شيماء مصطفى: ” زهرة” لميسلون فاخر..عراقيتك قدرك أينما حللت.
شيماء مصطفى ★
” عراقيتك قدرك أينما حللت” العبارة الأكثر شيوعًا في رواية (هولندا لا تمطر رطبًا) للكاتب علاء الجابر، لا أنكر أننا -في مصر – لا نعرف الكثير عن النظام هناك، فقط سمعت مرارًا من يتغنون بأمجاد صدام حسين، وللعراقيين رأي غير ذلك، وأتفق معهم؛ عملًا بمقولة “أهل مكة أدرى بشعابها”، كنت أظن أن العبارة لصاحبها بطل هولندا، ولكن بعد إطلاعي على الأدب هناك، صرتُ على يقينٍ تامٍ، بأنها عقيدةٌ راسخةٌ لدى كل العراقيين.
فحين تترك عراقك حتى وإن كنت صغيرًا، يظل العراق ملازمك، مذاق طعامه على أطراف لسانك، رائحته في أنفك، صورته في ذهنك، عاداته التراثية تحيها لتشعر بدفء الوطن.
تدور راوية(زهرة) لميسلون فاخر حول معاناة اللاجئين الذين يظنون أن بلجوئهم للغرب وجدوا ملاذًا آمنًا بعيدًا عن قذائف العدو، فيصعقون بواقعٍ أشد فتكًا من تلك القذائف حين يُسلب من ما هو أثمن من الروح، فيدركون أن كل مكانٍ دونه سجن.
هناك أعمالٌ بعد قراءتي لها أعرف جيدًا ما سأكتبه عنها، وهناك أعمالٌ لا أريد أن أقول رأيي عقب الانتهاء من القراءة ليس لأني لا أملك من المفردات ما يمكنني من التعبير عما يدور برأسي، ولكني أفضل أن أبقى لأيامٍ رفقة الرواية، ليقيني التام بأن الطرح أبعد من المباشرة.
وفي رواية زهرة ظللتُ أفكر: لا في زهرة، لا في فاتن، لا في كايسا، ولكن في أكذوبة من يدعون أن الوطن يلفظ أبناءه.
كما لو كان بجماليون
عاشت سارة ممزقة بين أندش وأمها بالتبني وذكرياتها العالقة لبلد لا تعرف عنه إلا القليل.
فأندش تعامل معها كما لو كان بجماليون وهي منحوتته، ولكنها أفلتت من قبضته، ورب خلاف نشب بينهما ساهم في الوفاق، فمع الوقت أعادت اكتشاف نفسها، وتغير أندش هو الآخر، فخرجت علاقتهما من حيز الامتلاك والاستحواذ على العقل، وقولبته داخل نمطية بعينها، لحرية وتقبل ودعم حتى في لحظات الانفصال، فإن أحببت أحدهم حرره، فبدا للحب سحر خالص عظيم الأثر، فنجد دعمها للمقهورين لم يعد بالقول فقط، بل الفعل، فتحركت المياه الراكدة لتصير رافدًا من بلاد الرافدين.
ثمة حضور قوي للفن ومؤثر في البناء للعمل، فأندش وسارة جمعهما الفن، فمهد بدوره تقبلهما للنوائب من الأحداث فيما بعد.
أهم ما يميز الرواية ليست في دائرية البناء لأشخاصها، فلا سارة هي بودي ودودي، حتى وإن قامت سارة بجهد لا يستهان به؛ كي لا تتركهما فريسة للتبني مثلها، وإن فُسر دفاعها عن فاتن وتضامنها معها في الحفاظ على صغيريها من منظور فاقد الشيء يعطيه، ولأنها تمنت لو كانت أمها مثل فاتن، أو لو عاد الزمن للوراء وتجد من ينقذها، ولكن في بنية الشخصيات فكل شخصية لها مساحتها التي تتعامل وفقًا لها، فنجد مساحة لفاتن، لمحمد، لزياد، مريم، سلمى، المساحة المخصصة لشخصية كايسا وأندش كانت مناسبة لهما أيضًا، فالقضية ليست ستوكهولمية، بل عراقية خالصة، برزت موازنة خفية في موقف القضاء الغربي من تأثير السوشيال ميديا، وقضايا الرأي العام.
” كيف يمكنني الوصول إلى منطقة أكون فيها أكثر سعادة؟ ضغطت بكل قواي على زر الفراق في قلبي وتركت أندش يذهب وحيدًا، على الرغم من حزني الشديد وأنا ألمح نظرة عينيه، مشى بهدوء في تلك اللحظة لنسياني، إن الجهد المطلوب للاحتفاظ بعالمه المرتب الحصين الدافئ هو مقدار الجهد المطلوب نفسه لمغادرة عوالمه ودخول عالمي الآخر ولزعزعة حياتي معه وإجراء هذا التغيير المفصلي في علاقتنا، ولاستحضار مفاتيح لحياة أخرى”
من ستوكهولم هنا العراق.
في عالم النبات، لكل نبات تربة يفضلها، فنجد الأرز يتناغم مع التربة الطينية الثقيلة، ونجد البطاطس تنساب داخل التربة الرملية، ونجد الزهور تتراقص مع التربة الكستنائية الداكنة؛ لذلك فإن زهرة العراق لا يمكن أن تترعرع وتكون سارة في ستوكهولم، ولهذا كان من المنطقي جدًا وجود تلك الفجوة داخل سارة، فهي ليست سارة، وتربة ستوكهولم ليست تربتها.
ثمة نقطة جوهرية تكمن في سميائية الاسمين للفتاة(زهرة/سارة)، فسارة الاستكهولومية نجد الاسم شائع لدى كل الديانات، وزهرة العراقية حين بحث زياد ليعرف انتمائها سنية أم شيعية وجد حتى جذورها متواجدة في كل الطوائف مما يوحي بأنسنة القضية بشكلٍ عام، ويؤكد على أن العراق كله واحد من الأساس.
ثمة نقطة أخرى تؤكد أن الوطن باق حتى طالما وجدت بداخلك العادات.
فمحمد ما زال يعمل من أجل جده وجدته في العراق، ما زالت فاتن مستمرة في زيجتها من وليد المدمن خشية أن تتوتر العلاقات بين أهلها وأهله في العراق، سلمى ما زالت تراسل أهلها هناك، زياد ما زال بزيه وأفكاره التي عاش بها فترة تواجده في العراق، مريم ما زالت تجيد الأكلات الشعبية العراقية، وتعدها لهم في الاحتفالات كعيد زكريا، حتى سارة ثلاثون عامًا كسارة لم تنسها السنوات الثلاثة الأولى في حياتها كزهرة في العراق، ثلاثون عامًا في ستوكهولم عجزت عن دثر ثلاث سنوات في العراق.
سامقة كنخلة عذبة كناي.
أجمل ما في الرواية من وجهة نظري ليست في نوع القضية التي يناقشها العمل وإن كان هذا جميلًا، فطبيعي أن نرى الكاتب مثقلًا بقضايا وطنه، والعراق خالد في وجدان مبدعيه، ولكن في براعة الخيوط التي تبرز للغرب أننا لسنا بحاجة للقوانينهم، لسنا بحاجة لأموالهم، بحاجة للحب للسلام، أن يتركونا وشأننا، فسارة لم تكن بحاجة للألعاب، ولا الهدايا، لم تكن بحاجة سوى لأم، لحضن أم؛ ولأنها تقبلت الماضي وتصالحت معه، لم تعد تكرر أمي بالتبني وأمي البيولوجية، لم تعد تلوم كايسا أمها بالتبني على جمودها في التعامل، لم تعد تلوم أمها البيولوجية ليلى على عدم تشبسها بها حين أخذوها عنوة للتبني، ولهذا كانت سامقة كنخلة عذبة كناي أمام المحكمة في ستوكهولم مدافعة عن بودي ودودي صغيري فاتن، ولهذا أيضًا شعرت بها كايسا وتضامن معها ومع فاتن ليست المحكمة وحسب، بل الكثير من أبناء ستوكهولم.
“وهـا أنـا أعـود لكايسـا بجـذوري التـي أعـدتُ اكتشـافها عـن وعـي بعدمـا سرقت منهـا وأنـا طفلـة لا تفهـم مـن الحياة سـوى حضـن أمها”.
” من الصعـب وربما مـن المستحيل أن تتبنَّـى جذورًا ليسـت جـذورك أو تدَّعـي حقيقـة جينيـة هي غير حقيقتك التي خرجت بها من رحم أمك ، إنني الآن أفخـر بها فلم يعد يزعجني تميزي بها هُويتي، فهي أنا”.
المتابع لأعمال ميسلون فاخر الروائية والوثائقية سيجدها مثقلة بقضايا العراق، وسيجدها تميل لأنسنة القضايا مع التقبل غير المشروط للآخر.