روايةفنون وآداب اخرى

ميادة سليمان: قراءة نقديّة لرواية (صعودًا نحو الحُبّ)

للكاتبة السّوريّة أحلام برجس أبو عسّاف

ميادة سليمان★ 

العنوان والإهداء:
صعودًا نحو الحبّ، والصّعود هو التّسلّق، والعلوّ، والارتقاء، وحين ينهي القارئ الرّواية، سيعلم أنّ الصّعود الّذي عنَتهُ الكاتبة، هو الارتقاء، والتّسامي، والمسامحة، وقد عزّزت الكاتبة مفهوم الارتقاء والتّسامي مباشرةً بعد العنوان، من خلال الإهداء، فقد جاء فيه:
” كلّ ما تحبّه هو أنت، هو صورة مصغّرة عنك، فاختر ما يليق بك ”
والقول للأديب والفقيه الفارسي محمّد بن بهاء الدّين البلخيّ المعروف بجلال الدّين الرّوميّ(١٢٠٧/ ١٢٧٣م)

الروائية السورية: أحلام أبو عساف
الروائية السورية: أحلام أبو عساف

المضمون:
تبتدئ الرّواية بعيد ميلاد بطلها (عدنان جايد الدّمشقيّ)، وهو يطفئ الشّمعة الخامسة والسّتين من عمره، فيستعيد شريط ذكرياته ويتذكّر ذلك اليوم المشؤوم حين طردَ والدُه أمَّهُ بتهمة أنّ لها حبيبًا فلسطينيًّا، ويسمح لها أن تأخذَ (مهران) ابنه الأكبر، ويستبقي لديه (عدنان) ابنه الأصغر المدلّل لديها إمعانًا في قهرها.
سيبدأ عدنان سرد قصّة وجعه الّتي يصفها بقوله: ” الشّمعة الوحيدة فوق قالب الحلوى يتراقص لهيبها، تنتظرني لأطفئ سنواتي الّتي عشت، ويعلو التّصفيق، لكنّني لم أفعل، وعوضًا عن ذلك علا صوت أذان الظّهر من المسجد القريب، ومعه سمعتُ صوت أمّي الموغل في القدم كقصيدة (اكبَر وتعال)
وستظلّ هذه الجملة تتردّد في سمعه طوال سنوات، ولا سيّما أنّ أمّه ستتزوّج الرّجل الفلسطينيّ وتنجب منه ابنتين، فتنقطع صلته بها حتّى يلتقيها في عمر متقدّم، وقد أصابها الزّهايمر.
أمّا عدنان الطّفل فتبدأ معاناته حين يقرّر والدُه وضعَه في ميتم في قرية صوفر اللبنانيّة بنصيحة من سائق لبنانيّ اسمه موسى، كان ذلك عام ١٩٦٢ بعد إكمال عامه السّابع بيوم، فيصف لنا عدنان طريقه إلى الميتم، بوصف يؤكد لنا أنّه مهما كان الطّريق جميلًا مؤنسًا، فإنّنا سنراهُ بشعًا، وموحشًا حين نكونُ في حالة حزن، وألم، يقول عدنان:
“كانت نظراتي لكلّ ما حولي تشبه الابتهال، أن أبقى إلى جانب أبي في شاحنته الرّماديّة الّتي تعبر الحدود الدّوليّة إلى العراق وإيران منطلقة من بيروت، محمّلةً بالتّفّاح المعدّ للتّصدير.”
في الميتم، يصف لنا عدنان الكثير من الأشياء، كدليلٍ على أنّ الطّفل مهما كان حزينًا، فهو يحتفظ بدقّة الملاحظة، يدلّل على ذلك وصفه للتّماثيل الّتي رآها أوّل دخوله، وتكرّر وجودها في غرفة المديرة (الأخت جورجيت)، ووصفه المؤلم للدّفتر الّذي كتبوا فيه اسمه:
” قامت بتسجيل اسمي في دفتر كبير، لم أرَ دفترا أكبر منه، غلافه بنيّ..”
ومن ثمّ حالته حين نادوا ماريّا لتأخذه إلى غرفته، يقول:
“فجأة أسعفتني يد ناعمة، ومازلت أحتفظ بتلك الذّكرى في مخازن روحي، التفتُّ نحوها وشهقتُ: أمّي؟!
ابتسمت لي، فقابلني والدي بعبوس.”
سنرى لاحقًا أنّ القدر ساقَ إليه هبة تجلّت عبر (ماريّا) الشّابّة الّتي تعمل في الدّير، فستعتني به كثيرًا، ويشعر بقربها بحنان الأمّ، وستسمح له بالنّوم قربها، وفي حديثها معه دائمًا تخاطبه بِ: يادادا.
ستنتهي رحلته في الميتم، حين يصبح في الثّانية عشرة -حسب قوانين الميتم- لتبدأ حياة جديدة مليئة بالأحداث والمغامرات، ليعيش مدّة عند عمّته وداد، وبعدها يسافر إلى لندن ليدرس، ويتعهّده صديق والده (محمود) فيقيم عنده، ولاحقًا يتزوج زوجته (شيرين) بعد وفاة زوجها، شيرين الّتي تكبره بعشرين عامًا تخدعه، وتقول له بأنّ وجوده معها في المنزل يجب أن يكون شرعيًّا، لذا عليه أن يتزوّجها لتمنحه الجنسيّة، وطوال تلك المدّة لا ينقطع عن مراسلة ماريّا، لكنه لم يخبرها بأمر زواجه منها لأنّها كانت توصيه بجسده، وتقول له:
” انتبه لنفسك، لقد بلغتَ يا دادا”
وتمرّ أيّام ينقطع فيها عن مراسلتها، فيتفاجأ بها تطرق باب بيته وهو مع شيرين حيث قدمت ماريّا إلى لندن لتتعلّم اللاهوت:
” ماريّا حطّ بها الرّحال هنا مع عدد من المطارنة والخوارنة، كانت في بعثة لدراسة اللاهوت في بريطانيا.. لم تذكر ذلك في رسائلها المتبادلة معي… ولكنّها قرّرت مفاجأتي”
وترى ماريّا عدنان بحالة مزرية، فتنقذه من شيرين، وبعدها يتزوّجها رغم فارق العمر والدّين، ليعيش لحظات الحبّ الحقيقيّ معها.
أحداث كثيرة، وتجارب حياتيّة يعيشانها، ثمّ تنتهي سعادة عدنان برحيل ماريّا بمرض خبيث، ويتخبّط في حياة ماجنة، ليتزوّج لاحقًا بعفراء، وهي شابّة تصغره بعشرين عامًا، ويمارس عليها سلطته الذّكوريّة القمعيّة، متقمّصًا بذلك شخصيّة أبيه، وتكون ثمرة زواجه منها (عامر وهند)، تنتهي الرّواية بوفاة زوجته، وأبيها في أحداث الحرب على سورية، والجدير ذكره أنّ الكاتبة أتت على ذكر بعض الأحداث السّياسيّة مثل:
(نكبة حزيران، قضيّة الجولان المحتلّ، أحداث أيلول الأسود ١٩٧٠ في الأردن، وخروج القوّات السّوريّة من لبنان عام ٢٠٠٥)
كما ورد في روايتها ذكر العديد من الأماكن وهذه كلّها تعطي حيويّة لأحداث الرّواية، نذكر مثلًا: (بيروت، منطقة ظهر الوحش، وقرية صوفر، وميتم الأب قرطباوي في لبنان. الأردن، حيّ المزرعة، القيمريّة، باب توما، الرّبوة في دمشق، الكحّالة، تايلاند، تشيلسي، معبد وات أون، فندق بريستيج..)
بالإضافة إلى تعدّد شخصيّات الرّواية وتنوّع أديانها، وجنسيّاتها، وعاداتها، فقد وصلت إلى ما يقارب خمسين شخصيّة وصفت الكاتبة بعضها بدقّة، وأخرى كان لها دور ثانويّ فكان ذكرها عابرًا.

المرأة في الرّواية:

* ركّزت الكاتبة على المرأة الضّعيفة المحكومة، نجد ذلك من خلال شخصيّات:
١. ماجدة أمّ عدنان:
عندما كانت في منزل أهلها تمّ تزويجها رغمًا عنها لجايد الدّمشقيّ:
” نوديَ على ماجدة فلم تردّ… ولم تهرع لتلبس فستانها…” ولاحقًا لم تكن تستطيع أن تقول: لا، حين يدعوها زوجها إلى الفراش، فتكون حياتها معه جحيمًا لا يطاق، وهي تشعر بأنّه يغتصبها بدلًا من أن تكون سعيدة معه، يقول عدنان:
“لم تشفع له ثروته الهائلة، وجمال قدّه…كي يضحك أمّي وتبتسم،…. كأيّ رجل في ذلك الزّمان يجيد الغزل مع كلّ النّساء عدا أمّي”
وأقسى مشهد هو خروجها من غرفة النّوم بيدها المكسورة، وهي تبكي بسبب طرد زوجها لها، الصّورة الأليمة الّتي سترافق عدنان حتّى كهولته، فيقول:
” خسرتُها… ودّعَتني بدموع…وثوب نوم أخضر لا يزال ماثلًا أمام عينيّ، وربحت أبي وإيران وبيروت وميتم الأب قرطباوي..”

٢. وداد عمّة عدنان:
المرأة المغلوبة على أمرها، فهي تحبّ ابن أخيها، وتتمنّى لو تستطيع تربيته حين يسألها أخوها جايد أن تبقيه عندها، ويتكفّل بمصروفه، لكنّها ترفض بأسى:
” اغرورقت عيناها بالدمع وصوتها بالكاد يُسمع: ياريت لك أخي”
ثمّ مرّة أخرى تقول:
” زوجي يا أخي، وما بدي أخرب بيتي.”

٣. عفراء الزّوجة الثّالثة لعدنان:
بعد وفاة ماريّا الحبّ الأخير في حياة عدنان حيث يقول عنها:
” امتلأ العقل والجسد بها، أرفض مغادرتها من رأسي ومسكني..”
لذلك سنراه يغرق في الملاهي الليليّة، وبعدها يطلب من عمّته أن تبحث له عن عروس بنت حلال كعادة الرّجل الشّرقيّ، بل حتّى يريدها صغيرة (يربّيها على يده)، وتكون عفراء هي الزّوجة الّتي لديها خوف من اقتراب زوجها منها، وتبوء كلّ محاولات عدنان في جعلها تعيش معه لحظات الحبّ بلا معاناة وتشنّج ورعب، ينجح بنسبة قليلة، فينجب منها ولدَين هما: عامر وهند.
وفي بعض الأحيان نرى عدنان الزّوج المتقمّص شخصيّة والده بلا شعوره، فيضربها كي تكون طيّعة في فراش الزّوجيّة، فيدرك لاحقًا أنّه أخطأ، وأنّها بلا ذنب حيث تربّت في أسرة محافظة، خوّفها أهلها من الذّكور، تقول الكاتبة عن عفراء:
“عفراء الّتي كانت تمسك عصا خوف من الرّجال غير مرئيّة، مرّرها أهلُها لها وكانت حريصة عليها، ادّعى عدنان أنّ بإمكانه تخليصها ممّا هي فيه، ولكن لم يقو على تقديم عاطفة حقيقيّة افتقدها، كلّ ما استطاعه ألّا تمرّر تلك العصا لابنتهما هند..”

وبالمقابل نجد في الرّواية نساء قويّات أو متمرّدات:
١. ماريّا:
الشّابّة المسيحيّة الّتي أحبّت شابًّا مسلمًا، فقرّرت الهروب معه إلى لبنان رغم تخويف أمّها لها:
“حين يتزوّجك رجل فقير ومن غير طائفتك، سيهتزّ عرش السّماء”
، لكنّ ماريّا تقرّر تلبية دعوة الحبّ، وتعيش لحظات جميلة مع وضّاح، ولكن بعد مضيّ شهر يتركها لأنّ أهله بحاجة له، فتأتي إلى دير الأب قرطباوي، تطلب المساعدة بعد أن تخفي قصّتها، فتصبح عاملة نظافة في الدّير، وتعتني بعدنان الصّغير، لتكون زوجة له عندما يكبر، في لحظة من لحظات الاستسلام للحبّ رغم فارق العمر آنذاك، يقول عدنان:
” ولكن وأنا الّذي أصبحت المتمرّس بالنّساء كبيرات السّنّ، فهي تكبرني بعشرين سنة، ولكنّي أكبرها بالكثير من الضّياع والشّوق لاحتضانها، قالت بتوسّل:
أنا راهبة أحبّ الكنيسة يادادا، اعقل..”

٢. شيرين:
هي المرأة الإيرانيّة المقيمة مع زوجها محمود في بريطانيا، والّتي تعجب به وبأمواله، فتخطبه بجرأة رغم أنّها في الخامسة والأربعين، وبعد وفاته تخطب عدنان المقيم عندهما للدّراسة والعمل حيث كانا يعتنيان به بعد أن تشاجر مع والده لأنّه يريد منعه من إكمال تعليمه انتقامًا من أمّه، فيتعهّده صديق والده محمود الرّجل الطّيّب، وترينا الكاتبة منذ البداية أنّ شيرين معجبة بعدنان:
” منذ اليوم الأوّل… مدّت لي شيرين يدها لتصافحني، ومن ثمّ وضعت يدها الأخرى على يدي، تلاحق أنفاسي..”
ثمّ تتوالى الأحداث، وتواتيها الفرصة حين تصبح أرملة:
“انتفض جسدها بعد شهر من وفاة زوجها، صبغت شعرها بالأحمر، ولمعت بشرتُها كمرآة…”

الشّخصيّات من النّاحية النّفسيّة:

علاقة عدنان بأبيه:
لا تستطيع أن نقرأ شخصيّات الرّواية، بعيدًا عن التّحليل النّفسيّ، فمثلًا عدنان رغم معاناته من معاملة أبيه القاسية لأمّه، سنراه يمارس العنف ذاته على زوجته الثّالثة عفراء في لحظة غضب معيّنة، ونراه حانقًا على أبيه رغم حبّه له:
” كنت أشعر في كلّ نبرة من صوته بأنّه ينتقم منّي، وعلى الرّغم من كلّ هذا فأنا أحبّه وأحبّ رجولته” ويذكر عدنان في أكثر من موضع أنّ والده ينعته بالكلب:
” ستتعلّم العزف على العود عند أمهر المعلّمين يا كلب”
” وأنا ليس لي عندك كرامة يا كلب”
” ما إن تذهب أيّها الغبيّ إلى الجامعة سأرميك ككلب”
ويقول عدنان:
“رغم حبّي له راودتني أمنية رهيبة ” ليتني أخفيه عم وجه البسيطة، وأركض لأحتمي في حضن أمّي البعيدة”
ونراه طوال الرّواية متعلّقًا بماريّا سواء أكان طفلًا، أم شابًّا، أم كهلًا، وما هذا إلّا تعويض لنقص الحنان الّذي يفتقده نتيجة إبعاده عن أمّه، يقول عدنان:
” كان صوت ماريّا أقوى الأصوات بعد صوت أمّي..”
وأعتقد أنّ ماريّا كانت تتمتّع بذكاء كبير حين لاحظت ذلك النّقص لديه، فبقيت حتّى بعد زواجهما تقول له: “يا دادا”
كي تظلّ بنظره الزّوجة/ الأمّ، وهي فعليًّا لم تقصّر في منحه جرعات كبيرة من الحنان، والعطاء حتّى أنّها في الرّواية تقول له:
تزوّج وأكون خادمة لك.
عدا عن الثّروة الّتي ورثتها بعد وفاة والدَيها والّتي لم تبخل بها على عدنان.
بالإضافة إلى أنّ عدنان طوال الرّواية سيتذكّر مقولة أمّه(اكبر وتعال) وهي مطرودة من البيت بقميص نومها الأخضر.
لذلك كانت ماريّا أوّل يد حانية لامسها في الميتم، وشعر بعطفها عليه، ومن جهة أخرى كان عدنان يمنح الطّمأنينة أيضًا لماريّا، فهو طفل مسلم، وهي لها تجربة حبّ أليمة مع وضّاح الّذي لم يكن من دينها، فخذلها وعاد لأهله، السّرّ الّذي لا تكشفه لعدنان إلّا وهو شابّ، ليدرك سبب اهتمامها به طفلًا.
أمّا ماريّا فنفسيًّا، نراها ضائعة بين الاستسلام للحبّ الجسديّ، وبين موقفها من الكنيسة:
” هل يباليا بكلّ الطّقوس الّتي درج عليها البشر، ويغضّا الطّرف عن طقوسهما…لاذت ماريّا وتستّرت بثوب الرّهبنة، وجاراها عدنان بهذا المخبأ”
وفي موضع آخر نراها تحذّره من الاقتراب منها:
” إيّاك يا دادا أن تقترب، هذا حرام، أنسيت من أكون؟
كان صوتها غير صادق ورفضها له نداء مبطّن”
ولا ننسى أخيرًا معاناة عدنان حين يُطرد من عمله في شركة الطّيران بخطّة خبيثة من جاسم السّعوديّ الّذي كان يحارب الوافدين ومنهم عدنان، يقول له في إحدى المرّات حاسدًا إيّاه على راتبه:
” الله ياالسوري لو تجر الطيارة جر ما ينطوك هالراتب…”
فيتأزّم نفسيًّا بعد طرده، وبينما هو في رحلة العودة على متن طائرة يقودها طيّار آخر غيره، يفتعل مشكلة، ويُدخَل إلى مستشفى الأمراض النفسيّة، وهناك يقاوم ويستعيد صحّته، وينقل لنا معاناة من حوله أبرزها مأساة الشّابّ معتزّ حيث يقول واصفًا إيّاه:
” وجهه الطفولي يقول وهو يشهق….:
ماتت بالغلط، طلقة لعينة من بارودة صيد.
ماتت فورًا قبل أن تودّعني، والله مو قصدي”
وأمّ صطيف الّتي أرسلها أولادها بمؤامرة دنيئة ليسلبوها بيتها، ويبقى عدنان إلى أن يستعيد عافيته، ويعود إلى زوجته وولديه.
أخيرًا: تنتهي الرّواية بالمسامحة، ورؤية أمّه بعد سنوات فراق أليمة، لكن من غير جدوى، فهي فاقدة للذّاكرة.
ويسامح أباه، ويحتضنه ليتحقّق الصّعود نحو الحبّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ناقدة – سوريا

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى