الآخرين كذلك؛ لكن خبرات الآخرين بالنسبة له ليست الإ مادة تفاعل ؛ لا يمكن أن تصبح ملكًا له؛ إلا أن تمتزج بخبرته الشخصية، وتنصهر معها، ولابد أن تمر هذه الخبرات من خلال منشور عقله، فتنعكس في نفسه بزاوية انكسار تحددها طبيعة ذلك المنشور؛ فإذا ما أنتج عملًا فنيًا حين ذلك صدر من خلال مخيلته الإبداعية.
ومن هذا المنطلق؛ يطالعنا العرض المسرحي مونودراما ” فريدة” عن نص “أغنية البجعة “
“لأنطوان تشيكوف” ، كتابة وإخراج “أكرم مصطفى ” في موسمه الجديد على خشبة مسرح الطليعة بالعتبة.
حيث يدور العرض حول ممثلة مشهورة تقدم بها العمر، وابتعدت عنها أضواء الشهرة؛ تكشف لنا مراحل، ومحطات مشوارها الفني ، وما آلت إليه من نجاح، و فشل خلال رحلتها تلك؛ كما تتذكر أدوارها في العروض المسرحية؛ التي قدمتها مثل “ماكبث ، وميديا، والماسة في “طقوس الإشارات والتحولات”، فتأخذنا في رحلة مع الممثل، ومن الممثل باعتباره حقلًا حافلًا بالمشاعر، والانفعالات، والأحاسيس المكنونة في اللاوعي؛ تم تجسيدها على خشبة المسرح بوعي شديد، واحترافية عالية .
فالفعل هنا هو المحرض الرئيسي لانفعالات الممثل؛ كما أنه يوحد الفكر، والشعور، والمخيلة، والتعبير الجسدي للممثل الشخصية في كل لا يتجزأ.
حيث ركز الكاتب والمخرج ” أكرم مصطفى” على الخطوط العريضة للنص الأصلي “لتشيكوف” ناسجًا من مخيلته الإبداعية مزيدًا من الرؤى الإنسانية، والقضايا الاجتماعية؛ التي أعطت للعمل طابعًا أكثر شجنًا، ووجدانية .
فقد نجح المخرج المبدع ” أكرم مصطفى” من خلال اهتمامة بأدق تفاصيل العمل، وتمكنه التقني في خلق حالة شعورية؛ من خلال تضافر جميع عناصر العرض المسرحي؛ بدايةً من إعداده للنص المسرحي؛ مرورًا بإعداد الممثل، والديكور، والإضاءة، والملابس، والمكياج.
وذلك بالتعاون مع مصمم الديكور والإضاءة الكبير” عمرو عبد الله” فبالرغم أن الديكور كان بسيطًا معتمدًا على شكل وروح” المسرح التجريبي ” إلإ أنه استخدم مجموعة من “الموتيفات ” المسرحية ذات الدلالات العميقة، والأبعاد الجمالية للمنظور المسرحي بشكل عام مثل” المرآة ، والوسادة ، والحقيبة ، والسلم …” وكذلك الإضاءة ذات الألوان المختلفة، والمتنوعة بين الألوان الباردة، والألوان الحارة تعبيرًا عن الحالات الشعورية المختلفة؛ التي عبرعنها العرض، كما استخدم الكشافات الضوئية؛ التي كانت تسلط أحيانًا على الجمهور ؛ طبقًا ” للمنهج البريختي” لكسر الإيهام المسرحي في أحيان كثيرة؛ لمخاطبة عقل المتلقي أحيانًا، وليس مشاعره فقط .
حيث جمع المخرج”أكرم مصطفى” بين منهجين مختلفين في ذلك العمل” الإيهام المسرحي ( الجدار الرابع)”، و” كسر الإيهام المسرحي ” في ذات الوقت، وكأنه أراد أن يحقق التوازن بين العقل، والقلب عند المشاهد، وربما الذي ساعده على ذلك؛ استخدامه لتقنية ” المسرح داخل مسرح”
وكذلك فعل نفس الآثر الموسيقي لـ ” محمد حمدي رؤوف”، والملابس لـ” شيماء عبد العزيز” .
كما جاء الأداء التمثيلي للمبدعة القديرة ” عايدة فهمي” بمثابة درسًا ماتعًا من دروس فن الأداء التمثيلي؛ ليس فقط المسرحي؛ بل فن التمثيل، والممثل بشكل عام؛ فقد استطاعت أن تنتقل من شخصية إلى أخري بانسيابية شديدة، وبشكل متقن يبين الاختلاف الواضح بين كل شخصية درامية، وأخرى .
كما هو واضح أن هناك تركيزًا قويًا “من جانبها” على الذاكرة الانفعالية، والجسدية، والحركية لدى كل الشخصيات؛ التي قدمتها خلال مدة العرض المسرحي ؛ وهي “ساعة” دون انقطاع، ودون ملل ؛ وبرغم اعتماد المونودراما على الممثل ” الواحد ” إلا أنها استطاعت بحرفية، واحترافية شديدة؛ أن تصل بالمتلقي إلى قمة المتعة، و”التطهير الوجداني” .
مونودراما “فريدة” طرح فريد لعمل فني متكامل العناصر الدرامية ؛ فبرغم من فردية الحدث الدرامي، إلإ أنه استطاع أن يصل إلى أعماق الشعور الجمعي الإنساني، وتحقيق أعلى درجات التطهير المسرحي.
★ناقدة-مصر.