رأيمسرح

د. سعداء الدعاس: بانوراما المهرجان القومي.. عروض مميزة، ندوات مثمرة، ولمّة حلوة! (١)

د. سعداء الدعاس★

بوتيرة متسارعة، وطوال أسبوعين، تنقلتُ صُحبة رفيق العمر، بين عوالم جميلة مكتنزة بالفن والأحبة، وذلك خلال أيام المهرجان القومي للمسرح المصري، الذي حاولنا متابعة فعالياته اليومية بانتظام، فكان (علاء الجابر) ينطلق بنا بسرعة (شوماخر)، من (حدائق الأهرام) حيث نقطن، مخترقاً زحام القاهرة، باتجاه المكان الذي يقودنا إليه جدول العروض أو الندوات، وصوت (نجاة) يصدح بعذوبة في هواء (الطريق الدائري) تارة و(الطريق السياحي) تارة أخرى، مرددة: “إنت تقول وتمشي وأنا أسهر منمشي”!

لهذا المهرجان خصوصية، لا يمكن أن تتحقق في أي مهرجان آخر، حيث يوفر للمتلقي، فرصة مشاهدة معظم عروض الموسم المسرحي، التي قٌدمت طوال العام (مجموع العروض المشاركة في المهرجان 37 عرضاً)، حتى تشعر للحظة أنك لم تغب عن المشهد المسرحي المصري، وهو ما نفتقده في مهرجاناتنا الكويتية، ومعظم المهرجانات الخليجية عامة، التي تتضمن عروضاً، لا تتجاوز العشرة عادة، تُصنع خصيصاً للمهرجان، وتُقدم ليوم واحد فقط، ولهذا أثر سلبي كبير، ربما نتناوله في مقال منفصل.

في المقابل، تجد أن بعض العروض المشاركة في المهرجان القومي، كانت تقُدم في الأيام السابقة للمهرجان مباشرة، وبعضها يستمر إلى ما بعده أيضاً، مما ساعدنا على مشاهدة أكبرعدد منها، وتأجيل بعضها لما بعده، وتلك خاصية لا تتوافر في مهرجاناتنا أيضاً.

أما الخاصية الثالثة، التي تُميز هذا المهرجان، ذلك الزحام الشديد على أبواب المسارح من قبل أبناء البلد، حيث إن المهرجان القومي لا يوجه الدعوات، لأي ضيف عربي أو أجبني، ورغم أنني كمتلق، قد أتضرر من ذلك الزحام، إلا أن رؤية الجمهور المصري بجميع أطيافه، وهو يتدافع من أجل حضور عرض مسرحي، مشهد بهيج، أتمناه يتكرر في كل عرض، في ظل الجفاف الذي تعاني منه الكثير من المهرجانات ذات الميزانيات الضخمة، حيث تظل الفرجة محصورة بين ضيوف المهرجان، المدعوين من الخارج، أو العاملين في المجال المسرحي، إن لم يكن العاملين في العروض المشاركة فقط!

مجموعة من المؤلفين والمخرجين المشاركين في المهرجان: إسلام إمام، يوسف مراد منير، زياد هاني كمال، محمد الحضري، أشرف علي، محمد جبر، محمد السوري

أما الخاصية الرابعة، فتتمثل في تنوع العروض على مستوى الفضاء والمكان، ما بين مسرح الغرفة، بأجوائه الحميمة في (السلام)، ومسرح (مركز الإبداع) بطبيعته المحفوفة، ومسرح (ميامي) الذي يتوسط المحلات التجارية، و(متروبول) الذي تحيط به المقاهي الشعبية، ومسرح (نهاد صليحة) بإمكانياته المغايرة، وسقفه المكشوف، ومسرح (الطليعة) الذي لا بد أن تخترق من أجل الوصول إليه، ميدان العتبة، متجاوزاً (فرشات) الباعة بخطوات محسوبة، هذا بالإضافة لمشاعر عظيمة تنتابك لحظة دخول (قصر الأمير طاز) بكل ما يحمل من عبق تاريخي عظيم، يتجاوز مئات السنين.

لهذا التنوع دور كبير في تشكيل العروض من جانب، وأثر أكبر على آلية التلقي من جانب آخر، وقد تنقلت عروض المهرجان بين معظم تلك الأماكن، بجانب المسارح الأخرى كالقومي، والهناجر، والغد، المسرح العائم، ومسرح المعهد العالي للفنون المسرحية، بالإضافة إلى مسرح السامر، الذي افتتح الشهر الماضي، بعد إغلاق دام واحداً وثلاثين عاماً.

من اليمين صورة من عرض (رضا)، واليسار صورة من عرض (خطة كيوبيد)

عروض استوقفتني.. وطاقات أذهلتني

رغم أني لازلت مأخوذة بعروض العام الماضي، وتمنيتُ أن أشاهد عروضاً تلعب على ذات الوتر الإنساني، كما في “المطبخ” لمحمد عادل، وعرض “بنت القمر” لمحمد السوري، وعرض “ماذا أفعل هنا بحق الجحيم!؟” لكارول العقاد، إلا أنني استمتعت بمشاهدة مستوى مغاير من الطرح في هذه الدورة، فمن بين العشرين عرضاً، التي أتيحت لي فرصة مشاهدتها في مهرجان هذا العام، سعدتُ كثيراً بالبهجة، التي طغت على عرض “ياسين وبهية” للمخرج (يوسف مراد منير)، رغم الألم الذي تحمله حكاية العرض، وبدا جلياً، الجهد الكبير الذي بذله كل فرد من صُنّاع العمل، خاصة الممثلين (إيمان غنيم، يوسف مراد منير، حازم القاضي، آية أبو زيد، وليلى مراد). وأحببت كثيراً، الأبعاد التي اشتغل عليها المخرج (أسامة رؤوف) في عرضه “ستوكمان” بأداء انسيابي جداً للممثل (ياسرعزت) بلا فذلكة أو تشدق، فلامس الروح حتى في لحظات صمته.

ياسر عزت وريم أحمد في (ستوكمان). وأميرة عبدالرحمن ومحمد المحمدي في (شابوه)

وضمن طرح مغاير تماماً، لفت نظري عرض (استدعاء ولي أمر) بحواراته التأملية، التي غزلها بوعي وهدوء المؤلف (محمد السوري) والمخرج (زياد هاني) لمناقشة قضية تشغل الكثير من الشباب، طرحها العرض بأسلوب (طبيعي) لامس الكثير من الحضور. كما توقفت طويلاً، أمام جرأة المخرج (محمد جبر) والمؤلف أحمد الملواني في عرض (رضا) لمناقشة قضية، لا يسهل تقديمها للجمهور رغم انشغاله بها يومياً، في ظل عالم يظل يدور حول عالم كرة القدم، وكواليس تنقلات اللاعبين، وهو الموضوع الذي لم يُطرح إطلاقاً على خشبة مسرح من قبل، وسعدتُ أكثر بإنسانية (جبر) الذي تعاون مع الفرقة القومية بالاسماعلية، التي لم تقدم عرضاً في القاهرة من قبل، فمنحهم اهتمامه، ومنحوه طاقاتهم الجميلة.

من اليمين صورة من عرض (جوه الصندوق)، واليسار صورة من عرض (استدعاء ولي أمر)
من اليمين صورة من عرض (ياسين وبهية)، عرض (سيب نفسك)، وعرض (طيب وأمير)

على الجانب الآخر، تجذبني العروض الكوميدية بمستوياتها المتعددة، خاصة حين تكون قادرة على جذب الجمهور وإضحاكه، ضمن إطار شخصياتها، وفي محيط أبعادها، ودون أن تفقد خطها الدرامي بابتذال ممجوج. وعند الحديث عن هذا النوع من الكوميديا لا بد أن أذكر “السيرة الهلامية” للمخرج محمد الصغيّر، الذي قدَّم عرضاً كوميدياً بامتياز، وبوعي كامل لأبعاد النص الشكسبيري، وكم تمنيت أن أرى له تجربة جديدة هذا العام، بجانب عروض المهرجان الكوميدية، والتي لفت نظري منها (طيب وأمير)، لمحمد جبر، فرغم طول زمن العرض، إلا أن ضحكات الجمهور لم تتوقف لدقيقة واحدة، في ظل مواقف نابعة من صلب العمل، وضمن إطار كل شخصية، باستثناءات بسيطة، يستطيع فريق العمل تجاوزها، ومَشاهد يستطيع اختزالها، دون أن تُخِلَّ بالعمل الذي بذل فيه الممثلون جهداً كبيراً، حيث استمتعت شخصياً بأداء جميع الشخصيات، خاصة شخصية طيب (هشام إسماعيل) الذي استطاع بحرفيته العالية، أن يحافظ على الشخصية من الذوبان في سحر (نجيب الريحاني).

رباب ناجي، هشام إسماعيل، شيماء عبدالقادر، علاء الجابر، سعداء  الدعاس بعد عرض(طيب وأمير)

وفي الإطار الكوميدي ذاته، استمتعت بعرض (شابوه) لأحمد محيي، حيث أمتعتني الكوميديا المشغولة بهاجس (أبناء الصنعة)، وتماهيتُ كثيراً مع أداء (فاطمة محمد علي) في عرض (سيب نفسك) لجمال ياقوت، فشعرت بحميمية الأصدقاء، كأنني أزورها في مكتبها، حيث استحوذت روح (فاطمة) على جميع مفردات العرض، ساهم في ذلك مكان العرض (قاعة يوسف إدريس)، التي شاهدتُ فيها أيضاً، عرض (خطة كيوبيد) لأحمد فؤاد، وحقق ذات التأثير على المتلقي، ولا يمكن أن أتحدث عن العروض الكوميدية في المهرجان دون التطرق لعرض (جوه الصندوق) لإسلام إمام، الذي استفاد من أبعاد المكان (قصر الأمير طاز) بذكاء شديد، فجاء العرض مفعماً بالبهجة والألق، بمواضيع حيوية، وقدرات تمثيلية إستثنائية لجميع فريق العمل.

من عرض (المنفى)

على مستوى الصورة، لفتت نظري سينوغرافيا (المنفى) للسعيد منسي، الذي استطاع أن يبهرنا بقدرته المميزة، على تقديم صورة نقية جداً للمشهد المسرحي، فيحوله باحترافية عالية إلى مشهد سينمائي نقي، خاصة مشهد (الحرب)، كما لفت نظري اهتمامه بتقديم الرواية على خشبة المسرح، حيث شاهدتُ له في العام الماضي (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز، والعام الحالي (الحب في المنفى) لبهاء طاهر.

من اليمين صورة من عرض مارا ساد، على اليسار صورة من عرض الرجل الذي أكله الورق

أما أكثر العروض التي أتمنى حقيقة أن تُمنح فرصة إعادتها، ليشاهدها أكبر عدد من الجمهور: عرض (مارا ساد) لأشرف علي، وعرض (الرجل الذي أكله الورق) لمحمد الحضري.

مفاجأة (مارا ساد) و(الرجل الذي أكله الورق)

قُدِّم عرض (مارا ساد) بين جدران قاعة صغيرة، تحمل اسم الفنان الجريء والمختلف (صلاح جاهين)، فكان عرضاً بذات الروح؛ جريئاً ومختلفاً، للمخرج الإسكندراني الشاب (أشرف علي)، فأعتقد أن هذه أفضل رؤية شاهدتها لهذا النص الصعب، حيث جاء العرض المشبع ببعض سمات المسرح الملحمي والتسجيلي، ومسرح القسوة؛ سريع الإيقاع، مثقلاً بالدلالات، محفوفاً بالجرأة دون فجاجة.. مستويات التمثيل، كانت مذهلة، خاصة (أحمد عماد)، الذي أدّى دور ساد، بهدوء سادي مكتنز بالألم، دون أن يُفصح عنه، وأما شخصية مارا، المغلوب على أمره، فتم التلاعب به بعنف مدروس، في ظل حلول إخراجية ذكية متنوعة، لم تترك شاردة أو واردة، إلا وتم توظيفها، خاصة في مشهد السيدة والفتاة، الإبهار الأكبر قاده الراويان، اللذان قدّما شخصيات مهرجة، بأسلوب كارتوني، أثار الضحك والأسى في الوقت ذاته، وباللعب على وتر التمثيل داخل التمثيل، شارك المخرج ومصمم الإضاءة، كعناصر مؤثرة في العرض، والمخرج الذي أشجع فيه هذا المستوى المدروس والواعي من الجرأة، اِستخدم – بتصرف – نصاً، للشاعر نزار قباني، بعنوان (في حارتنا ديك)، والذي ظل ممنوعاً لسنوات طويلة، في العديد من الدول العربية.

أحمد عماد في دور ساد

أما في عرض “الرجل الذي أكله الورق”، فقد كنا أمام مخرج، يعي تماماً ما يريد، اِستخدم بعض سمات فن (الغروتسك)، ليتلاعب بشخصياته بذكاء، بأداءات تنوعت ما بين المبالغة، والآلية، بمستوى عالٍ من (البشاعة المقصودة)، فكان الممثل الذي أدَى دور شايلوك (عمر فتحي) حديث الجمهور، من شدة انبهارهم بأدائه، والبطل الذي غاص في صمته بدور (باراباس)، أدهشنا بلغة جسده، وهكذا كان المحاميان، وزوجة باراباس، ومديره في الشركة، جميعهم قدموا أداءً غير تقليدي في سبيل تعرية الجشع الإنساني، ساعدهم في ذلك جميع عناصر العرض المسرحي مثل الملابس والماكياج والأقنعة، وتحديداً عنصر الإضاءة، حيث تفنن محمود الحسيني (كاجو) فأذهل الحضور بتنوع مسارات الضوء، والأبعاد التي شكها كل مسار منها، ساهم في تأثيرها على المتلقي الطاقة، التي امتاز بها مسرح نهاد صليحة، وكأنه يستمد طاقته من روح الناقدة العاشقة للمسرح، وأعتقد أن تقديم العرض في مكان آخر، قد يفقده الكثير من روحه، فأتمنى أن يتم المحافظة على عنصر المكان، عند تقديمه في المهرجان التجريبي.

عمر فتحي من عرض (الرجل الذي أكله الورق)

إشكاليات الزمن والكوتا

لعل الإشكالية الأولى التي لاحظها الجمهور، تمثلت في طول مدة العروض، التي تجاوز معظمها الساعة والنصف، رغم إمكانية اختزالها، حيث ردَّد الكثير من الزملاء، أهمية التكثيف بعد مشاهدة العديد من العروض، من بينها عروضٌ أعجبتني، ورغم أن خطوة (التكثيف)، من الخطوات التي يصعب على المخرج أن يُقْدِمَ عليها، أو حتى يطرحها على فريقه، إلا أنها تساهم في تميّز العرض، وتضفي عليه رونقاً خاصاً، وتنتشله من منطقة الملل.

رشا عبدالمنعم، سعداء الدعاس، علاء الجابر،، حمادة شوشة يتوسطون فريق عرض (مارا ساد)

الإشكالية الثانية التي لاحظتها، تمثلت في الصوت، خاصة في مسرح (السامر)، وأعتقد أن العروض التي قدمت على خشبته، ظُلمت بسبب هذا العنصر الحيوي والمهم، رغم أن مسرح السامر، يُعد من أكثر المسارح تنظيماً وترتيباً، فمساحته كبيرة، ومقاعده مريحة جداً، وموقعه ممتاز، ويديره فريق لطيف ومهذب.

من جانب آخر، أتمنى أن تتاح لي فرصة مشاهدة العروض، التي أشاد بها الكثير من الزملاء، وبعض نقادنا الشباب من أبناء مجلة (نقد×نقد) في قراءاتهم النقدية، التي واكبوا من خلالها معظم عروض المهرجان، ولم تتسنَ لي فرصة مشاهدتها أثناء المهرجان، مثل (ثلاثة مقاعد في القطار الأخير) وعرض (يا شيخ سلامة) وعرض (أوليفر) وغيرها، كما أتمنى في السنوات القادمة، أن يتم معالجة الإشكالية التي تسببت فيها (الكوتا)، من حرمان لبعض العروض مثل (باب عشق) من التواجد في المهرجان، رغم مشاركة عروضٍ أخرى، أقل منه على المستوى الفني والفكري.

صورة من عرض (باب عشق) تأليف إبراهيم الحسيني، إخراج حسن الوزير

اِنتهت عروض المهرجان القومي، التي أشعلت ليل القاهرة، فناً وألقاً، إلى آخر يوم الذي عرض فيه (الرجل الذي أكله الورق)، فكان مسك الختام لمهرجان، اِستحق أن نقضي صحبته إجازتنا الصيفية، لإيماننا الكامل بأن ما يحدث في القاهرة، لا يمكن أن يحدث في أي مكان آخر في العالم!

صور العروض بعدسة: مدحت صبري 

ــــــــــــــــــــــــ

★ مدير التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى