مسرح

د.حبيب ظاهر حبيب:قراءة في عرض مسرحية “لير يحاكم القدر”.

   د.حبيب ظاهر حبيب

قبل أكثر من نصف قرن قدم (أنتونان آرتو) عنوان (فلننته من الروائع) لأحد فصول كتابه المُلْهِم (المسرح وقرينه) وقال ما معناه (أن سوفوكليس وشكسبير كتبوا مسرحيات لجمهور عصرهم، واتهمهم بالذهاب الى الدراما النفسية وأنهم منفصلون عن الجمهور، لذا يجب الانتهاء من تلك المسرحيات التي توصف بــ (الروائع) وتأليف وعرض مسرحيات للجمهور المعاصر) من هذا المنطلق تناول العديد من المؤلفين الروائع، وعملوا على صياغتها لجمهور اليوم. وذهب البعض إلى: أن تقديم نصوص قديمة كما هي، يعد خيانة بحق الجمهور المعاصر. هذا مع التنويه إلى أن بعض النصوص القديمة تبقى حية لأنها تتصدى لموضوعات تحتمل معالجات عدة، وتقدم أفكاراً تتحرك مع الزمن.

إن تناول الروائع بشكل كلي وحتى لو كان بشكل جزئي وجعلها نقطة شروع وارتكاز ينطوي على شقين:
الأول: شيء من جرأة محمودة يقال فيها أن المؤلف/المخرج طال الشكسبيريات وتمكن منها وارتقى بها.
الثاني: خطورة متأتية من القول عن المؤلف/ المخرج بأنه تطاول على الشكسبيريات ولم يكن بقدرها.
وفي قول كلا الشقين يتعرض الذي يتناولها (مؤلفا كان أم مخرجا) إلى نقد من النوع الانطباعي، وإلى كلمات انفعالية مثل: (ما كان عليه أن يتجرأ على الروائع …أنه سيء جداً) ذلك أن الروائع تمتلك صورة أيقونية في ذاكرة المعنيين بالدراما يصعب معها المس بعناصرها، إلا بحذر شديد ودقة عالية، ولا سبيل إلى تحريك الصورة الأيقونية إلا من خلال القراءة والتفسير والتحليل.
قُدِمت في مهرجان بغداد للمسرح -الدورة الثامنة- ثلاث عروض، استندت إلى  الشكسبيريات، ونهلت من معين شكسبير الذي لا ينضب، ولم تقدم النص الشكسبيري نفسه، العروض هي: (أوفيليا) من إيطاليا، و(عطيل يعود) من تونس و (لير يحاكم القدر) من العراق.

يبدو أن نصوص شكسبير المسرحية لم تنتهي بموت شكسبير، لأنها أصبحت ملهمة للكثير من الأدباء والفنانين ليقدموا نتاجات إبداعية تستلهم من أفكار المسرحيات وشخصياتها الخالدة ، مثل مسرحية هملت يستيقظ متأخرا ، مسرحية عطيل في المطبخ ومسرحية لير وساحرات مكبث وأخيراً وليس آخراً مسرحية ( لير يحاكم القدر) … إنها عروض ونصوص كثيرة بنيت على ثيمة أو شخصية شكسبيرية، ذلك أن شكسبير أعظم كاتب عرفه تاريخ المسرح برأي العديد من الباحثين، وإن الارتكاز على عنصر أو أكثر من نصوصه يعد مصدر جاذبية وإثارة وتساؤلات تدفع الجمهور لمشاهدتها.

لير يحاكم نفسه … ويتعهد أن لا يسقط السراج من يده ينطوي عنوان المسرحية (لير يحاكم القدر) على فكرة انبعاث شخصية (الملك لير) من قبل المؤلف والمخرج (منير راضي) ليعيد ترسيم ما فعلته يداه عبر محاكمة القدر، رغم ظهوره بصورة الرجل المشرد الضعيف المقيم في كهف، وذلك انطلاقاً من صورة في مشهد موجود في النص الأصلي عندما يهيم (لير) في البراري برفقة بهلول.
عمد المؤلف إلى اخراج الاحداث والشخصيات من تفكير وخيالات (لير) وهي فرضية انبنى النص عليها، وأتاحت مساحة واسعة للعمل، ومنها شرع بجعل كل شيء ينطلق من (لير) وينعكس عليه. وقد حفل نص مسرحية (لير يحاكم القدر) بصور أسلوبية متنوعة ، والمقصود هنا بالصور الاسلوبية ” ما نتجاوز بالعقل معناها الحرفي إلى معنى أو معان أخرى مجازية أو غيرها ، وذلك يكون بالتمثيل والكناية ، والاستعارة من كل ما يفتح للقارئ ، آفاقا من التفكير والتخييل ” فقد استند (المؤلف/المخرج) منير راضي في بناء ثيمة العرض مسرحية (الملك لير) وانطلق من نهاية لير المشرد وبعث الروح فيه وجعله يعيش في كهف موحش، ليفكر في ما جرى، ويستذكر بمونولوجات امتدت طوال زمن العرض ما آلت إليه الأمور ويستعرض ما ستؤول إليه ، كل ذلك بسبب  تقسيم المملكة إلى قسمين ومنحها إلى ابنتيه (ريغان وغونوريل) أما (كورديليا) فلم يمنحها شيئاً لأنها رفضت التعبير عن حبها له، ومات لير كمداً من جراء ندمه على فعلته الشنيعة بتقسيم المملكة  وبسبب جحود ابنتيه ، وحزناً على ابنته الصغرى المخلصة البارة (كورديليا)
الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه (الملك لير) إن هو إلا (قدر) حكم عليه وفق منطق التراجيديا الأرسطية، أما في رؤية (منير راضي) الدرامية فقد كانت اعادة تنظيم هذا (القدر) والانتفاض عليه ومحاكمته، إذ يقول (لير) : لقد عبثت بي الأقدار ورماني الرب بسهم البؤس في قلب المعاناة والقهر.

ويقول (لير) في موقف درامي آخر: وأنت أيها القدر لقد جردتني من كل شيء، لقد سلطت عليّ سلطانك ونهبت مني التاج والصولجان ومملكة وما هذا بعزيز لي ، أفق ارجع إلى رشد عدلك … أيتها الآلهة إن عبثكم معي لا يجدي نفعاً.
وبناء عليه قرر تعديل مجريات الأحداث بالتخلص من تبعات الخطأ التربوي/ الاجتماعي المتمثل بعقوق ابنتيه الذي ابتدأ بالتأنيب. قال (لير) لابنتيه: (بناتي يا عار النساء أنتن الان مخالب آسنة للشيطان) وفي الوقت نفسه تؤنّب البنات أبيهن: (أبي سدد ما عليك من خطايا… انت أسقطتنا في هاوية الغدر بك) وانتهى أمر البنات بطريقة موت مذلة، وبقاء الأب (لير) حياً.
تدور الأحداث بحسب ما أوحت به الكتلة الجاثمة على خشبة المسرح في كهف متشعب غير منتظم الشكل ومتعدد المداخل والمخارج مما جعل ظهور الشخصيات واختفائها مفاجئة وصادما أحياناً -كما في ظهور (كورديليا) واختفائها- وفي هذا بعد علاماتي يرادف تكوين عقل الشخصية المحورية في العرض (لير) ذي الأفكار المشوشة الناتجة عن الصدمة النفسية/ الاجتماعية التي تعرض لها ، لذا فهو طوال العرض يفكر ، وكل الأحداث تخرج من رأسه وتتجسد على الخشبة ، ولم يكتفِ المؤلف المخرج بجعل الأحداث تدور في رأس (لير) بل عمد وبوضوح إلى إيجاد قرين/ظل لشخصية (لير) يتحرك أمامه، ويوجه شيئاً من سلوكه مع بناته اللواتي يتمثلن على وفق ما انتهت اليه مسرحية شكسبير جانب (شرير قاسي – ريغان وغونوريل) و جانب (ملائكي جميل – كورديليا) شخصية (القرين/الظل) هي الشخصية الوحيدة المضافة من قبل المؤلف/ المخرج، وامتزج فيها صوت ضمير (لير) من جهة، وحاكم على أفعاله السابقة وموجه لفعله ومسدد خطواته المستقبلية من جهة أخرى.

ابتكر المخرج طيفاً أبيضا نقياً للبنت الصغرى (كورديليا) وجعل عاطفة الأب (لير) جياشة بكل الحب لها، وطلب الغفران منها والندم على ما فعله معها يقول (لير) : سامحيني واغفري خطايا أب قذف بك إلى متون ليل بهيم وساح في حب ماكر ولعين) ولم يمنح المؤلف (كورديليا) حواراً لتبقى صور الطيف أكثر جمالاً من التعبير بالكلام.  
غلبت لغة الحوار البلاغية على جميع لغات العرض الدرامية وزادها جمالاً أسلوب الإلقاء التمثيلي، فكان منير راضي المؤلف طاغياً على المخرج رغم المفردات التي أسندت لغة الحوار بقصد إنشاء صورة مرادفة للكلمات، ولغرض الإشباع الجمالي لمفردات العرض.
ابتعد أداء الممثل (جاسم محمد) لشخصية (لير) والممثلات (زمن العبيدي واسراء ياسين) عن المواصفات التقليدية للشخصيات الشكسبيرية ، واقتربوا من بساطة سلوك الإنسان العادي، إذ لم يذهب الممثلون في تجسيدهم إلى الأداء على أساس إظهار عظامية الشخصيات وجلالها بالصوت القوي والأسلوب الخطابي والحركة الثقيلة بحسب الصورة المعتادة للملوك والأمراء والقادة في المسرحيات الكلاسيكية، مما جعل الشخصيات مألوفة للمتلقي وقلل من مهابتها التي غالبا ما اعتاد عليه المتلقي. مع الإشارة إلى إمكانية تضمين شخصيات (لير – ريغان – غونوريل)  بعد إنسانياً مقارباً للإنسان العادي ، إلا أن شخصية (الظل) وبحكم بناءها الغرائبي وحوارها لا تحتمل أن تكون ذات طبيعة إنسانية صرفة لأنها الضمير المنصف والوجه النقي لشخصية (لير)
سينوغرافيا (سهيل البياتي) نسجت فضاء العرض ومنحته أجواء تتضمن مقاربات روح (لير) المكتئبة مع وحشة الكهف، وصنع كرسيين ذهبيين برؤوس -رؤوس غير مستقرة- تهتز بكل الاتجاهات ، واستهل العرض بإشعال نار يستدفئ بها لير الذي نقل شعوره ببرودة الوحدة، وجعل تاج الملك ضئيلاً صغيراً ومرمياً على الأرض، رغم ان التاج هو رمز الملك والسلطة مما قد يجعله معادلا صوريا لضخامة صورة الكهف الضخمة أو أن يحل التاج بديلاً عنها. 
ومن الملاحظ تركيز الفعل وحصر حركة الشخصيات ضمن المساحة التي تمكن السينوغراف من تغطيتها بالرمال، وتم هجر مقدمة المسرح، كانّها مساحة يحضر على الممثلين الدخول إليها لغاية غير واضحة، ذلك أن واحدة من جماليات حركة الممثلين والمنظر هي تغطية أقسام خشبة المسرح بالفعل الحركي.


امتازت لغة النص بالفخامة مما جعل مهمة الإلقاء ليست سهلة على الممثلين ، وانصرف جل همهم إلى إيصال الصورة البلاغية للحوار ، وهذا أدى إلى غنى الجانب السمعي وغلبته على الجانب البصري/الحركي.
رأى المؤلف / المخرج في (لير) وجهة لم يراها الآخرون، وقدمها برؤية لم يكتنفها الغموض ولم تحدث اللبس، وكشف عمقها في مقولة (لير) الأخيرة ، وليرتفع الكهف الجاثم على صدر (لير) وينزاح الغمام عن عقله إذ حرك السينوغراف والمخرج منظر الكهف وجعله يرتفع للأعلى، ولم يهدمه بل بقي مهدداً وجوده بإمكانية نزوله مرة أخرى ويأخذ وضعه على الأرض، ليسدل الستار بعدما يعلن (لير) : (أنا الآن أرى أضواء ساطعة، كأجمل ما يمكن أن تراه من أضواء دفئاً وحناناً ولطفاً، لن يسقط السراج من يدي بعد الآن)
وبهذه المقولة قرر (لير) منير راضي أن لا يستسلم للقدر وان يستعيد ألقه الشخصي حتى وإن ابتعد سلطان الملك عنه، فهو لم يحاكم القدر بقدر ما أعاد تنظيم عقله وقرر عدم الامتثال لحكم القدر، وأن الإنسان قادر على صنع قدره بنفسه .
من خصائص المخرج عندما يكتب نصاً مسرحياً أنه يكتبه بصيغة الفن وليس بصيغة الأدب المسرحي، لذا عمل (منير راضي) على كتابة إرشادات الإخراج متواشجة مع التأليف وامتلك ناصية تحقيق ما رآه بعين مخيلته بالفعل الدرامي. مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار الرأي القائل: إن وجود (مؤلف) و (مخرج) يفكران ويعملان على إنشاء فضاءات العرض وابتكار مفرداته -ربما- يتفوقان على شخص واحد يهيمن على كل مفاصل العمل الإبداعي.
ختاماً: عمل فريق عرض مسرحية (لير يحاكم القدر) في ضوء مقولة : يرى الفنان أشياء لا يراها الآخرون ويقدمها لهم ، وفي كلمات أخرى: يعبر الفن عن ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه، بصيغة جمالية مبتكرة.


★ناقد ـ العراق.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى