قصة

طارق إمام: القصة القصيرة وتحولات الجنس القصصي،تغييب الهوية أم إعادة تعريفها؟

ضمن فعاليات جائزة الملتقى للقصة القصيرة، في دورتها السادسة التي أقيمت في الكويت، بإدارة د.سعداء الدعاس، وبمشاركة القاص أنيس الرافعي، قدّم القاص طارق إمام ورقته المميزة بعين فاحصة، باحثاً في هوية الجنس القصصي وتحولاته، والتي جاءت كالآتي:

تحولات الجنس القصصي تغييب الهوية أم إعادة تعريف؟

إلى أي درجة تمثل “تحولات الجنس” انحرافاً عن “هوية أصلية” يتوفر عليها هذا الجنس سلفاً، وإلى أي درجةٍ تُمثِّل، بالمقابل، إلحاحاً على منحه هويته؟ الفارق بين السؤالين هو، في تقديري، فارقٌ في النظرة إلى الهوية.. أهي هوية مغلقة، أو نقية، لم تعد تقبل اقتراحاً جديداً، أم أن هذه الهوية لا وجود لها من الأساس، بالتالي فهي بحاجةٍ دائمةٍ للبحث عن تعريف؟

لنقل إن القصة القصيرةُ _ في ما هو متعارفٌ عليه أو مشترك في الاقتراحات المختلفة لجوهرها الحاكم _ هي (محكيةٌ)، (تخييلية)، تقع في (حيزٍ قصير)، على الأقل بما لا يجعلها تتحول إلى رواية، وهي لا تسرد حياةً كاملة، بل تلتقط شريحةً مفعمة بالدلالة، مجتزأة _ ربما _ من محكية أكبر، بحيث يغدو المجتزأُ إحالةً لكلِّي ما، وحيث الغائب أكبر من الحاضر، والظلالُ هي ما يعكس الأجساد. نحن إذن أمام عناصر محددة تُشكّل جذر هوية القصة القصيرة: كونها سردية ما، وكونها التقاطاُ لمشهد، أو واقعة، أو لحظة، مفعمة بالمعنى، بحيث يمكن أن تكتفي بنفسها دون أن تكف عن الإحالة لما لم تقله أو تستحضره إلى الحيز المطروح.

طارق إمام ،د.سعداء الدعاس، أنيس الرافعي

غير أن القصة لم تكف عن الانزياح والتحول، ذاهبةً إلى تلقيح نفسها بعناصر “وافدة”، إن جاز التعبير، من خطاباتٍ أخرى، بعضها تخييلي والبعض الآخر قادمٌ من خطاباتٍ غير تخييلية. وفق هذا الجموح، فإن القصة قد تختبر سرديتها نفسها، مبتعدة عن الجذر الحكائي حتى، في بعض أطروحاتها الراديكالية، باتجاه “الشعري”، وإلا، فكيف نقرأ قصة من قبيل ” للبيع، حذاء طفل لم يُلبس قط”  لهمنجواي، أو “حينما استيقظ كان الديناصور لا يزال هنا” لـلجواتيمالي “أوجستو مونتيروسو”، بوصفهما قصتين قصيرتين؟ الأولى تتبنى بالكامل منطق العبارة الدعائية الغائية “غير التخييلية”، لإقامة نسق تخييلي، والثانية تنزح بالكامل إلى الشعري، بحيث تغدو قراءتها فعل تأويلٍ كامل، ربما يصعب أن يشترك فيه قارئان في الاتفاق على أفقٍ دلالي واحد؟

لن تتسع هذه الورقة، بطبيعة الحال،  لتقديم خريطة بتحولات القصة القصيرة انطلاقاً من بواكيرها إلى اللحظة الراهنة، لكن ربما أقف عند بعض النقاط المحددة في نظرة القصة القصيرة لنفسها بوصفها خطابٌ “متململ”، حتى من المتفق عليه. وبشكلٍ شخصي، فكاتب هذه الورقة نشر مجموعته القصصية الأولى، سنة 1996،  دون تصنيف، لأن الناشر رفض بحسم أن يُقر على غلافها بأنها “قصص قصيرة”، ونشرها في القطع المخصص للشعر في مطبوعات الدار، حتى أن أغلب ما كُتب عنها وقت صدورها نهض على مقاربتها ككتابٍ شعري ينتمي لقصيدة النثر!

الخلخلة التي يشهدها القص حادثةٌ على المستويات كلها، فعلى مستوى الحجم، يمكن الآن أن نرى بوضوح أن القصة خلقت “تفريعات تعريفية” لها، بمسميات حتى جديدة، تظل دائرةً في فلك “القصة القصيرة”، فهناك القصة الومضة، التي قد تكتفي بحفنة كلمات تشكل بالكاد سطراً واحداً، كالنموذجين اللذين عرضتهما، وهناك، على الجانب الآخر، “القصة الطويلة”، كقصص “أليس مونرو”، وهناك الشكل القلق الذي، في تقديري، خلقته القصة أكثر مما خلقته الرواية وهو “النوفيلا”، المتأرجحة والمراوحة بين عالمين، لتؤكد على وهن الحدود الفولاذية بين نوعٍ وآخر. حيز القصة إذن كخطابٍ مدوّن فعل ما يحلو له تماماً، بحيث بات من المتعذر الوقوف عند تحديدٍ متفق عليه لما يجب أن يكون عليه طول القصة  إن أرادت أن تظل قصة قصيرة فهي تبدأ من تخوم الومضة وتقف بالكاد عند حدود الرواية القصيرة.

على مستوى التشكيل الأكثر كلية لكتابٍ يضم عدداً من القصص، لم تعد “المجموعة القصصية” هي الملصق الوحيد على غلاف الكتاب القصصي، هناك “المتتالية/ المتوالية القصصية”، التي تنحو لتشكيل الكتاب القصصي بخطةٍ كانت في ما مضى حكراً على الروايات، حيث الخيط الرابط، وربما العلاقة الزمانية _ وليس فقط علاقة التجاور _ بين نص والذي يليه أو الذي يسبقه، وهناك ملصق “كتاب قصصي”، الذي يضرب بدوره فكرة “التنوع”، الذي كان حتمياً لدى إعداد مجموعة من القصص لم تُكتب في وقت واحد أو وفق خطة بعينها، لصالح التأكيد على انسجام الفضاء الناظم والكلي لـ “نص” مفتت إلى نويات وليس نويات تشكل في الأخير نصاً، وربما لذلك خفتت حتى الطريقةُ السائدة في اختيار عنوان الكتاب من أحد نصوصه، فضلاً عن كلمة “وقصص أخرى” التي كانت تلي العنوان على اعتبار هيمنة قصة رئيسية، قاطرة، تشد إلى ثقلها قطيعاً من قصصٍ أقل أهمية أو تأثيراً.

إبداع طارق إمام

وعلى مستوى الفضاء، هناك النزوع الرهيب لاختبار السردية نفسها في إطارات ربما ترى أن الأثر الحقيقي لفن القص هو أثر شعري، وأن القصة _ بخلاف الرواية _ فن في نهاية المطاف استعاري أكثر منه كنائياً، حتى أن بإمكاننا أن نعدد تجارب غير قليلة تنتمي لما دعاه “إدوار الخراط” بـ (القصة/ القصيدة)، تلك التي يُمكن، بالقوة نفسها، أن تقرأ كمحكية وكنص شعري، بل وربما يسطو الشعري على السردي ويقمعه فيجعل منه محض تلويحةٍ من يدٍ في الضباب. وفي مصر مثلاً أسماء عديدة، من أجيال مختلفة، حققت هذه الصيغة، كلٌ بطريقته، في نماذج صارت قارة الآن، من “يحيى الطاهر عبد الله”، لـ “محمد المخزنجي”، لـ “منتصر القفاش” وغيرها من الأسماء. الذهاب بشجاعةٍ أكبر للشعري هو اتجاهٌ أعنف للتجريد على حساب التشخيص، وللاستعاري على حساب الكنائي. وربما بتأمل القصة الأخيرة ليحيى الطاهر عبد الله “رسول الموت”، نجد أنفسنا أمام حيرةٍ كاملة تخص التصنيف: “رسول الموت _ وهو مخادعٌ قادر _ خلع أثواب الحرير وعقود وأقراط وخلاخيل الزينة وتنكر في هيئة سمكة حية تسبح في ماء حلو. رسول الموت _ وهو مخادعٌ قادر _ خلع أثوابه الحريرية والعقد والقرط. رسول الموت المحب للزينة _ وهو مخادع قادر _ خلع أثواب الحرير والعقد والقرطين والخلخال _ وتنكر في هيئة سمكة كبيرة حية تسبح في ماء بئر حلوة الماء ونادى ربُ السمك عليه بلغة السمك “تعال”. الرسول قابض الأرواح _ وهو مخادعٌ قادر _ خلع ثياب الحرير”.

أيضاً ارتدت القصة المعاصرة، عبر نماذج عدة، في تساؤلها عن نفسها، للشفاهي، صيغتها الأولية، بعد أن استقرت كتدوين، فعادت نصوصٌ لاختبار جماليات النص الشفاهي، ولاستعارة أشكال تراثية من فنون “القول” في تناصٍ يعمل بلا هوادة على مراجعة جذور ما قبل التدوين . كذلك ذهبت القصة القصيرة للنظري، والنقدي، ذاهبةً للميتا سرد، بحيث يصبح المتوهم عرضة لتعرية نفسه، وبحيث يصبح الفني هو ذاته النقدي، والتجريبي _ ابن الواقع _ هو نفسه الذهني التنظيري.. حد أن الكثير من قصص كاتب مثل “خورخي لويس بورخيس” تدعي أنها ليست قصصاً بالأساس فيما هي تمارس فعل التشكيك الأعنف في التاريخ ومن ثم النوع معاً.

القصة القصيرة علِقت أيضاً بالأفق البصري، ليس في امتصاصه والاستفادة منه _ لكن بشراكةٍ حَرفية، ويمكن الآن الإحالة، إن أردنا، لمجموعات قصصيةٍ عديدة، عالمياً وعربياً، تضم في متنها تجارب تشكيلية شريكة، لفنانين بصريين، أعدت خصيصاً كجزء من التجربة السردية اللغوية/ المرئية، بحيث يُقرأ النص القصصي، أو دعنا نقول بحيث لا يُقرأ النص القصصي، بمعزل عن شريكه البصري، سواء انتمى للفوتوغرافيا أو الرسم التعبيري أو غيرها.

في القلب من هذه “الانزياحات” عن حدود النوع المتعارف عليها، والخلخلات العنيفة لما كُرس له باعتباره “أعراف” الخطاب القصصي، ثمة انزياح عميق، دافع ومحرك، بحيث لا يغدو الانزياح محض نزقٍ شكلاني يقوض جدران الزنزانة دون أن يهرف إلى أين عليه أن يهرب، أو لماذا يهرب؛ أقصد الانزياح عن صورة الفرد المكرسة نفسها؛ الفرد: الدافع والمحرك لخلق قصة، فهوية الإنسان نفسها، وموقعه المتغير من الوجود، من مركز للعالم إلى قابعٍ على هامشه، ومن نصف إله إلى حشرة، ومن مصدر للإجابة إلى مصنع للتساؤلات، تجبر فناً كالقصة _ نشأ بالأساس من سؤال الفرد لا الجماعة كفنون أخرى_ على إعادة تثوير نفسه، والإصغاء لتحولات الفرد الذي يصبح، لحظةً بعد أخرى، أشد استعصاء على تعريف نفسه، فكيف يتغير الفرد فيما تظل حكايته، طالت أم قصرت، أسيرةَ تعريفٍ نبَع من ذاتٍ لم يعد لها وجود؟


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى