محمد أسامة: بيدي وبيد عمرو أحياناً….عن الشخصيات المساعدة في أعمال “نورا ناجي “
محمد أسامة ★
في كتاب “البطل بألف وجه” يستخرج الكاتب الأمريكي “جوزيف كامبيل ” حلقة الوصل بين ما هو مكتوب في الأسطورة، وما هو مُشاهَد بالواقع؛ ليضع إطاراً يشرح تجربة الشخصية المحورية-أو البطل- في بداية دربها الطويل؛ فنرى أن رحلة البطل تبدأ بنداء بسيط ، يكفي لأن يعزز في داخله مشاعر مختلطة حول التجربة، سواء الولوج إليها، أو الإعراض عنها، أو الاستسلام لها، ومن ثَمَّ -إذا انصاع للتجربة- يبدأ دربه الذي يقطعه عدة عتبات، تمثل اختبارات وإشكاليات، ينبغي على البطل الانغماس فيها، وحلها بالتتابع؛ وذلك حتى يصل إلى منزلة عقلية وروحية أكبر، تمكنه ببساطة من إدراك نفسه، وقضيته الكبرى، ومن ثَمَّ امتلاك النصيب الأكثر من التأثير في عالمه، وبالتبعية كلما تقدم البطل أكثر، يزيد الطريق في الصعوبة والتعقيد، فيعجز-بحسب إمكاناته- عن الاستمرار والمواصلة في دربه، وربما يضل طريقه، فيحتاج إلى قوى تلازم خطواته، وترشده لحدود طريقه، وتمده بالحيل، التي تمهد الطريق؛ ليكون بمتناول يديه، حتى لا تتكسر تجربته سريعاً، ومنها يكمل مستمراً في قصده.
إيقاع مناسب
أظهرت الكاتبة “نورا ناجي” فطنة عالية، بعدم اكتفائها بتسليط الضوء على شخصياتها، بصفتها بطلة الحكاية، وناقلتها- كما في شخصية حياة برواية الجدار- أو حاملة قضية، أو حالة شعورية تريد إيصالها إلى القراء -كما بشخصيات رواية سنوات الجري في المكان- بل ركزت بعضاً من اهتمامها حول التفاصيل المحيطة بالأبطال، من الشخصيات إلى الرموز، وبيئة المكان، بصفتها عناصر مساعدة، تظهر العمل بشكل متزن، يعطي للبطل مساحته الخاصة بالتعبير عن نفسه، وذلك كما حرصت الكاتبة بإعطاء كل شخصية صوتها الخاص في ظل قضية واحدة، كما في روايتي “بنات الباشا، وأطياف كاميليا” وصولاً إلى صنع عوالم شبه مستقلة للشخصيات، كما في لعبة الحواس لشخصيات رواية “سنوات الجري في المكان” وفي نفس الوقت من خلال طرائق متشعبة ومختلفة، لا تجعل البطل ينغلق في ذاته، ويحيد عن الفكرة، ومنه تنتقل الحبكة بشكل سلس، وبإيقاع مناسب بوجود ما يأخذ بيد البطل.
الجدار
في رواية الجدار- الصادرة عن دار الرواق لعام 2016- تتجلى تلك المعادلة بشخصية “سعود” وأثره على الشخصية الرئيسية “حياة” والذي وضحت الكاتبة قيمة هذا الأثر، بتدرج موقفها منه من عدم الاكتراث، إلى التعلق الشديد، فنجد “سعود” كما هو موصوف بكونه هادئاً وعقلانياً في احتوائه للأمور؛ لتفهمه لطبيعة النفس، وخطاياها في حق ذاتها، كما تقول “حياة” في جملة “يشعرني أنني حمقاء”، و جملة “يعرف حقيقتي وخطيئتي” يمثل الصورة الألطف للواقع المحيط بها، يد حانية يدفعها بحديثه من ناحية للبوح، والحديث عما يتعبها، ويترك لها حرية التصرف في تجربتها ومسارها، ومن ناحية أخرى يقف بقدر ما بينها وبين جدارها -انطباعها عن ذاتها وإحساسها بالذنب على ضحايا الأحداث التي عاصرتها – ويردها برفق – لعلمه بهشاشتها الشديدة تجاه الأشياء- إلى واقعها وحياتها، التي ينبغي أن تعيشها، وإن كان بشكل مؤلم، وحاسم أحياناً.
وعلى هذا السجال الخفيف تزيد الكاتبة من قيمته لدى الشخصية الرئيسية، بإدراكها مكانته وأهمية رأيه، بما يشبه طوق نجاة- فتقول له بإحدى رسائلها إليه: “سأكتب لك كل يوم”- ويتدرج من كونه بوابة تضع فيها الشخصية، ما يثقلها، إلى نافذة تلازم عالم الشخصية نفسها – فجعلت نورا ناجي مكتبه مجاوراً لمكتبها في الجريدة- ترى منه واقعها، وتجادله للوصول لحل وسط، يلائم حياتها.
بنات الباشا
يتبلور الأمر أكثر برواية “بنات الباشا” – الصادرة عن دار الشروق لعام 2021- فتتحول الشخصية المساعدة، إلى رمز يستطيع أن يتفهم، ويطلق يد العون لشخصيات متنافرة الطباع، ويأتي ذلك بسبب الغموض الذي سجلته الكاتبة، حول شخصية “نادية” ومصيرها، فكانت أقل اكتراثاً للنزاعات، والخلافات الجانبية بين الشخصيات وبعضها، معززة حضورها بخط موازٍ يلعب فيه المكان -الجامع للشخصيات، وصاحب نقطة البداية، للحديث، واستدعاء الذاكرة – كوافير الباشا- دوراً في تقبل وعي كل شخصية في وجودها، وملازمتها إياها، وزيادة على ذلك بعدم توقفها بتمهيد المساحة للحكي، أو توجيه الشخصية؛ بل تقوم بنزع العبء عن الشخصية الملازمة إياها، وجعلها خفيفة قادرة على إكمال السير، فتظهر هنا رمزية المخلص، أو الفادي، المقتبسة من العقيدة المسيحية، بشكل منطقي يليق بزمن الرواية، وواقعها.
أطياف كاميليا
أما في رواية “أطياف كاميليا” – الصادرة عن دار الشروق لعام 2019- نرى صورة مختلفة قليلاً عن الرواية السابقة، فنرى مساهمة الغموض حول اختفاء “العمة كاميليا”، وتماهيها بصورتها بالمرآة، التي استخدمته الكاتبة كمستهل جيد للرواية – في رسم الشخصية المساعدة داخل ذهن البطلة “كاميليا الصغيرة” ويزيد إغراؤها، لتتبع سيرتها، سواء كانت مذكراتها وانطباعات الشخصيات التي اختلطت بها، فتستعين به في الاهتداء لمعرفة حقيقة نفسها، وتجاوز عتبة موقفها من الواقع، وبالتبعية يفتح ذلك التتبع باباً لتفرغ من خلاله الشخصية المساعدة تجربتها الخاصة ومشاعرها، فتستعين هي الأخرى بالشخصية الرئيسية -ولكونها لم تختلط بها بشكل كبير- في عرض نفسها بشكل منصف، يكسر قيود الواقع والزمن- ومنه نرى التقاط كاميليا الصغيرة، مواطن الجمال في الصور المبهمة، التي التقطتها كاميليا العمة ، ومنه نجد بالرواية لعبة مراوغة، يتبادل فيها شخصيتان على موقع البطولة، والشخصية المساعدة، مدركين بشكل ضمني أن خلاص إحداهما، مرتبط ومتقاطع بالأخرى بشكل كبير.
تكيف ومعايشة
نستكشف من خلال ما عرضناه من نماذج، إيمان “نورا ناجي” الشديد بأن البطل لا يجري في دربه بلا حدود، أي يكون له مطلق السيطرة والاستحواذ، بل يكون موصولاً في سيره بالأشخاص، والأشياء المحيطة به، ومنه تتمكن الكاتبة في أعمالها من نسج عالم كامل، يشبه الجسد، وتبث فيه روحاً خاصة في قلب بطلها، تمكنه من الانطلاق برحلته المليئة بالأسئلة، والحيرة، والمشاعر المختلطة؛ لكنها تستطيع إيقاف تلك الانطلاقة، إن تعارضت مع المنطق، أو ترتيب الأحداث، فتجعله بمساعدة الشخصيات الفرعية أن يتكيف، ويعيش بما يقتضيه واقعه وزمنه، أو بالأحرى، يجري في مكانه، فلا يقع في فخ التصدر على حساب القضية، أو الفكرة، وهنا يخرج العمل بشكل سليم.
★كاتب-مصر.