شعر

جواد عامر: الطعام في القصيدة العربية القديمة..قراءة دلالية.

جواد عامر ★

شكل الطعام في القصيدة العربية القديمة جزءا من التشكيل الموضوعي الذي لم يتم الالتفات إليه في الدرس الأدبي والنقدي العربي معتبرا إياه حشوا داخل المتن الشعري لايتجاوز حدود كونه عرضا شعريا يحتمه سياق القول في باب الكرم الذي شكل محورا هاما في تركيبة النص الشعري المادح والمفتخر أو النص المناقض له حين يستدعي فيه الشاعر العربي تيمة البخل في باب الهجاء والتعيير، فلم يحفل الطعام في الشعرية العربية باهتمام نقدي لانصرافه نحو قضايا بدت له أكبر من مجرد إشارات للطعام في نص ممتلئ ومشحون بأشياء بدت أكثر دسامة أن أغنته عن الخوض في شيء عارض يتجاوزه الشاعر العربي سريعا نحوالقضايا الكبرى في القصيدة خاصة في العصور المتقدمة من شعرنا العربي رغم أن المتن الشعري سينحو نحوا آخر عما دأبت عليه القصيدة التقليدية التي غابت عنها الوحدة العضوية في عرض الطعام في شاكلة الومضات والإشارات السريعة التي حتمها الفخر بالكرم والجود عند الجاهليين ليجد الطعام نفسه بألوانه المختلفة وصنوفه موضوعا يتشكل بشكل مستقل داخل النص الشعري العربي في العصر العباسي بحكم ما أنتجته المدنية وصنعته الحضارة بعمرانها وحدائقها وبساتينها وما حوته من ألوان الثمار وصنوف الفواكه التي لا عهد للعربي القديم بها بفضل التداخل الكبير بين حضارة العرب وغيرها من حضارات الدنيا كفارس والهند والروم وغيرهم ، فأسهم هؤلاء في جلب أصناف الزروع والطيور التي دخلت أرض العرب والتي اتسعت بفضل الفتح الإسلامي فعرف العرب ألوانا من الأطعمة الدخيلة على الثقافة العربية والتي تعلموها من الفرس والروم والهنود فانتشرت في الأوساط الاجتماعية بأسمائها الأصلية كما أطلقها الفرس والروم والهنود عليها فغدت متداولة في أرض العرب بنفس الإطلاقات ولعل كتاب البخلاء للجاحظ نموذج تراثي أكثر حفلا من غيره بأسماء الأطعمة والأشربة الوافدة من ثقافة فارس وغيرها ومن هذا التاريخ بدأت العناية بالحديث عن الأطعمة والأشربة من قبل كتاب العصر كالثعالبي وابن قتيبة وأبو حيان التوحيدي وغيرهم ممن وقفوا عند ألوان الأطعمة التي سادت في العصر وأدرجوا قصصاً تحكي عنها وبينوا الفروق بين أصنافها وتكوينها وكيفية إعدادها وما شاكل ذلك مما يخص الطعام .

ولعل التطور الحضاري الذي وسم البيئة العربية وانتقالها من البداوة وما تستلزمه من بساطة إعداد ونوع مأكل ارتبط بالبيئة الصحراوية البسيطة إلى بيئة جديدة بدأت تشهد دينامية اجتماعية عبر طبقاتها وانفتاحها لتأخذ المائدة العربية نسقا جديدا من التنوع والتفنن في اصناف المأكولات والأشربة في عهد بني أمية ويزداد هذا التنويع جمالا وأناقة وحسن عرض في عصر بني العباس حيث كانت الموائد على درجات عالية من الزخرفة وحسن التنظيم والتأنيق ، بل إن العصر شهد ثورة العلم التي أفرزت تقدما في مجال الطب والصيدلة وما يستتبع ذلك من فهم وحسن إدراك لقيمة الأطعمة والأشربة ومنافعها ومضارالإفراط فيها فعرف الناس قيمة الغذاء وفائدته وتعرفوا على ألوان جديدة وافدة من بيئات دخيلة فامتزجت ثقافة العرب بثقافة غيرهم في باب الأطعمة والأشربة وتلاقحوا تلاقحاً لم يشهده عصر من قبل في تاريخنا العربي ، لذلك ستحفل الشعرية العربية خلال عصر بني العباس بقصائد اتخذت من الطعام موضوعا لها ناقلة إياه عبر لغة واصفة ماتعة،لتجسد عمقاً ثقافياً مختلفا أخذ في التشكل داخل بيئة عربية بشكل مغاير تماماً لما سلف في العصور السابقة خاصة العصر الجاهلي الذي ارتبط فيه الطعام بصنف مشتهر لايكاد يتجاوز اللحم والشواء وبعض الثريد ، لذا فإلقاء نظرة على المتن الشعري الجاهلي كفيل بأن يؤكد أن حضور تيمة الطعام كانت ذات أهمية في القصيدة سواء ارتبطت بشيمة الكرم تباهيا بهذه الخصلة يقول امرئ القيس :

   ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من كورها المتحـمل .

          فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمــقس المفتل.

          تدار علينا بالسيف صــحافنا ويؤتى إلينا بالعـــــبيط المثمل .

أو كانت مرتبطة بسياق الصيد حين يقول في موضع آخر من المعلقة :

       فَعَنَّ لنا سربٌ كأنَّ نِعــــــاجَـه عذارى دُوارٍ في مُلاء مُذَيَّلِ 

      فعادى عداء بين ثور ونعــــجة دراكا ولم ينضح بماء فيغسل .

    فظَلَّ طُهاةُ اللحم من بين مُنْضِجٍ صَفيفِ شِواءٍ أو قَديرٍ مُعَجَّلِ .

وقد يكون استدعاء لون الطعام في سياق القمار والميسرمن أجل نحر الجزورلإطعام أهل الفاقة والعوز يقول لبيد بن أبي ربيعة :

    وجزور أيسار دعوت لحتفـــها بمـــــــغالق متشابه أجسامها .

    أدعو بهن لعاقر أو مطــــــــفل بذلت لجيران الجميع لحامها .

   فالضيف والجار الجنيب كأنـما هبطا تبالة مخصبا أهضامها  .

فالفخر بالكرم وإن كان في سياق الميسروهو أمر معهود في ثقافة الجاهليين وارد في هذا المقام الشعري عند لبيد وهو يفخر بأن الناقة التي ستذبح من ماله الخاص وليست نتاجاً للميسر ويقدم لحمها للفقراء وأهل الحاجة من الناس فيكون إكرامه لهم شبيها بحال وادي تبالة إذا كثر نباته وأخصب أيام الربيع.

ولم يحظ الطعام في العصر الإسلامي زمن الوحي باهتمام كبير من الشعراء اللهم ما عرض في سياق الفخر بالكرم والجود لما أرساه الوحي من منطق زهد وترفع عن الملذات وانشغال بالدعوة والدولة ، فلم يكن للشاعر العربي وقتها من تفرغ لمثل هذه المواضيع التي ستظل نائية عن مخيلة الشعراء المنشغلين بقضايا كبيرة جاء بها الاسلام وما سيعيشه الناس من احداث بعد وفاة النبي عليه السلام من فتن وتطاحن وصراع حول الخلافة التي ستؤول إلى بني أمية وها هنا سيبدأ التاريخ ليشق طريقا آخر مختلفا عما نهجه السلف لا من حيث العقيدة لكن من حيث الممارسات السلوكية والانباءات الثقافية التي ستتشكل في محضن ثقافي جديد طبعه نوع من الانفلات من منطق الزهد إلى البذخ والتنعم في الملذات فقد عرف معاوية وسليمان بن عبد الملك بشراهتهما في الأكل حتى إن المؤرخين يذكرون قصصا غريبة عن عدد وجبات الملكين والأوان الطعام التي كاونا يأتون عليها بلا هوادة رغم نصح الأطباء لهما بالعدول عن أنواع من الأطعمة فيها الحلوى واللحم والفاكهة والزبيب والعجوة والإقطة والقبة وهي أكلة سورية معروفة ذكرها الجاحظ في البخلاء .

وفي العصر العباسي سيتشكل متن شعري غير مرتبط بمائدة القصرأو موائد الأسمار على عادة ما فعل شعراء المنادمة والمسامرة فكانت قصائدهم عرضاً قصصياً يداخله موضوع المائدة بما عليها وإنما ستأخذ القصيدة منحنى جديداً يرسم طابع الاستقلالية والوحدة العضوية في عرض توصيفي دقيق للون الطعام أو عبر نقله موصوفا بما يؤثته في عرض سردي خاطف لايأخذ حيزاً كبيراً من متن الطعام الذي شكل جوهر النص الشعري ، هذا الاشتغال الشعري وجدناه عند شاعر عباسي برع في الوصف وأجاد فيه أكثر من غيره من شعراء عصره ، إنه ابن الرومي الذي فاق وصفه للطعام وصف غيره من الشعراء حيث نجده يتلاعب بالحروف عبر التصحيف وهي لعبة لغوية كان ابن الرومي مولعا بها ففاق بها غيره يقول في قصيدة له عن فاكهة الموز:

              إنما الموز حين تمكن مـــــنه كاسمه مبدلا من المـــيم فاء 

              وكذا فقده العزيز علــــــــينا كاسمه مبدلا من الزاي تاء 

              فهو الفوز مثل ما فقده الموت لقد بان فضله لا خـــــــفاء 

             ولهذا الـــتأويل سماه مــــــوزا من أفاد المعاني الأســـماء 

              رب فاجعله لي صـبوحاً وقيلا وغبوقا وما أســأت الغذاء 

             نكهة عذبة وطـــــــــــعم لذيذ شاهداً نعمة على نعمـــاء 

              لو تكون القلوب مأوى طعام نازعته قلوبنا الأحــــشاء 

             إنني لحقيق بالشبع السائغ من أكـــــــــله وإن كان مـاء  

فانظر إلى هذا الوصف البديع للموز وما أحدثه من اثر نفسي قوماه المتعة والاحساس باللذة فجاء التعبير الشعري غاية في الصدق مطبوعاً لا تكاد تلفي فيه أثرا لصنعة يتكلفها الشاعر سوى لعبة التصحيف التي صارت جزءاً من طبع الشاعر لأنه برع فيها وله منها أبيات كثيرة في غير هذا الموضع .

وينقل ابن الرومي في وصف جميل لدجاجة روفقت بالقطائف والثرائد حين حضر مائدة أبي بكر الباقطاني فقال : 

             وسميطة صفراء دينـــــــــــــارية ثمــنا ولونا زفها لك حـــــــزور

            عظمت فكادت أن تكـــــــون إوزة وغلــت فكاد إهابها يتـــــــــفطر

             طفقت تجود بذوبـــــــــها جوذابة فأتى لباب اللوز فيـها الســـــــكر 

            ظلنا نقشر جلدها عن لــــــــحمـها فكأن تبرا عن لجين يقـــــــــشر

            وتقدمتها قــــــــــــــبل ذاك ثرائد مثل الرياض بمـــــثل ذلك تصدر 

            ومرققات كلهن مزخـــــــــــرف بالبيض منها ملبــــــــــس ومدثر 

           وأتت قطائف بعد ذاك لطــــــائف ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر 

           ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها دمع العيان من الدهــــــــان يعصر

لقد قدم ابن الرومي توصيفا قل له النظير في الشعرية العربية للدجاجة وصورها تصويرات حسية جعل صورتها أقرب ما تكون إلى معدة القارئ أكثر من بصره ، وأثت مرفقاتها بتوصيفا ت دقيقة نقلت شكل المائدة وحملت قارئها على تخيل المشهد كما لو أنه في حضرة ابن الرومي ورفاقه متحلقا حولها يقشر هذا الجلد المذهب ليظهر ذلك اللحم الشبيه بالفضة في التماعه ، وله في الزلابية وهي نوع من العجين يقلى في الزيت وصف فريد يقول فيه : 

           ومُسْتقرٍّ على كُرسيه تــــــعبٍ روحي الفداءُ له من مُنْصَـــبٍ تعبِ

          رأيته سحرا يقلــــــــي زلابية في رقة القشر والتجويف كالقصب

          كأنما زيته المـــــقلي حين بدا كالكيمياء التي قالوا ولم تصـــــــب 

          يلقي العجين لُجَيْنا من أنامله فيستحيل شبـــــــــــابيكا من الذهب 

إن حضور الطعام في شعر ابن الرومي له نكهة متفردة لأنه ينبع من صدق الإحساس من رجل مفتون بأطاييب الطعام وألوانه مما جعله يتجاوز شعرية غيره من الشعراء الذين كانوا يجدون وصف المائدة وما فيها حتمية إبداعية من اللازم الإتيان بها في حضرة المسامرة والمجالسة لذلك كانت في غالبها تخلو من صدق الإحساس فتتحول إلى مجرد أوصاف ظاهرة لا تستشعر فيها الغمق النفسي الذي ينبع من الباطن الشعري فيلامس وجدان السامع نفسه.

وهكذا يظهر أن موضوعة الطعام كان لها حضور وازن في الثقافة العربية سواء من خلال الشعرية التي عبرت عن ثقافة العصرواستطاعت أن تشكل علامات ثقافية بالمعنى السيميائي عبرت عن تفكير الإنسان العربي عبر العصور أو حتى في الكتابات التراثية التي استوعبت دور الأطعمة والأشربة كجزء من التشكيل الهوياتي والثقافي للبيئة العربية وكنوع من الفلكلور الثقافي المعبر عن أنماط التفكير والسلوك والممارسات الحياتية التي اختلفت في البيئات العربية على مر التاريخ ، فنقلتها عبر المتون الإخبارية والطريفة في كتب من قبيل عيون الأخبار وأدب الكاتب وفقه اللغة والعقد الفريد وغيرها.


★ ناقد ـ المغرب.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى