مسرح

حمه سوار عزيز: “يا طالعين الجبل”.. مرثية الموت والمقاومة.

حمه سوار عزيز

استند العرض من البداية  إلى النهاية على فكرة مسرحة الرواية والسردية الروائية التي سيطرت على مفاصل العرض من خلال حضور شخصية الراوي التي أدتها بشكل مبهر المؤدية والممثلة (حياة جابر)، بمساعدة جوقة موسيقية تداخلت في الصنعة السردية والأدائية بشكل مكرر في تأسيس المعادل المشهدي والبصري للعرض.

غاب عن العرض السردية الدرامية والمشهدية الدرامية الحركية التي من المفترض أن تقود العرض لكي يخلق حالة من التفاعل والتواصل الحميمي  من خلال فعل درامي قائم ويتطور مع الزمكانية المفترضة للواقعة الدرامية، لكن المفاجأة الكبرى في العرض أنه كسر أفق توقع الجمهور من خلال الذهاب إلى منطقة سردية مختلفة ومغايرة للمألوف في العرض المسرحي، و ذلك بإتكال العرض على عملية القراءة الروائية للقصة من خلال شخصية الراوي بمصاحبة الموسيقى والأغاني التي كانت تعمق من مدلولات القصة حسياً وداخلياً مع بعض التحولات الدرامية من خلال تجسيد شخصية (ثريا) من قبل الراوبة والمؤدية (حياة جابر)، وهذه الحالة خلقت نوعاً من التنوع لإيصال فكرة وثيمة المسرحية بحضور الراوية والشخصية في كائن واحد منشطر أحياناً بين طريقتين مختلفتين  في السرد والتجسيد.

غياب السردية الدرامية عوضه المخرج من خلال حضور السردية الحسية العالية المشحونة بالعواطف والأشجان الإنسانية المتعددة التي عبرت عنها الراوية من خلال منظومة صوتية تحمل في ذاكرتها كثير من الأحاسيس والأفكار والمرجعيات الإنسانية والتاريخية التي ترتبط بالإنسان العربي وفكره وأصالته وذاكرته المملوءة بالألم والاضطهاد، هذه المرجعيات التي أعطت للكائن العربي قوة تاريخية وإنسانية عميقة لكي يواجه الموت ولا يتهرب منه، ويستمتع بفكرة الموت من أجل الحياة، و هنا  ذهب المخرج باتجاه استحضار شخصية (أنتيجونا) اليونانية من خلال فعل الإصرار على الدفن لكن بغايات مختلفة لكل من شخصية أنتيجونا وثريا، أنتيجونا أرادت أن تدفن شخصية أخيها لكي يسوق لفكرة أن الإنسان كائن مكرم يجب أن يحظى عند موته بالتكريم والتجلي الذي يستحقه، لكن كانت نوايا (ثريا) مختلفة، لأنها لم تبحث عن إرجاع الكرامة من خلال دفن شخصية (يوسف_زوجها)، فهي شخصية لا تنقصها الكرامة والتقدير، إنما انطلقت من فكرة المواجهة وعدم استسلام أمام جبروت العدو الدموي، فأرادت من يوسف أن يرفض فكرة الموت ويعود للحياة لكي يقاوم هذا المد الإجرامي للمحتل ولا يترك له الارض أبداً، وهذه اشارة واضحة من العرض بأن مقابل كل شخصية تسقط في مواجهة العدو، هناك مئات وآلاف  من الشخصيات التي تأبى الموت وتستمر في المقاومة والمواجهة.

غياب الفعل الدرامي في العرض جعل من المسرحية تعتمد الوصف واللغة الإنشائية المشحونة بالعواطف والمحملة بنوع من المرثية والصرخة المناهضة للظلم والاستبداد، فارتكز العرض على الماضي لكي يجسد به الحاضر المشابه له من خلال تكرار القتل والمجازر، فعمل العرض على دائرية الفعل من خلال دائرة افتراضية المجسدة عن طريق الإضاءة المسرحية التي كونت بقعة دائري تحركت فيها الممثلة بشكل كبير، وهذه الدائرة المجسدة للفعل التاريخي في العرض، يشير على العودة الأبدية للتاريخ وأن الماضي الذي ارتكز عيه العرض من خلال سرد لمجزرة دير ياسين، ماهي إلا حاضر في المجازر المتعددة التي ترتكب في الغزة الآن، لذا كان خطاب العرض اتسم بالدائرية وانتفاء البداية والنهاية وتداخل الأزمنة والأمكنة داخل السردية الزمكانية للعرض.

استند المخرج على فكرة الفضاء الساكن والثابت وتسكين الفعل الفيزيائي من خلال تأسيس مشهدي يعتمد كتلات مسرحية وبصرية غير متحركة وساكنة في العرض، لكي يعطي مساحة الحركة الحسية والوجدانية الاستنفارية للمؤدية لكي تحرك الجمهور وتدخلها في ثنايا فضاء العرض؛ لذا حاول العرض أن يشتغل على المتلقي ويشوش تفكيره ويحرك دواخله و وجدانه وقوته المخفية من خلال بعض الفقرات الموسيقية والأغاني الأصيلة التي حملت في داخلها كم هائل من الذاكرة الجمعية الإنسانية والقومية التي مثلت نوع الكينونة الانسانية للشخصية العربية من خلال تاريخ مليء بالذكريات والعواطف المشحونة التي قد تحركها نحو العمل على تغيير هذا الواقع المؤلم والقاسي ولا يستستلم لها، ذكرني هذا التعبئة الإنسانية والقومية بأسطورة (هرقل) عندما يقع في الأسر ويثور عليه صديقه بكلمات و عبارات مباشرة لكي يتغلل إلى داخله ويحرك تلك القوة الجبارة النائمة فيه، لكي يستند عليه ويتحرر من الأسر، هذا ما دعا له مخرج العرض بشكل قصدي، عندما ارتكز على الخطاب المباشر ودغدغة الحس الوطني والفخر القومي المتأصل في داخل الإنسان العربي، لكي يحرك تلك القوة المضمرة بداخله ويقوم من رقاده فيواجه به هذا الواقع المؤلم المفروض كرها، لذا كان استناد العرض على المباشرة والخطاب التحريضي دون خطاب درامي وابتكاري، قللت من القيمة الفنية والجمالية للعرض، لأن الخطاب التحريضي والاحتجاجي كان فاقداً للبنية الدرامية والإحالة المشهدية البصرية التي قد تبنى عليها أي عرض مسرحي، لقناعة المخرج الشخصية بأن حجم الكارثة و المأساة لا تتحمل آية إحالات وإشارات تأويلية ودرامية، لذا أتى العرض فقيراً في شكله الفني والإبداعي وفاقداً لكثير من البنى الجمالية والفنية بقصدية من المخرج والمؤسس لفكرة العرض وهذا ما لم يستسغه كثير من متابعي العرض.

الموسيقى والأغاني كانت منسجمة مع فكرة و ثيمة العرض الحسي والوجداني، فعمل على تعبئة الجمهور من خلال العودة إلى الأصالة والتراث والعمق الثقافي والتاريخي للشخصية العربية وذلك من خلال أداء أغنيات عربية أصيلة بصوت ونبرة أدائية تمتلك في طياتها كثير من الشجن والكبرياء والإحساس بالكينونة والفخر الإنساني، مما جعل من العرض في بعض مشاهده كأنه قد استسلم للصورة السمعية التي تبثها الموسيقى والأغاني، تلك الصورة المرتبطة بالماضي والتاريخ والتكوين الإنساني للشخصية العربية، فتحول العرض إلى مرثية صوتية تعتمد الصورة الصوتية بدلاً من المعادل البصري، لذا كان تداخل الموسيقى والأغاني في العرض تداخلاً حسياً ووجدانياً أكثر مما هو تدخل درامي قد تؤدي إلى الأفعال الدرامية، فافتقدت الفقرات الموسيقية للدراماتيكية وخلق ومسايرة الفعل الدرامي من أجل توصيل الرسالة الاحتجاجية المباشرة التي ارتكن إليها العرض، فكانت الموسيقى  حاضرة بقوة في مساحتها الحسية والوجدانية وغائبة في المساحة الدرامية المساهمة في تشكيل المعادلة البصرية للعرض.

أدت الممثلة والمؤدية والراوية (حياة جابر) بشكل منسجم ومتوافق مع البنية الفكرية و الجمالية للعرض من خلال ارتكاز على الصوت والأداء الصوتي المشحون والمثقل بالكوارث والمأساة والإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في الغزة، فكان أداؤها صرخة إنسانية قوية ومؤثرة، حاولت أن تكون صرخة كونية مستفزة للضمير والوجدان العربي والإنساني، الذي ما زال مسترسلاً في سباته ونومه العميق ومتخلياً عن رسالته القومية والإنسانية في الحياة وهي المقاومة و الدفاع عن كينونته وتاريخه وحقه بالحياة والكرامة، كما قدمت الممثلة تنوع أدائي مميز ومن خلال تجسيد المشاعر الإنسانية المختلفة من الحب و الرومانسية والارتطام بالألم والانكسار والشعور بالضعف والقهر إلى العنفوان وروح المقاومة والتمرد والصراخ بوجه الظلم  والقتل والإبادة و أخيراً إظهار إرادة البقاء والمواجهة و التحدي، هذا الأداء الحيوي المفحم بالجمال بالرغم منة غياب الارتكاز الدرامي والتنوع المشهدي، إلا أن حضور (حياة جابر) في هذا العرض، مثلت حالة إبداعية مميزة، خلقت نوع من التواصل الجمالي مع المتلقي.
المسرحية الأردنية (يا طالعين الجبل)، عمل مسرحي موسيقي عن رواية (عد إلى البيت يا خليل) للروائي كفى الزغبي وإخراج عبد السلام قبيلات وأداء حياة جابر ومجموعة من الموسيقيين والمغنيين، والعرض كان ضمن العروض الدورة الخامسة للمهرجان بغداد الدولي للمسرح التي أقيمت في بغداد وقدمت على خشبة مسرح المنصور.


★ناقد ـ العراق

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى