آية الكحلاوي: الباب الأخضر وإشكالية الهوية
بسبب "الباب الأخضر" الهوية تضييع مرتين!
آية الكحلاوي★
ما الذي يفرق الشعوب الإفريقية في الجنوب والوسط الإفريقي عن الشعوب العربية في الشرق الأدنى، وقد تعرضت جميع هذه الشعوب للاحتلال الغربي؟! إنها الهوية ومعرفة الذات التي جعلت الشعوب العربية تصمد في وجه الاحتلال، وتخرج منه بجروح خفيفة في الهوية، بينما جعلت شعوباً تفقد نفسها تماماً، في هوية المحتل ولغته وأسلوبه ونمطه.
ما لم تستطع عليه القوى الإمبريالية في السيطرة على الشعوب العربية ومحو هويتها، استطاعت عليه قوى الرأسمالية والعولمة والانفتاح، هذه العولمة الرأسمالية أدت بالضرورة، لعولمة ثقافية قضت على الكثير من الهوية والخصوصية الثقافية، في طريقها لمحو هوية الشعب المصري تماماً، واتباعه هوية كونية عالمية هي أمريكية على كل حال، يكون فيها تابعاً لهذه الهوية المركزية، بعدما كان يشكل هوية موازية، وأكثر قوة مكنته من الصمود عبر القرون، في مواجهة التحديات المختلفة.
فيلم “الباب الأخضر” ضوء أحمر متأخر جداً منبهٌ إلى ضياع الهوية، وإلى المخططات التي تعمل على طمسها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وهو من أعمال watch it الأصلية (وهي منصة مصرية تحمل اسماً أجنبياً، اِكتفيت بتعريب حروفها).
تدور أحداث الفيلم في الثمانينيات، وتدور حول عيشة التي تترك قريتها متجهة إلى مصر، للبحث عن زوجها لتوثيق عقد الزواج العرفي حتى يتسنى لها إثبات هوية طفلها، ولكنها توضع في إحدى المصحات النفسية التي تتورط في مشاريع غير إنسانية، تهدف للسيطرة على الإنسان وتوجيه مشاعره، وتتعرض لعلاجات وتجارب تهدف لمحو هويتها، ولكن الدكتور شفيع يقف حائلاً، حيث يمنع خضوع عيشة لهذه التجارب، بل ويساعدها للوصول لزوجها، للحصول على عقد الزواج لإثبات هوية طفلها، ولكنه يفقد حياته أثناء ذلك نتيجة حادث مدبر، بينما تظل عيشة منتظرة هوية طفلها الضائعة على الباب الأخضر في الحسين.
الفيلم من إخراج وتصوير رؤوف عبد العزيز، وكما أُعلن فهو يعتبر أخر ما كتبه أسامة أنور عكاشة، إذ كتبه في فترة الثمانينيات، لكنه لم يخرج إلى النور، والمتتبع لأعمال عكاشة، يجد أن التيمة ليست غريبة على أعماله، إذ هو من الكتّاب المشغولين بقضية الأصالة والهوية، كما رأينا في أعمال له مثل الراية البيضا وأرابيسك مثلاً، ولكن المتتبع لأعماله كذلك يشعر أن الفيلم غريبٌ تماماً عن عكاشة، وهناك هوة واسعة بينهما في الحوارات، ورسم الشخصيات، وطريقة السرد والحبكة، حتى وكأنك تشعر أن الفيلم ليس لأسامة أنور عكاشة، وهذا ما سنسوقه تحليلياً في هذا المقال.
تم طرح فيلم الباب الأخضر على منصة watch it في ٤ يناير ٢٠٢٣، ولا يستطع مشاهد الباب الأخضر أن يغفل، أو يتجاهل التشابه الكبير بينه وبين فيلم “لعدم كفاية الأدلة” لنجلاء فتحي ١٩٨٧، حيث يشتركان في نفس القصة، حيث تحاول البطلة فوزية/عيشة في لعدم كفاية الأدلة/الباب الأخضر إثبات نسب طفلها للأب، ولكن القصة وظفت في كلا الفيلمين توظيفاً مختلفاً، في “لعدم كفاية الأدلة” وظفت توظيفاً نسوياً جرائمياً، بينما وظفت في الباب الأخضر توظيفاً رمزياً للإشارة إلى الهوية، غير أن الفيلمين يتشابهان في نقطة أخرى من حيث الإنتاج، فالفيلمان يعتبرا من الأفلام التجارية، غير أن أشرف فهمي مخرج لعدم كفاية الأدلة، قدم مستوى جيداً في البناء الفني والتقني، بينما رؤوف عبد العزيز تكاسل أن يقدم مثل هذا المستوى في الباب الأخضر.
الحبكة من أهم عناصر العمل الفني، ويجب أن تكون محكمة، ويحكم حركتها المبررات المنطقية، التي يستطيع من خلالها المشاهد أن يعقل ويتقبل ما يراه، ولكن الباب الأخضر تجاهل المبررات المنطقية، التي تقود الأحداث منذ البداية في سبيل الفكرة المطروحة (الهوية) فضحى بها من أجل إرسال الرسالة المنشودة، فمن البداية يقرر الشيخ عوض الذي يصطحب عيشة للقاهرة، أن يتركها وحيدة تنتظره في الحسين عند الباب الأخضر، وهي لا تعرف شيئاً في القاهرة، بل إنه لم يوصلها للحسين، ولكنه تركها تذهب بمفردها، وهي لا تعرف المكان، دون أن يبرر ذلك، أو دون أن يكون هناك سببٌ منطقي واحد، يعزز من جدوى عدم ذهابها معه لزوجها أحمد أبو اليزيد، وتركها وحيدة في الحسين لا تحسن شيئاً.
إن غياب المبررات المنطقية، يستمر مع مشهد عرض عائشة على النيابة، بعدما اُختطِف طفلها متهمة باختطاف الطفل، رغم اعتراف النيابة بصحة رواية عيشة، والتي تؤكدها التحريات وشهادة الشهود، بأن الطفل طفلها إلا أنها تقرر إيداع عيشة مصحة نفسية، للكشف على قواها العقلية، لمجرد أنها أشارت على صورة زوجها أحمد أبو اليزيد في الجريدة، والذي كان يحمل اسما مختلفا (محمود الأنصاري) وقد كان التصرف المنطقي من النيابة، هو استدعاؤه وسؤاله، وقد تأكدوا من صحة روايات عيشة وتطابقها مع التحريات وشهادة الشهود.
إن غياب المبررات المنطقية، يحكم تصرفات الشيخ عوض طوال الفيلم، فبعدما تواصل مع أحمد أبو اليزيد أو محمود الأنصاري زوج عيشة، لماذا عاد إلى البلدة؟ ولماذا اختفى؟ ولماذا بعد نجاته من الحادث الذي دبره له أحمد أبو اليزيد لم يتوجه إلى النيابة ويدلي بما يعرفه؟ كل هذا لو كان له مبرر منطق، فسنعزيه إلى رؤية الكاتب أو المخرج، ولكن عندما تغيب هذه المبررات، يحق لنا أن نتساءل عن أفعال الشخصيات الناقصة التي لا تستند إلى منطق.
إن ما يعيب الحبكة كذلك، اعتمادها على خطين متوازيين ليتهم مكتملين أو واضحين، ورموزهم واضحة، ولكنهما يبدوان متصدعين، فالفيلم يناقش الهوية عن طريق خطين هما: محاولة سلب، أو طمس هوية عيشة عن طريق المصحة النفسية، والطفل المولود بدون هوية، والذي تسعى عيشة إلى إثبات هويته، فيشعر المشاهد أن جزء المصحة النفسية، هذا مقحم على الحبكة، وقد أدى عدم التركيز هذا، لظهور تيمة الفيلم بشكل ناقص، فبدا لي أن اتساءل أي هوية يقصدها صناع الفيلم؟ فلم يكن هناك أي إشارة للهوية، إلا من خلال الباب الأخضر والحسين، وهما ممثلين لهوية مصر العربية، ولكن وجهة النظر التي يريد تقديمها الفيلم عن هذه الهوية، كانت مهزوزة وغير واضحة، فعند النظر لدلالة الباب الأخضر، نجدها دلالة سيئة، حيث هو المكان الذي بدأت فيه مأساة عيشة مع هويتها، وحيث تم اختطاف طفلها، وعندما نرى رمزية الشيخ عوض، نجدها أنها الشخصية المسؤولة عن ضياع عيشة، التي هي ترمز لمصر، فهل يقصد صناع العمل أن الهوية العربية الإسلامية تحديداً، السبب في ضياع مصر وهويتها؟ وإن كان كذلك، فلماذا ظهر البطل الدكتور شفيع حزيناً ومتألماً أن ابنه من زوجته الأجنبية اكتسب اسما غير عربي، وينشأ في بيئة غير عربية؟! بل إن والده مات كمداً حين علم بذلك!، تبدو التناقضات كثيرة وواضحة، وتكون نتيجتها أنني لم أستطع تحديد أي هوية يقصدها صناع العمل، والتي تتعرض للضياع، ويبحث ويدافع عنها أبطال العمل؟
هل هي سر حربي يحظر الكشف عنه صراحة؟ رغم اعتماده على رموز بسيطة وسهلة وواضحة، ولكنها تبدو متناقضة، وبهذا أقول إن الهوية ضاعت مرتين بسبب الباب الأخضر.
إن مخرج الفيلم نفسه مفتقد للهوية، ومن المعروف أن ما يميز مخرج عن أخر، هي هويته وشخصيته، فمثلاً عند النظر لفيلمي الراعي والنساء، ورغبة متوحشة رغم كونهما يشتركان في القصة ذاتها، إلا أننا نلمس اختلافات واضحة في العناصر الفنية للعمل، يعود هذا الاختلاف لشخصية المخرج بالدرجة الأولى، ففي الراعي والنساء تظهر شخصية علي بدرخان، والتي تختلف عن هوية وشخصية خيري بشارة في رغبة متوحشة، ولكن مخرج الباب الأخضر لم يستفد من اللغة السينمائية، ولو بقدر يسير لوضع بصمته، فقد تم استخدام العناصر السينمائية، استخداماً ساذجاً، فظهر الفيلم أقل من المستوى المطلوب.
فبالنظر إلى عناصر اللغة السينمائية، كالمونتاج، والإضاءة، واللقطات والكوادر، وما إلى ذلك، نجد أن مدى الاستفادة منها لخلق صورة معبرة تناسب القصة المطروحة ضئيلة جداً، اِعتمد المخرج بشكل متساو باختلاف المشاهد على اللقطة المتوسطة، فلم يكن هناك تنوع لافت في اللقطات، يتناسب مع التطور الطبيعي للعمل والأحداث، ويتناسب من جهة أخرى مع دلالة المشهد المفرد، وكذلك اعتماده على زوايا تصوير ثابتة في أغلب الأحيان، فحركة الممثلين قليلة جداً، مما جعل العين في حالة ثبات، تقرب صاحبها من النعاس، وتخلق الملل نتيجة الرتابة في اللقطات والزوايا.
وبالنسبة للكوادر، فمن المعروف سينمائياً لابد احتواء الكادر على شيء ذي أهمية، يجذب الفكر قبل العين، ولكن كوادر الباب الأخضر كانت مكتفية بالممثلين، أي لم تكن هناك أهمية ما للديكور، أو الحركة، وغيرها، وثبات الحركة داخل الكادر جعل اللقطة أقرب للصورة الثابتة مع سماع الحوار.
الديكور جاء معبراً عن فترة الثمانينيات، إلا أنه ظهر في مشاهد أنه ليس واقعياً، خاصة في منطقة الحسين والباب الأخضر، حيث ظهر جلياً أنه ديكورٌ مبني، مع استخدام إضاءة صفراء في الأماكن المغلقة، أو في مشاهد القرية، مع استخدام إضاءة عالية في بعض الأحيان كالشارع.
ألَّفَ الموسيقى التصويرية للفيلم خالد حماد، وكانت تعبر طوال الفيلم عن الأمل، رغم أن الفيلم يسير في حبكة سوداوية، وانتهى كذلك رغم النهاية المفتوحة، وانتظار عيشة عند الباب الأخضر، إلا أنها تميل للسوداوية والتشاؤم بسبب مقتل دكتور شفيع المساعد الوحيد لها، والساعي في الحفاظ على هويتها، وفي إثبات هوية طفلها، وهذا مختلفٌ بالتأكيد عن التغريب، لأنها ليست مقطوعة موسيقية توظف في الفيلم، ولكنها الموسيقى التصويرية الأساسية للفيلم الذي يميل للواقعية.
أبرز ما ميز الباب الأخضر، هو الطاقم التمثيلي بقيادة سهر الصايغ واياد نصار اللذين أثبتا جدارتهما في أحقيتهما في المزيد من البطولات المطلقة، بجانب الأداء الرائع للفنان خالد الصاوي، الذي يستطيع أن يقنعك دائماً بالشخصية التي يقدمها، ورغم هذا الأداء المميز من المجموعة، إلا أنهم لم يستطيعوا إخفاء القصور الناتج من رسم الشخصيات، فقد كانت الشخصيات مبتورة، واستخدام الفلاش باك لعرض جزء من تاريخ الشخصية، أو جانبها الاجتماعي، لم يحل المشكلة، بل زادت من غلبة السردية على الفيلم، حيث لجأت الشخصيات للحكي، كمحاولة لإبراز جوانبها، والحكي لا يخلق العلاقة المأمولة بين الشخصية والمشاهد، بل يجعلها غريبة عنه، ويخلق مسافة بين المشاهد والشخصية.
قام حمزة العيلي بشخصية الرجل المجهول، الذي يقف خلف المشروع، الذي يهدف لتغيير هوية الشعب، ورغم أدائه الجيد إلا أننا لم نستطع معرفة رمزيته، أيْ كان هناك غموض في كون من تمثل هذه الشخصية؟، من هي القوى التي تقف خلف المشروع؟ هل أمريكا؟ هل الماسونية؟ وما الهدف؟ انتهى الفيلم، ولم نحصل على إجابة لكل هذا.
إن من أكثر الشخصيات كارثية هي شخصية أحمد أبو اليزيد، رغم أهمية ومحورية دورها، والتي أداها الفنان محمود عبد المغني، الذي لا أستطيع معرفة كيف وافق على هذا الدور المرسوم بهذه الطريقة، إنها من أكثر الشخصيات المبتورة في الفيلم، حيث إننا لم نتبين جانباً من جوانب أحمد أبو اليزيد، سوى أنه صحفي معارض هارب، ولم نتبين جانباً من جوانبه، بعدما تحول لمحمود الأنصاري، سوى أنه تم شراؤه من جهة ما، مقابل تغيير هويته من معارض لصديق ومصفق، كيف تحول أحمد أبو اليزيد إلى محمود الأنصاري؟
وهكذا فإن كل التحولات في الشخصيات، جاءت من خارج الأحداث مثل التحول في شخصية جلال وأحمد أبو اليزيد والدكتور عباس.
ظهور الشخصيات بهذه الحالة، يجعلك تستبعد أن الفيلم لعكاشة، الذي طالما اهتم بشخصياته، ورسم جوانبها، وتحولاتها، وأهدافها، ونفسيتها كرسام ماهر.
وكذلك فقد حرص عكاشة في جميع أعماله على تعميق العلاقة بين الشخصية والمكان، ولكن هذه العلاقة لم تظهر في الفيلم، فكانت العلاقة بين الممثل والمكان علاقته العادية بلوكيشن التصوير، كما أنه لم يتم مراعاة طبيعة المكان مع الشخصيات، أي أننا نجد أن الشخصيات الأعداء تتقابل في مكان حميمي مغلق، تغمره الإضاءة الدافئة، كمشهد الدكتور شفيع مع زوجته وشقيقها، لمساومته للتنازل عن القضية، التي رفعها على أخيها كونه متورطاً في المشروع، الذي يهدف للقضاء على الهوية، وكمشهد المساومة بين الدكتور شفيع أيضاً، ورجل من رجال المشروع (حمزة العيلي) في شقته في إضاءة دافئة كذلك، بينما الشخصيات الصديقة تتقابل في أماكن مفتوحة.
يختتم الفيلم بمقولة تظهر على الشاشة تقول: “ولا زلنا في انتظار شهادة الميلاد، فلكي يعيش الانسان لابد أن يكون له اسم.. هوية فإلى متى، ننتظر عند الباب الأخضر”
تصنيف الفيلم تجارياً، لا يعني إهمال جماليات الصورة السينمائية، وخاصة عند تحميله قضية مهمة، يجب أن يكون على قدر مسؤوليتها، فكيف نناقش إشكالية الهوية، في فيلم لم يستخدم مخرجه أدنى مجهود لإبراز هويته، وتظهر فيه الهوية المقصودة مشوشة، ومحاربو الهوية بدون هوية، ويعرض على منصة اسمها watch it فعن أي هوية يتحدثون؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقدة ــ مصــر