أنيس الرافعي: تسعة لوامس مبتورة من جسم قنديل البحر!
في إطار موضوع “القصة القصيرة وتحولات الجنس القصصي”، قدم القاص أنيس الرافعي ورقته العميقة، بلغته الفريدة، ضمن فعاليات جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية، الذي أقيم مؤخرًا في جامعة الشرق الأوسط الأمريكية في الكويت، والتي جاءت على النحو التالي:
تسعةُ لوامس مبتورة من جسم قنديل البحر
من دون شكّ، ثمّة مداخل وحدوس ومقترحات وتخطيطات وخطط واستبصارات وتصميمات كثيرة لا حصر لها ، من أجل استبانة تحوّلات الجنس القصصيّ، على الأخصّ لمن ينظر إلى فن القصة من داخل المغامرة الواسعة و القصوى لطروس الكتابة، باعتبارها استطيقا لاتوطنيّة مسكونة بالنزوح والاغتراب المستمرين، وكذا بوصفها جغرافيا غير آمنة ذات نشاطات بركانيّة أو صَهَارِية دائمة .
فمن خضم هذا الارتحال الإراديّ صوب خرائطيات سرديّة غير مطروقة و مناطق قصصية محرّرة من قيود المماثلة ، ومن عُباب الارتدادات الزلزاليّة التي تنسف في كلّ مرّة المطلق والمعيار و النموذج الحكائيّ، يمكن رصد التحوّلات الجوهريّة التاليّة :
أولًا : على صعيد المعمار
حيث تجدّد المنوال السرديّ عبر ثلاث آليات مركزيّة من المجموعة إلى الكتاب :
وذلك بانتقال القصاصين الواعي والمفكّر فيه ، من محطّة المجموعة القصصيّة المنجّمة إلى مفهوم الكتاب القصصيّ الجامع ، فتمّ بذلك إقصاء تفاوتات الزمن النفسيّ للتأليف ، وتوحيد الموضوعات الكتابيّة ، ووضع التنضيد المسبق للهندسات الشكليّة و البنائيّة للمحكيات ، على أساس إضبارات تقنيّة، و مفكّرات نظريّة، و سّجلات تأمّليّة ، منذورة جميعها ، دون انقطاع، للمحو والتهذيب وإعادة النظر ، ومفتوحة ، بلا إبطاء ، على رياح التعديل و التنقيح و الهدم . وبموجب هذه العدّة الهاديّة ارتدّ القاص مهندسًا ، بيد أنّه لا يشبه غالبيّة المهندسين النظاميّين ، كونه يبدأ البناء من السقف ، ولا يحتاج إلى جدران . يفترض الأسس، ثمّ يتخيّل الأبعاد ، مثلما يحلو له و تشاء ذائقته الما بعد حداثيّة .
موسيقى المتوالية
إذ عكف كتاب القصة على توظيف مصطلحات الحلقة أو التوليفة أو المَجْمَع ، كي تشتغل حركة السرد في المتوالية القصصيّة بشكل لا خطيّ انسيابيّ ، على أساس أن تكبر تماما كالموسيقى ، وفق ديناميّة مرنة. فالحركة الأولى تغدو هي الثانية ، والثانية هي الثالثة ، دون لحظات فاصلة أو مساحات بياض شاغرة. فكلّ حكاية تموت من أجل حياة الحكاية الموالية. تسلم الروح فداء للحكاية القادمة ، وضمن هذا النسق الهارمونيّ المرتبط بالهويّة الأجناسيّة للقصة ، في اختلافها الجذريّ عن الرواية، استوعب القصاصون أهمية عدم البحث عن الشكل الأمثل داخل متاهة المتوالية ، وإنّما عن الصمت القابع في جوفها والمتكلّم بلسان أحوالها. الصمت بين نوتات القصص. الصمت المتحوّل ، في آن معًا ، إلى مفتاح وقفل للمعاني. الصمت الذي يمكن من سماع إيقاعات المتوالية وأغنياتها الباطنيّة.
تماهي الهامش والمتن
إذا كانت متن القصة سطحًا هادرًا ، فإنّ الهوامش هي أعماقه الصامتة . وكلاهما ، بالتساوي ، أضحيا بالنسبة للقصاصين بمثابة الدرجة العليا في مقياس السرد التقريبيّ المؤسّس على الافتراض . السطح والعمق لم تعد ثمّة من مفاضلة بينهما ، ولا امتياز لأحدهما على الآخر ، فهما يتبادلان ، بالتناوب والترادف، فضيلة الغايات الرحبة و الغايات الضيّقة داخل منظومة الحكي . لقد استوعب كتّاب هذا الجنس المتوعّر المحيّر جيّدًا أنّ للقصة أقدارا دراميّة ، كما لو أنّها جندي سيء الحظّ أصيب في حروب الأجناس والأنواع المفتوحة ، ثمّ تعرّض ، على نحو غادر ، لبتر عضو حيويّ. لذلك يأتي الهامش الشارح، أو البنائيّ ، ليكون بمثابة الطرف الصناعيّ المزروع ، أو المدمج ، القادر على استعادة وظيفة جماليّة مغيّبة، أو مرجأة لردح طويل من الزمن .
ثانيًّا : على صعيد الفكر
كما هو معلوم ، لكلّ فكر قصصيّ أسطوريّاته المؤثّثة ، تلك التي ستصير فيما بعد مؤهلة بدورها للزوال و التآكل والتقادم ، كي يتمّ تعويضها بمفاهيم بديلة . ومن بين هاته الأسطوريّات الراهنة ، الأكثر شيوعًا ، نذكر “المكعّب ” الآتي :
من تداخل الأنواع إلى حواريّة الفنون :
عمد كتّاب القصة إلى مراجعة طرائق تدبير عوالمهم القصصيّة ، وذلك بانتقالهم من محطّة تداخل الأنواع إلى مرحلة حواريّة الفنون والأنماط التعبيريّة الزمانيّة والمكانيّة ، فغدا الجنس القصصي مجالا ثريّا وواعدا للانفتاح والتصادي والتنافذ مع وسائط وخطابات وأساليب تعبيريّة و إبستيمية أخرى ( تشكيل، سينما ، فوتوغرافيّا ، ميديلوجيا ، موسيقى ، كاريكاتير ، مسرح ، هندسة معماريّة ، نظريّة الألعاب، رسوم متحرّكة، فنون الكوميكس ، إثنوغرافيّا….) . وقد أفضت هذه العلائق التخوميّة و البرازخ النصيّة إلى تخصيب القصة وحقن أوردتها بأمصال مدوّنات جديدة ذات قوانين إحالة مغايرة ، ممّا كان له بالغ الأثر على هويّة القصة ، التي أضحت استوائيّة في موضوعاتها
وخلاسيّة في أشكالها. لقد ودّ مبدعو القصة بهذا الفعل الانتهاكيّ المتعمّد ، أن يكسروا الفكر الجماليّ التقليديّ ، وأن ينخرطوا في تجربة الحدود ، تلك التي تمثّل اختراقًا وانزياحًا عن المقاييس الشرعيّة والجاهزة لكتابة القصة .
فقه الصنعة
انتبه السواد الأكبر من القصاصين إلى كون منجزهم هو عبارة عن أعمال أدبيّة ذات أبعاد حرفيّة أو تقنويّة خالصة. أعمال غير ناجزة على نحو وثوقيّ ، في طور الانعتاق من رواسب المعيار والفطرة ، ومن مختبر التصوّرات المسبقة ، الشبيهة بتقليم وتحذيّة حوافر الكتابة القصصيّة، إذ أنّ أي تبعيد أو نفي للصنعة ، يفضي بالضرورة إلى إفقار وإجذاب أسلوبيّة الجنس القصصيّ ، وبموجب هذا الطرح العالم صارت القصة صناعة تقليديّة داخل المجمع التجاريّ العملاق للأدب. حرفة ذات أسرار ونواميس ، طقوسها نبراس في السرائر لا قوانين معلنة على الملاء . فقه خياليّ ينضبط لأحكام شبه دقيقة ولمسائل شديدة الغموض . شرعة جوانيّة قبل أن تكون مظهرًا ، ومنظومة إشراقيّة قبل أن تكون حادثة أدبيّة. ومتى ترسخت هذي الصنعة وتأصّلت ، انتقلت إقامتها من المُجَمَّع التجاريّ إلى حجرة التفكيك الخاصّة بالمؤلّف ، حيث الإمكانات لا محدودة لاستقصاء الأصناف وتجريب الاحتمالات : قصة ما قبل النوع ، قصة النوع ، قصة عبور النوع ، قصة ما وراء النوع ، قصة ما بعد النوع ، وقصة اللا نوع.
الخريطة الجيو _قصصيّة
لا وجود في عرف الفن القصصيّ الراهن ، على الإطلاق، لقصة ما يجوز أن توسم بالمحليّة أو الخصوصيّة أو الإقليميّة الضيقة . فإمّا أن تكون ذات بعد كونيّ إنسانيّ أو لا تكون .قصة تتوق لطعن مواقيت الحاضر، علّها تستطيع جرح الأبديّة ، ومن هنا ابتدعت الأجيال الجديدة من كتّاب هذا الجرم الصغير خرائط كونيّة جيو _ قصصيّة ، خوّلت لهم التبحّر وتحقيق رحلات حج حكائيّة ، وضبط روزنامة مواعيد قرائيّة و إنتاجيّة مع مرجعيّات وذاكرات من مختلف الجغرافيّات والتيّارات والحساسيّات والأطياف والأزمنة، وبموجب هذه الخريطة الطوبوغرافيّة للذهن و الذائقة و التذوّق والتصييغ ، أضحى كاتب القصة الحالي مسافرًا سرمديّا ، ومتخصّصًا شغوفًا في الترحال السرديّ على سلسلة طرق خياليّة لانهائيّة، ذات قدرة على نسج الصداقات الأدبيّة البعيدة ، ونظم المحايثات الثقافيّة المتقاطعة ، بغرض استجلاب التقنيات والقوالب والاستراتيجيات والصيغ المستحدثة لكتابة القصة بأنفاس أكثر رحابة ورهافة . إنّ هذا المسافر السرمديّ هو جزء بنيويّ من شبكة نصيّة مترابطة ومعقّدة لا حدود لتشقيقاتها ، ولا تخوم لتناديها مع النظائر العليا والأماثل السامقة .
ثالثًا : على صعيد التخيل
يقال إنّ متخيّل القصة بدايته مضيئة ، غير أنّ نهايته ثقب أسود يبتلع كلّ افتراضات مصهر الكتابة الأجّاج ، غير أنّنا سنلتقط منه ثلاث شَظِيَّات حارقة :
من المملوء إلى فرجات الفراغ
فَطِنَ صنّاع الفنّ القصصيّ إلى أنّ الحكي موجود في الكون أصلا قبل أن تظهر القصص ، وتتطوّر فيما بعد إلى سرد ، ثمّ صارت تجريبًا فلسفته الفراغ . إذ لم يعد كافيا أن نكتب في المملوء فحسب ، بل صار من الضروريّ البحث في الفراغ القصصيّ ، وما فيه ، وما حوله. فالفراغ هو مادة صلبة أيضا لبناء المتخيّل، إلى جانب الكتلة و الحجم السرديّين. المابين أو فرجات الشيطان – إذا صحّ هذا التوصيف – في تشييد القصص تمّ إهمالها لعقود طويلة ، أو النظر إليها كفضاءات مفزعة ، لكن لحسن الحظّ استعاد الفراغ أهليّته و غائيّتة لما اعتبرت القصة كونا مصغّرًا “ميكروكوسموس” يمثّل الملء ، محاطا من شتّى أنحائه بالفراغ . إنّ خصيصة الفراغ في القصة ، هدفها الإنشاء لا المحو . كما تقوم بلاغة الفراغ في القصة على اللا انتهاء ، وتحاشي الوصول إلى نطاق معنى نهائيّ مغلق . الآن، القصاصون يكتبون كي يصير الفراغ ” مسكونًا ” بالحكي . يحلمون بفراغ قصصيّ على شكل قائمة لانهائيّة من الخدع و الأوهام البصرية الخلاّقة .
مطاردة اللاّمرئيّ
حاول القصاصون الجدد أن يتواصلوا ، من خلال نصوصهم ، مع اللاّمرئيّ، الذي يعيش متخفّيّا إلى جوار المرئيّ، وعلى مطاردة الأرواح البعيدة الحيّة أو الميّتة الكامنة في المتخيّل، في سعي منهم للقبض على الخارق والعجيب الذي يخاصر العادي والطبيعيّ داخل سيرورة حيواتنا . ولعلّ هذا الطموح المنخرط ضمن صيرورة التحوّلات والأداءات المحدثة ، توق لاكتشاف ” ما وراء القصة” ، مثلما اكتشف الفنّان الفرنسيّ بيير سولاج في التشكيل ” ما وراء الأسود” . الأسود الذي بإمكانه أن يصير هو اللّون واللا لون، والتجريب في اللاّمرئيّ، الذي بمستطاعه أن يغدو هو الحكي واللاّحكي. إنّ عمر الكتابة قليل ، غير أنّ عمر اللاّمرئي أزليّ بلا خاتمة ، وشرط اللاّ مرئي داخل القصة ، أن لا يُعَرَّف أبدًا من داخل الحدود المحروسة لنظريّة السرد.
التخييل الذاتيّ ودراما الأقنعة
وصلت القصة في السُلّم الترتيبيّ لمتخيّلها إلى مرحلة خيانة الأصل، أي نهاية الذات الخام و نفي السيرة الشخصيّة الحقيقية . إذ أضحت، تقريبًا ، جميع مقوّماتها ومكوّناتها وعناصرها تُبتكر داخل ورشة القاص الخاصّة ، ضمن يافطة التخييل الذاتيّ الصرف ، على نحو مصنوع لا مطبوع . مصنوع مثل إبرة بلا يد ، تواصل ، لبرهة ، الخياطة لوحدها في منزلة رفيعة من منازل القصة و طبائعها الفارزة . الذات طفقت تقف خارج كيانها ، وتراقب نفسها من بعيد ، والقاص لم يعد يعرض ذاته الواقعيّة الحميمة داخل قاعة زجاجيّة كي يتفرّج عليه القارئ، وإنّما يختلق ذاته على نحو تجريديّ تكتنفه الظلال ، ثمّ يقدمها على نحو مموّه لمحفل التلقّي. ولعلّ شيوع دراما الأقنعة و ” الدوبلغنجر” داخل هذه السرديات المفتعلة عمدًا ، جعل مفاهيم الشبيه والمضاعف والنسيج والمزدوج والقرين الداخليّ والآخر الذي يرفض الاختفاء من النفس و الأنا التعويضيّة ، تشيعُ وتستشري داخل مدوّنة القصة منذ مستهل الألفيّة الثالثة إلى يومنا هذا. فالقصة والقاص شيزوفرينيان ومنقسمان بلا جدال ، يتكاثران ويتضاعفان ، بلا هوادة ، داخل ماكينة التخييل الذاتيّ.
رحيق القول وصفوته ، كانت هذه بعض تحوّلات الجنس القصصي ، وكأنّي بها تسعة لوامس مبتورة من جسم قنديل بحر . اللّوامس عينها، التي طالمها امتلكها فنّ القصة بدوره، كي يجدّد على الدوام خلاياه ، ويضمن سرّ خلوده الأبديّ ، عقب موته وتحلّله في كلّ مرّة ، تماما كما يحدث لقنديل البحر غداة مرحلة “البوليب”. إذ ينتميان معا إلى عزلة البحار الصامتة وجرح الأعماق السحيقة. كما ينتسبان بامتياز إلى أفق البتر والوصل ، القادر دون نَصَب أو كلل على مداوة أطرافه المقطوعة ، أو استعادة الأجزاء المفقودة منها ، أو على إعادة تموضعها لتغدو المسافة بينها متساويّة مدوزنة متى تمّ فصمُ إحدى عراها أو مكوّناتها العضويّة . وتبقى هذه التأمّلات نسبيّة إلى حد بعيد ، تتكلّم بألسنة أصحابها فقط ، صنو القصص تمامًا ، التي هي سردُ الواحد المفرد الهامس ، لا صوتُ الجماعة الصاخب .