إذاعة وتليفزيونمشاركات شبابية

أسماء طارق: الدراما الإذاعية.. هل لازالت حية؟!

أسماء طارق★

الفنون بمختلف أشكالها، تتميز بقابليتها للتطور والتشكل والإضافة، مما يساهم في جذب الاهتمام نحوها أكثر، ولكن هناك عدة عوائق، تتسبب في تراجع بعض الفنون، وعدم تطورها، فمع تطور الزمن، وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي، وفقر الدعم المادي والدعائي، تفقد بعض الأشكال الفنية الأصيلة مكانتها، وسط زحام تلك التطورات، والِانجراف نحو ما هو تجاري، أو ما يمثل سلعة، بالإضافة لسيطرة الصورة على أذهان الجمهور، مما يجذبهم نحو ما هو مرئي فقط، فالنتيجة لم يعد هناك اهتمام بفن الدراما الإذاعية، ورغبة في تنشيط الخيال، فسنتطرق في هذا المقال إلى تقديم لمحة عن فن الدراما الإذاعية، وارتباطه بفن المسرح في البداية، وظهوره في مصر، وصولاً لتطوره حتي أصبح فناً مستقلاً بذاته، وسنذكر بعض الأعمال الدرامية الإذاعية، وسنطرح بعض أسباب تراجع هذا الفن، وتقديم بعض النصائح لدعم هذا الشكل الأصيل، ونشره من جديد.

المسرح بين التأذيع والإعتام

يعد ” التأذيع المسرحي” من أهم العلاقات التي تجمع بين فن المسرح والإذاعة، وقد مر بعدة مراحل حتى تكونت ملامحه، وأصبح له أسلوبه الخاص، وتقنياته المميزة، وتعود حركة “التأذيع المسرحي” لوقت الحرب العالمية الأولى؛ حين تحول العالم آنذاك لمستنقع يشوبه الخوف والكآبة، ووصل الأمر إلى توقف جميع وسائل الترفيه عن الناس، حيث تم إغلاق المسارح، ودور السينما، والملاهي، وغيرها من الوسائل الترفيهية الأخرى، حتى من لم يغلق بابه، لم يستطيع أحدٌ الذهاب إليه، وقد سُميت هذه المرحلة بـ “مرحلة الإعتام”.

ليسطع النور بعدها على الحياة، فبزغت شمس “الإذاعة” بعد ذلك لتصبح من أهم وسائل الِاتصال، وكانت بداية البث التجريبي عام “1910” حيث تم نقل حفل غنائي بمدينة ” نيويورك”، ونظراً لقدرة الإذاعة على نقل المعلومات والأخبار بسهولة، تم استغلالها كسلاح دعائي في الحرب، فتبارزت قوى الحرب في تطويع الإذاعة لأغراضها السياسية، وغزو أرض أعدائها، وبث الرسائل التي تخدم خططها العسكرية، ومن هنا نشأ مصطلح “حرب الأثير”.

وبهذا أصبحت “الإذاعةُ” النورَ الذي قضى على مرحلة “الإعتام” التي أثارتها الحرب، وكان ذلك من خلال جعل “الإذاعة” وسيلة الترفيه للناس بدلًا من الخروج، وبدأ المسرح يتعرض لمصير جديد نظراً لظروف الحرب، وأصبحت العروض المسرحية، تنقل كما تقدم على خشبة المسرح من خلال “الميكرفون”  إلا أن هذا التغيير لم يَخْلُ من العقبات، ولأن ما يميز المسرح، هو التفاعل الحي بين الجمهور والممثلين، ورؤية عناصر العرض من ديكور وملابس وإضاءة، بالإضافة لحركة الممثلين وإنفعالاتهم وإيماءاتهم،  فقد تعذر على المستمع التفاعل مع العرض المذاع.

المسرح ينتصر في البدايات

وسرعان ما تم التغلب على عائق التفاعل، بل وتم الِاندماج في إيقاع العرض، وذلك من خلال مرحلتين:

تمثلت المرحلة الأولى في الِاستعانة بـ “مذيع أو راوٍ” يقوم بالتعليق على كل ما يحدث فوق خشبة المسرح، ووصف عناصر العرض المسرحي للمستمعين؛ مما أسهم في تفاعل المستمع مع العرض، وشعوره بمشاهدة ما يدور على خشبة المسرح، وبالرغم من الدور المهم للراوي، إلا أنه كان عقبة لفئة أخرى من جمهور المستمعين، وهم أصحاب الخيال الواسع، الذين يفضلون المشاركة في العملية الإبداعية.

 مما شجع على التفكير في وسيلة أخرى تخدم تلك الفئة، ومن هنا تجسدت لنا المرحلة الثانية وهي مرحلة ” التأذيع المسرحي”، التي تعد من أهم وأبرز المراحل، حيث بدأ العمل على إعداد إذاعي للنص المسرحي، بحيث يحتفظ برونقه الخاص، مع إضافة العناصر الإذاعية المختلفة، لخلق حالة درامية مميزة، وتمثلت هذه العناصر في: حوار مناسب مكثف، إيقاع سريع، موسيقى، مؤثرات صوتية لخلق الإيهام والمحاكاة، بالإضافة إلى اختيار ممثلين يمتازون بأصواتٍ تلائم الإذاعة، وتسهم في وصول المشاعر والانفعالات.

وقد ساعد هذا التطور المستمع على المشاركة في العملية الإبداعية، وكانت هذه المرحلة بداية مولد ” فن الدراما الإذاعية “، والذي أصبح الآن فناً قائماً بذاته له أدواته وعناصره الخاصة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد جذبت الإذاعة الكثير من كُتَّاب المسرح، لكتابة نصوص مسرحية مخصصة للإذاعة، ذات طابع ملائم لها، ومما يجدر ذكره أن الدراما الإذاعية في مصر، بدأت بداية مسرحية خالصة، حيث شهدت دار الإذاعة في القاهرة، حضور فرق مسرحية لتقديم العروض المسرحية على الهواء مباشرة، إلى أن ظهرت فكرة تكوين فرقة تمثيل خاصة بالإذاعة “هواة التمثيل بالإذاعة”، ونشأت على يد “محمد عزيز رفعت” والذي كان قد التحق حديثاً بالإذاعة المصرية كرئيس لقسم الأحاديث والمسرحيات، وكان لغوياً ومترجماً ممتازاً، وله العديد من العلاقات ببعض المترجمين منهم “محمد حمدي” ناظر مدرسة التجارة “كلية التجارة حالياً” والذي أطلعه على ترجمة مسرحية “يوليوس قيصر” للكاتب الإنجليزي “وليام شكسبير”، فنالت إعجاب “رفعت” وسارع في إخراجها.

 كما استعانت فرقة “هواة التمثيل بالإذاعة”، بمجموعة من خريجي آداب قسم إنجليزي لترجمة بعض النصوص، والتمثيل أيضاً.

 مما سبق نستخلص أن “الدراما الإذاعية” مرت بمرحلتين المرحلة الأولى: اِعتمدت على الأعمال المترجمة، ثم انتقلت إلى مرحلة الثانية وهي: التأليف الإذاعي الخالص، فأسهمت الدراما الإذاعية في تنشيط حركة المسرح المصري خاصة في فترة الستينيات، والإقبال على مشاهدة المسرحيات، التي كانت تنقل إليهم عبر الأثير مثل: مسرحيات “أحمد شوقي”، و” كشكش بيه لنجيب الريحاني”، وتطور الأمر في أواخر الستينيات، وتم تأليف سهرات إذاعية خصيصاً للبرنامج الثقافي، ومن هنا نسلط الضوء على أبرز البرامج، أو المحطات الإذاعية آنذاك، وهي “إذاعة البرنامج الثقافي” (البرنامج الثاني سابقاً)”، وقد تميزت بالطابع الثقافي والأدبي، وقدمت أكثر من 900 عمل من كلاسيكيات المسرح العالمي، وقام بإخراجها وتمثيلها أشهر فناني مصر.

ومن أهم الأعمال الكلاسيكية:

مسرحية “العطب” للكاتب “فريدريش دورينمات “، ترجمها “سمير التنداوي” وهي مسرحية إذاعية تصف النفس البشرية، وأن فطرة الإنسان الأساسية، هي الشر إلى أن يتأثر بِدِينٍ أو قانون؛ حيث تدور الأحداث حول عطل أصاب سيارة شخص يُدعى “تراب” فيضطر إلى المبيت في منزل أحد أهل البلدة، ويقرر الضيف أن يلعب معهم لعبة غريبة، ومن هنا تبدأ الأحداث، وكان العمل من بطولة: أحمد مرسي، وإبراهيم عمارة، وعبد الرحيم الزرقاني، وفرج النحاس، ومرسي الحطاب، وتريز دميان، ومن إخراج وهبة أبو السعود.

وهناك مسرحية ” الأشباح ” للكاتب “هنريك إبسن”، ترجمها ” عبد الحميد سرايا”، وتدور الأحداث حول امرأة تتحمل فساد زوجها للحفاظ على سمعة العائلة، وبعد وفاته تتبرع بأمواله لدار أيتام،  ليبدو الأمر تخليدًا لذكراه أمام الناس، إلا أنها في الحقيقة، تحاول إبعاد هذه الأموال عن ابنها، وقد تعرضت هذه المسرحية للكثير من الانتقادات، وتم منعها لأنها تعكس المشكلات الِاجتماعية والجنسية للمجتمع الأوروبي، وقام ببطولتها في النسخة العربية أمينة رزق، وزكي طليمات، وعايدة هلال و صلاح منصور، وعبد الغني قمر، وأخرجها محمود السَّبَّاع.

أما مسرحية “البخيل” للكاتب الفرنسي “موليير”، التي ترجمها “محمد عبد المنعم جلال”، فتعد من أبرز المسرحيات في الأدب الفرنسي، وهي مسرحية كوميدية ساخرة، تدور حول رجل غني بخيل، بخله وحبه المال، جعلاه يرفض حق ابنه وابنته لاختيار شركائهما في الحياة، ويسعى لتزويجهما من أغنياء، وإن كانوا أكبر سناً، وقام ببطولة هذا العمل: عبد الحفيظ التطاوي، وسعد الغزاوي، وفاطمة مظهر، ونادية السبع، وفريدة مرسي، وجلال توفيق، وخالد الذهبي، ومحمد خيري، وضياء الميرغني، وحمدي صالح، ومن إخراج هلال أبو عامر.

وأخيراً مسرحية “فيرا” للكاتب “أوسكار وايلد”، ومن ترجمة “ثريا مهدي علام”، التي تعرض التاريخ الروسي من فترة “1795..1800 “، وبطلة المسرحية هي “فيرا” التي تخطط لقتل قيصر الدولة، وشارك في هذا العمل: عبد الرحمن أبو زهرة، وسهير المرشدي، وعبد الغفار عودة، وأشرف زكي، ورشدي المهدي، وزكي عبد المجيد، وخليل مرسي، وصبري فواز، وأخرج هذا العمل عصام العراقي، وبعد فترة من التدريب والإعداد، تم بث مجموعة من التمثيليات المصرية من ضمن هذه الأعمال المسلسل الإذاعي “حسن القرنفلي”.

ولعل أبرز دور قدمته فكرة “التأذيع المسرحي”، هو تنمية الخيال والإبداع لدى جمهور المستمعين، والقدرة على المحاكاة، حتى أصبحوا يرون الصورة بآذانهم فقط.

الأشكال الإبداعية للدراما الإذاعية

الدراما في الإذاعة هي الدراما المسموعة، والتي ولد من رحمها فن التمثيلية الإذاعية، ويمكن تعريفها بأنها “الكلمة التي تعطي حواراً بين شخصيات، تمثل واقعاً حياتياً بمصاحبة بعض العناصر الفنية الأخرى، كالموسيقى، والمؤثرات الصوتية” حيث تعد التمثيلية الإذاعية، من أهم الفنون التي تُبَثُّ من خلال الإذاعة، وتنقسم إلى جانب برامجي مثل: برامج حوارية، برامج منوعات، برامج أحاديث ولقاءات مباشرة، وتحتاج هذه البرامج لنص مكتوب “سكريبت” حالياً يحتوي على معلومات، تصلح لحوار بين شخصين كالمذيع والضيف، وهناك جانب درامي مثل: السيمي دراما، السهرة الإذاعية، الخماسية، السباعية، المسلسل، ولكلٍّ  منها سماته الخاصة، التي تميزها عن غيره.

إحترازات كتابة التمثيلية الإذاعية

طالما كنا بصدد شكل فني، أو وسيط له تقنياته الخاصة وجمهوره الخاص، لذا لابد من مراعاة بعض النقاط المهمة أثناء الكتابة، منها القدرة على ترجمة كل فعل وانفعال، نتمكن من خلاله إشراك المستمع في العملية الفنية، أي تنشيط خياله كي يستطيع إدراك ما يحدث للشخصيات، والعناصر الرئيسية المستخدمة في التعبير هي: الحوار، المؤثرات الصوتية، الموسيقي، تلك العناصر كي يتم اْستغلالها بشكل احترافي، لابد من وجود محترفين في المجال، يمتلكون مهارات معينة، تواكب هذا الفن مثل: الكاتب، الممثل الإذاعي، المخرج الإذاعي، مهندس الصوت، ويشترط في كلٍّ منهم سمة التمرس والموهبة، وإدراك وفهم الوسيط الإذاعي، الذي يختلف عن باقي الوسائط المرئية، فالكتابة الدرامية الإذاعية، ورسم الشخصيات، وتوظيف عنصري المكان والزمان والأبعاد الثلاثة للشخصيات، تختلف بالطبع عن كتابة المسرح.

من هنا نسلط الضوء على المصادر التي يستقي منها كاتب الدراما الإذاعية ومن أهمها: مصادر التراث كالحكايات، والأمثال الشعبية، وتتميز تلك المصادر بالمرونة في تحويلها وصياغتها، التاريخ العربي الإسلامي والعالمي، الكتب الدينية، المسرحيات العربية والعالمية، الواقع المعاصر المحلي والعربي والعالمي، الخيال وهو مصدر ذاتي للكاتب، ومايميز كاتب إذاعي عن غيره، هو قدرته على إضفاء عنصر التشويق، وترجمة الأفعال والانفعالات، نتيجة لإدراكه عقلية الجمهور المستمع.  

لطالما كان الكون في حركة دينامية أي في تطور، إذن هناك العديد من الأفكار، والأشياء، والفنون، تتطور هي الأخرى، فهناك بعض الأشكال الفنية التي يخفت ضوؤها، وتظهر أشكالاً أخرى، ثم نجد عودة  تلك الفنون مرة أخرى،  تماماً مثل الموضة، فمهما سيطرت الوسائل والأشكال الأخرى، سيظل هناك حنينٌ لشعور الِاستماع، وخلق حالة من التفاعل غير المرئي من خلال تنشيط الخيال، وبالطبع مازالت هناك فئة خاصة من الجمهور، تستمع إلى الدراما الإذاعية، لذا بات من الضروري لفت أنظار فناني ومحبي الدراما الإذاعية، لتنشيط هذا الفن، وتزويده بما يساهم في جذب الجمهور له، وبما أن مواقع التواصل الِاجتماعي من أبرز عوامل الجذب، فيمكن استخدامه كمروج دعائي، والِاستفادة من التطورات، بما يناسب هذا الشكل الإذاعي، بدون أي تاثير سلبي على أصالته، بالإضافة لتشجيع الشباب دارسي المسرح والفنون أو أصحاب الموهبة بشكل عام، على كتابة الدراما الإذاعية، وإكتشاف مواهب الشباب الإذاعية، وتطويرها، وتقديمها مثل: موهبة الإلقاء، الإخراج، الكتابة والإعداد، وذلك من خلال الدورات التدريبية، فالإذاعة بشكل عام، والدراما الإذاعية بشكل خاص، هي الملاذ لأصحاب الخيال الخصب، وهي الصخب الهادئ لآذاننا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى