رأيمسرح

حسام الدين مسعد: ليس إعلانا بموت المؤلف!

حسام الدين مسعد★

لا تحاول يا عزيزي القارئ أن تبني أفق توقعك الخاص عن موضوع هذا المقال وخطابه من عنوانه الرافض لموت المؤلف،او يتبادر إلى ذهنك أنني استدعي “رولان بارت “كي  اشرع في الحديث عن الكتابة النصية لمسرح الشارع،الذي يلتصق بالعديد من عناوين مقالاتي ،فعنوان هذه المقالة في الأصل تعبير مجازي عن رفض فكرة المركز الذي يدور المعنى حوله، وتحرير للنص”المقالة” من أي هيمنة فرضت عليه تسعى لاختزاله في اتجاه ذا بعد واحد،فمعنى اي شيء نقوله دائما مؤجل لأنه يعتمد على ما سنضيفه،ثم أن أي كلمة يعتمد معناها على الأمور الأخرى التي لا تعنيها، فحين نستدعي مقولة” جاك دريدا “(لاشيء خارج النص ) فإننا نعني أن النص يخلق واقعه،ويفرض نفسه ويكون مجاله.

-لكن هل يستقيم الحال في مسرح الشارع الذي يعتمد على الفكرة المبنية على فرضية نحن الآن وهنا ؟

إن عروض مسرح الشارع تعتمد على الارتجال وطرح التساؤلات على جمهور المتلقين مباشرة أو ضمنا، أي أنها تعتمد على الحوار المباشر مع الجمهور المستهدف لمكان العرض، وبالتالي فإن الرسالة الإتصالية في عروض مسرح الشارع تتطلب السعي لإيجاد لغة مشتركة لتوصيلها لا سيما أنه من خلال دراسة الجمهور الذي يستهدف مكان العرض قد يتضح لصناعه أنه من فئة الجمهور العام غير متحدِ اللغة أو اللهجة،وبالتالي فإن النص الذي نقصده في عروض مسرح الشارع هو النص الدرامي “السيناريو”وليس النص الأدبي الموجه للقاريء والذي له إطار بنيوي محدد ، فنصوص مسرح الشارع هي نصوص ذات إطار مفتوح تعتمد على الحوار الديالكاتيكي أو عرض الحجج والبراهين للطرف الآخر، ودون فرضها عليه، لذا فإن الإرتجال الذي يعتمده مسرح الشارع، مبني على الدراسات الديموجرافية والسيسيولوجية والسيكولوجية التي تدرس علاقة المكان الممسرح بالمتلقي المستهدف له ومن ثم تمكن صُناعه من وضع محددات الرسالة النصية القائمة على الفكرة التي تراعي دراسة قضايا واحتياجات الشارع،او المكان المنتخب للعرض،وهذا يعني أن فكرة العرض يجب أن تبنى على فرضية نحن الآن وهنا ،لنتحدث عنكم،ونناقش قضايا هذا المكان،ونفتح لكم هذا الفضاء لتفريغ ما اخفيتم بدواخلكم،ومن ثم أيضا تمكن هذه الدراسات لفضاء العرض، وجمهور المتلقين المستهدف له، من  تحديد تقنيات الأداء التمثيلي التي تساعد المؤدي الباث في تبليغ رسالة العرض ومن ثم تحقيق هدف الإتصال المتوقع من هذه العملية الإتصالية والتي يكونا للمؤلف والمخرج دور رئيس وهام في توجيه المؤديين من خلال التدريبات ووضع محددات الرسالة النصية التي تعتمد على النص الدرامي الذي يدون الإرتجال أولًا بأول .

لكن يظل السؤال عالقاً هل استمرار حياة المؤلف،تعني ميلاد القارئ؟ ام أن ميلاد الأخير رهيناً بإعلان موت المؤلف؟

لقد وجد “بارت ” أن ميلاد القاريء رهيناً بإعلان موت المؤلف،إذ للقارئ الحرية الكاملة في تأويل النصوص حتى لو جاوز البنية الدلالية الواضحة للنص.

 لذا فإن دور القاريء للنص الأدبي يماثل دور  المتلقي في عروض مسرح الشارع الذي يكمن في بلوغ الآثر الناتج عن التفاعل الإجتماعي الإيجابي مع العرض .لإرضاء رغبة لديه في المشاركة والتحول أثناء العرض من مشاهد إلى متلق ثم إلى متلق ممثل أو مؤد يلقي بحججه وبراهينه إلى ممثل أو مؤدي تحول إلى متلق، اي أن المتلقي يغلق النص دون ذات المؤلف، وينفتح على موضوعه، وفضائه الدلالي، ببلوغه الغايات الدلالية من العملية الاتصالية في عروض مسرح الشارع.

-تكمن الغايات الدلالية، التي هي هدف الإتصال المتوقع من لدن صناع عرض مسرح الشارع بالمتلقي له في رسالة إتصالية تتلخص في عبارة واحدة مؤداها “نحن ندرك كل شيء “،فكيف لصناع مسرح الشارع أن يحققوا تلك العبارة كغاية دلالية،او كرسالة إتصالية ؟

-لاشك أن فوضوية المؤدي التي تصادف المتلقي في فضاء عرض مسرح الشارع، وتنطلق من مسرحة هذا المكان المنتخب للعرض خارج العمارة المسرحية، تخلق نظام جمالي ناتج عن عملية المسرحة، فالمكان الممسرح، هو “ذلك الحيز أو الفضاء المادي الطارئ المشغول من خلال وجود المؤديين وعلاقاتهم بالجمهور او المتلقين”،وحيث إن طبيعة المكان غير الثابتة في مسرح الشارع تخلق تلقائيا جوا من التحفيز ينطلق من حيوية الشارع، ومسرحه الذي ينبني شعار إستخدام كل المساحة المتاحة جغرافيا ودون تقسيم بين منطقة الأداء، ومنطقة التلقي التي تذوب في عروض مسرح الشارع، فإن وضع المتلقي في عروض مسرح الشارع ذلك المكان المحايد خلق تحديًا أمام صناع مسرح الشارع ينبغي بحثه،ودراسته جيدا قبل الشروع في تنفيذ عروض مسرح الشارع، وكيف تمنحه(المتلقي) إحساس مغاير لوضعه، وهو يشاهد عرض مسرحي في قاعة مسرحية،مما يعني الزج بهذا المتلقي داخل رقعة الحركة والتمثيل من أجل إخضاعه لتجربة مغايرة بها نوع من الصعوبة، والمتعة، وإحساس التشاركية التي يجد المتلقي نفسه فيها جزء من نسيج العرض.

-إن هذه التشاركية، هي امتزاج كل عناصر المسرح في منطقة فضائية واحدة هي فضاء الشارع الذي يدخل في حالة صيرورة الإندماج الذاتي مع عناصره مكونا سينوغرافيا طبيعية قائمة بذاتها.

-لذا فالخيال الذي يخلقه او يصنعه الممثل،او المؤدي في مسرح الشارع يتحول تلقائيا إلى مدرك حسي بطبيعة المكان، وحدوده الجغرافية، والزمانية.

-إن إدراك المتلقي لخصوصية  المكان عامة يحدث التحول في ذهنيته من مجرد تصور اللعبة التشخيصية التي تحدث امامه إلى وعي بأن ما يشاهده حقيقة، ومن هنا يصبح المكان  الممسرح في الشارع والذي ليس وظيفته الأصلية العرض المسرحي، مكان يعتمد التجسيد الخيالي من خلال التوظيف الأشاري لهذا المكان الفارغ العشوائي.

-إن التعارض بين العرض والمكان عادة ما يؤدي إلى تحييد تأثير العرض ذلك ان قابلية تحول المكان إلى مكان ممسرح تتسق مع الرسالة، والموضوع الذي يكرسه المكان في اسلوبه، فعلي سبيل المثال لا الحصر،إذا تم طرح مشكلة وضع المقاعد على الأرصفة خارج المقهى وكيف تؤثر على حركة المارة علي الرصيف  وتعرضهم للخطر اثناء سيرهم في الشارع ؟فإن الرسالة التي يطرحها هذا المكان العارض بوضعه المقاعد على الأرصفة، هي رسالة دعائية لجذب المارة ليكونوا من رواد المقهى ، لكن الرسالة الأصلية، هي رسالة الشارع الذي يصبح الرصيف فيه ملاذا لكل المارة، فإذا كان العرض المقدم في المقهي متفق مع موضوعه، ومتسق في اسلوبه مع النظام الذي يكرسه المكان (رصيف الشارع) ازدادت قوة تأثير العرض.

-إن الممثلين في مسرح الشارع عليهم أن يستهدفوا المشاهدين المصادفين عشوائيا للعرض، وأن يكونوا حيز العرض،بجعل هؤلاء المشاهدين متلقين، ولذا فإن المكان في الشارع اصبح بعد مسرحته مكانا ماديا مشغولا بالمؤدين والمتلقيين، واكتسب صفة الفضاء المسرحي الذي يشترط لتحقق هذه المسرحة هو حركة الممثل فيه ووجود جمهور المتلقين داخل حيزه، معتمدا على نمط عشوائيته أو شكل تكوينه الطبيعي أو المعماري، ولذا فإن فضاء الشارع الممسرح هو فضاء محدد وسينوغرافيته سوف تشمل منطقتين هما منطقة الأداء، ومنطقة التلقي، اللتان تذوبان في لحظة تتمحور حول أبعاد قيمية وإنسانية،  فالمكان في مسرح الشارع لايعطي المتلقي احساس إنه يشاهد عرضاً أو لعباً متأثراً بالفضاء التخيلي، أو الوهمي، ويرجع ذلك لأن عروض الشارع لا تستخدم فيها الإضاءة المسرحية وعادة ما تعرض نهاراً، فتنتفي الفضاءات الوهمية والنفسية والتخيلية، حتى لو تم استخدام الإضاءة المسرحية، فإن الفضاء في مسرح الشارع أصبح وحدة واحدة مندمجة لعدم الفصل بين المتلقي، والمؤدي في عرض الشارع.

-ان العشوائية الجغرافية تبقي على حالها في شكل ومحتوى المكان المختار للعرض، وبالتالي فطاقة الممثل تتناسب طرديا وتلك العشوائية، فطاقة الممثل في عروض مسرح الشارع كمكان ممسرح بعشوائيته الجغرافية، قد يعطيه الانفلات في الإرتجال وقد يدفع الممثل،أو المؤدي إلى التمرد والمشاكسة على الارتجال، والذي يعني فن الخلق في لحظة التنفيذ، وهذا الانفلات الارتجالي نابع من هواجس صناع مسرح الشارع القائمة على إمكانية توليد علامات متدفقة، فالمكان في مسرح الشارع غايته توليد إشارات مسرحية، بلا حدود لتدل على معاني متناهية ناتجة عن التشكيل في المكان، او الفضاء، أو حيز الشارع .

-هذا التشكيل في مساحة المكان لا يهتم بالمساحة من الناحية النظرية، بل يهتم لكونها اصبحت أداة تميز لنشوء علاقة بين الباث، والمُستقبل لا تتحقق إلا بالتركيز الذي لن يتأتي إلا إذا توحدت الرؤية في ظل ظروف موضوعية بين المساحة والأداء.

-لذا فإن طبيعة الأداء في الشارع تكون ذات خلق وارتباط المبدع بالمكان ذاته،فالمكان في مسرح الشارع يشكل العرض، ويشكل طبيعة الأداء، وبالتالي، فإن المكان يعتمد قيمة ما يقدم من شكل، ومضمون للعرض، وقيمة أداء الممثل،او المؤدي لبلوغ الغايات الدلالية لعرض مسرح الشارع،وحتى يتسنى لصناع العرض الشارعي أن يبلغوا هدف الاتصال المتوقع بمتلقي العرض يجب أولاً أن يدركوا كل شيء في تلك العملية الاتصالية،ويعوا جيدا طبائع الفضاء المادي الطارئ المعمارية، والجغرافية، والانفلاتية، وكيفية التغلب على المعوقات التي تواجههم،وتكون سبباً في إيقاف العرض أو إلغاءه في هذا الفضاء المنفلت،إذ أن المكان في الشارع يكتسب جماليته من كونه فضاء صاخب، ومنفلت تتحرك فيه الدلالات بسهولة ويسر ولأن هذا المكان هو في الأصل فضاء للمتلقي الذي تتم مناقشة قضاياه اليومية فيه،
فإن الدراسات الديموغرافية، والسيسيولوجية، والسايكولوجية للمتلقي المُستهدف لهذا الفضاء ستعين صناع العرض على وضع محددات الرسالة الاتصالية التي مفادها “نحن ندرك كل شيء “.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ناقد – مصر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى