علاء الجابر: خليفة الوقيان .. رسالة حب تأَخَّرَتْ كثيراً؟!


علاء الجابر★
يجلس في آخر القاعة.. يتابع بعينيه الفاحصتين الآراء، يلتقط كل حرف، ويتأمل كل كلمة.. بابتسامة رائقة وتقاطيع مريحة، يحرص على ألا يغيب عن أي نشاط ترعاه رابطة الأدباء… سواء كان لواحد من الرعيل الأول، أو لشاب ما زال يضع أولى خطواته على طريق الإبداع.
ذلك هو أبو غسان… د. خليفة الوقيان، الذي احتفلنا به بالأمس، شخصية مهرجان القرين لعام 2024، وحسناً فعل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب باختيار قامة ثقافية مثل الوقيان ، ليكون على قمة هرم الثقافة والمثقفين في الكويت، وإن تأخر هذا التكريم لشخصية بحجم الوقيان، صاحب الدور الكبير في رفد الثقافة في البلاد.

يبدو أننا أيضاً تأخرنا عن التعبير له عن محبتنا التي يستحقها، فمكانته لدي شخصياً، ولدى كل من زامله، أو عرفه عن قرب، لم تتزحزح يوماً، كوننا لم نعرفه شاعراً فحسب، نردد أشعاره، أو نقرأها، بل عَرَّاباً ثقافياً له دور بارز في تأطير جغرافية المشهد الثقافي الكويتي والعربي، وإن لم يكن للدكتور خليفة الوقيان من فضل على المشهد الثقافي، فيكفيه إصداره المهم والمميز “الثقافة في الكويت – بواكير – اِتجاهات – ريادات”، الذي أحسبه شخصياً – ويتفق معي كثيرون – بأنه المرجع الأبرز في رصد الحياة الثقافية في الكويت، منذ بداياتها في مطلع القرن العشرين بتفاصيل دقيقة هامة، تجعلك تتعرف على أوجه الثقافة ومعطياتها، وما إعادة طباعة هذا المرجع لمرات عديدة حتى اليوم، إلا إثبات للحاجة الماسة إليه، وتأكيداً على أن الباحث الحقيقي لا يكفيه أن يعمل مسحاً ثقافياً، دون أن يعيد النظر، ويبحث، ويدقق، ويراجع، وينقح، وهذا ما فعله الوقيان في جميع الطبعات، التي توالت لهذا الكتاب الموسوعي المتميز.

الأمين العام للمجلس د. محمد الجسار مكرماً الوقيان، وألطاف المطيري مديرة الحوار مع المكرم
منذ أن عرفت د. خليفة الوقيان، وهو ثابت على مواقفه؛ فلم يتلون يوماً، مع أن كثيرين نزعوا جلودهم، وقلبوا ظهر المِجَنّ، بينما بقي هو دائماً وأبداً وطنيا قومياً عربياً، يدافع عن حرية الكلمة، وعن حق الآخر في الاختلاف، ولا يتراجع عن مبادئه، ولا يحاول استخدام لغة مموهة، تحمل معاني خفية، بل كان ولا زال – في شعره أو أحاديثه – يَصْدَعُ بصوت الحق الواضح، الذي لا يقبل المهادنة، أو أنصاف الحلول.
منذ بداياته حتى اليوم، يرفض الوقيان الغلو والأصولية الدينية، التي تشعبت وتجذرت ولفترات طويلة في مفاصل الحياة عامة، ووصلت إلى الثقافة، فبقي هو كالحارس الأمين، الذي يقاتل التوغل الممتد في شرايين الأمة، بالكلمة الحرة، رغم كل ما حصد، ويحصد من العواصف والانتقادات، بل وحتى التهديد، لكنه لم يتراجع يوماً كما فعل كثيرون ممن آثروا السلامة.
أبو غسان ورغم دوره البارز في صنع مسارات الثقافة، وتأسيس مَدامِكِها في الكويت، وخاصة دوره الكبير والجلي في مؤسستين، تُشَكِّلان إشعاع وعصب الثقافة الحديثة في الكويت، وأقصد هنا المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كأحد مؤسسيه الفاعلين، ورابطة الأدباء الكويتيين، كواحد من فرسانها المؤثرين في مسارها، حتى حين يكون بعيداً عن أي منصب في مجالس إدارتها.
ورغم كل ذلك، إلا أنه لم يتمدد يوماً، أو يتهافت على تلك المناصب، أو يتمسك بها، أو يسعى إليها، بل كان يختار في كثير من الأحيان، النأي بنفسه عن تلك الصراعات، التي قد تقتل الإنسان/المبدع في داخله، ولا زلت أتذكر حين كنت في أول طريقي نحو العمل الإداري الثقافي، في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الثمانينيات، وقبل أن ألتقيه شخصياً، ولم أكن أعرف عنه إلا إعجابي – كما أبناء جيل تلك المرحلة – بديوانه “المبحرون مع الرياح” ، الذي شَكَّلَ بالنسبة لنا، وللمثقفين حينذاك، أنموذجاً مبتكراً للجمع بين الأصالة والحداثة، وجعلنا نشعر بأن القصيدة الكويتية، قادرة أن تنافس ذلك المد الشعري العربي المتأجج، والمسيطر على عقول الشباب المثقف حينها، وأن الكويت لقادرة بأمثال أحمد العدواني، وعلي السبتي، وعبد الله العتيبي، ومحمد الفايز، وخليفة الوقيان، أن تؤكد حضورها اللافت، في دائرة القصيدة العربية الحديثة.
” فلسوف أبقى صخرة صماء، تعجز أن تلين
إني لأرفض أن أكون صدى سواي، فلا أكون
إني لأكره أن أقول كما يقول الآخرون
غريب إن مضيت، وإن أتيت، وناءٍ إن دنوت
وإن نأيت كأني واقف والدرب حولي”
وحين تَعَيَّنْتُ في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كنت كلي شوق أن ألتقيه، أتحدث معه، أقترب من تجربته، لكني وحين سألت عنه، قيل لي “ما عاد هنا “، حيث كان قد استقال قبل وقت قصير، من انضمامي لأسرة المجلس.
أذكر حينها أنني حزنت كثيراً، لأن المجلس فقد رجلاً معطاءً، ومثقفاً حقيقياً، كان يمكن أن يغير الكثير في مسار الثقافة في الكويت، من خلال منصبه كأمين مساعد في المجلس الوطني، ولكنني تلَمَّستُ بواطن استقالته المسببة، التي يعرف تفاصيلها كل من عايش تلك الفترة، ونحن منهم، وأدركنا حينها تأثير استقالته، وفتحها الباب لاتجاهات لا تتسق والوعي الثقافي حينها، والتي كان مسارها سيتغير بالتأكيد، أو لم يكن لها وجود أصلاً، لو أن الوقيان استمر في منصبه.
وأعتقد يقيناً، لو أن “أبو غسان” قد عمل ضمن الأجواء التي كان يحلم بها، أو يتوق اليها ، لربحنا، وربحت الثقافة في الكويت الكثير، ولاختصرنا وقتاً طويلاً، ضاع دون أن نحصد ما زرعه الأوائل، في هذا الموقع الثقافي المؤثر.
أما المكان الآخر الذي وجد فيه د. خليفة الوقيان نفسه، وأعطى فيه الكثير، فهو رابطة الأدباء ، حيث ظل منذ بداية وجوده فيها، وحتى اليوم رمانة الميزان، وموقع الحكمة والرأي السديد، حيث كان له الدور الكبير فيما وصلت إليه، من موقع ثقافي مهم، لا على المستوى المحلي فحسب، بل والعربي أيضاً ، وأحسب أن فترات مجدها كانت مع تصدي الوقيان ورفاقه لوضع استراتيجيتها، حتى في الفترات، التي لم يكن فيها مشاركاً في صناعة القرار، أو مؤثراً فيه بسبب تغير مجالس إدارتها، لم يغب الوقيان عن المشهد الثقافي، أو ينعزل، وينزوي في بيته كما فعل كثيرون، ممن آثروا الصمت، والانعزال، والخنوع أحياناً كثيرة.
ظل المتابعَ الذي يقرأ المشهد ويحلِّلُه، ويعرف كل تفاصيله؛ يضحك لمبالغاته، ويتألم لهناته، وحين يتوهم الآخرون أن الأمر لا يعنيه، يدلو برأيه فيه، وعنه، ولكن باختياره، وفي الوقت الذي يدرك تأثيره، وضرورة التعبير عنه ، فهو ناقد بصير، حتى في لحظات صمته الاعتراضي :
” الصمت يحمد في زمان الثرثرة
والصامتون عيـــــون حق مضمرة
والصامتون مسامع وبـــــــــصائر
ومدارك وسيــــوف رصد مشهرة
غابت شموس الساهرين الحالمين
الحاملين رؤى الليــــالي المقمرة “
وهو وإن آلمه انفصام عرى القومية العربية، وتفرُّق دمها بين القبائل في فجيعتها المؤلمة في أغسطس 1990، إلا أنه أيقن أن العيب ليس في المفاهيم التي تربَّى عليها، بل في الذين شوهوها سواء باسم العروبة، أم باسم الإسلام ، لذلك لم يغيِّر قناعاته، أو يستبدل جلده العربي القومي، ويتنكر لعروبته، أو يرتدي مسوحاً آخر، كما فعل كثيرون، بل تَمَسَّك بها أكثر، ودافع عنها حين تخاذل الكثير:
” نحن عرب، وليس لدينا خيار آخر، وطالما ننتمي إلى أمة تمتد من المحيط إلى الخليج، وقوامها مئات الملايين من البشر، فلماذا لا نستفيد من البعد الاستراتيجي للأمة، بدلاً من الاضطرار إلى الاستعانة بالأجنبي، لمواجهة التحديات، والمعوقات المختلفة”.
وفي الجانب الأدبي، ورغم تحيزه للشعر كشاعر فحل، إلا أنه وبحكمة المبصرين من أمثاله، لم يستهن بالتغيرات الفكرية والثقافية، التي شاعت في زمننا الحالي، خاصة فيما يتعلق بالأجناس الأدبية، حين تصدرت الرواية المشهد، وتوارى الشعر في خلفية الصورة ، فلم يرفض ذلك، أو يَدَّعِي عدم وجوده، بل حلَّلَه بمنطق الحكيم المتمرس: “لا تحزنني كثرة من يكتبون الرواية، إن كانوا حقاً من الروائيين المبدعين، وتنوُّعُ تجاربهم إثراءٌ للحركة الثقافية، وأحسب أن أحد أسباب اندفاع الكتاب نحو الرواية، اِنصراف القُراء عن الشعر، الذي فقد أهم أركانه، وأعني بذلك الموسيقى، فالتجارب الشعرية الحديثة، تميل نحو قصيدة النثر، وقصيدة النثر ليس لها ضوابط مثل الشعر العمودي، وشعر التفعيلة، الأمر الذي شجَّع غير المؤهلين، لكتابة الشعر، فجاءت تجاربهم سيئة، ومسيئة لفن الشعر.
السبب الثاني هو أن كثيراً من الشعراء المعروفين أسرفوا في التجريب، والتعمية، ففقدوا بذلك القاعدة الواسعة من المتلقين، وأصبحت تجاربهم نخبوية.
السبب الثالث هو أن الشعر الحقيقي، لا يتأتى لكل أحد، إذ ليس في إمكان من لا يملك الموهبة أن يصبح شاعراً”
الصور بعدسة : محمود رجب
لكل ذلك يأتي تكريم د. خليفة الوقيان، في مهرجان القرين في دورته الـ29، الذي يُشكر عليه القائمون في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، تتويجاً للثقافة، ولجميع المثقفين في الكويت، ممثلاً في شخصه، ورسالة تقدير تأخرت كثيراً، كما هي رسالة الحب، التي أكتبها له الآن، والتي جاءت متأخرة عقوداً طويلة، لإيماني الكامل، بأن “أبو غسان” سيعذرني عن هذا التأخير ، لأنه يعلم علم اليقين مقدار المحبة الكبيرة، التي أُكِنُّها له، وإن لم أَبُحْ بها على الورق من قبل!.

★رئيس التحرير.