مسرح

ريم ياسين: ” نساء بلا غد”…متى سيصبح لنسائنا غد؟!

ريم ياسين ★

اِهتم الفن كثيراً بالقضايا النسائية في السينما والمسرح، من خلال تسليط الضوء على المشكلات؛ التي تعيق المرأة في تحقيق ذاتها، أو اكتساب حقوقها أمام الوباء الذكوري المنتشر خاصة في المجتمعات العربية، ومن أكثر النماذج التي تزيد هذه القضايا اشتعالاً، عندما يتم الحديث عن السيدات اللاجئات من الدول مثل : سورية، وفلسطين، ودول أخرى لها نفس المعاناة، وهذه كانت الركيزة الأساسية لعرض ”نساء بلا غد” ضمن فعاليات المهرجان القومي للمسرح المصري، من إعداد وإخراج نور غانم، تأليف جواد الأسدي، والبطولة الثلاثية لنجمات العرض لونا، بسمة ماهر، نهال الرملي.

من سوريا إلى الوطن العربي

تدور أحداث العرض حول ثلاث سيدات سوريات يحاولن الرجوع إلى بلدهن، بعد هجرتهن قسراً إلى المانيا ، بسبب ظروف جعلتهن يجتمعن في غرفة واحدة ، فقد كُنَّ يختلفن في الشخصية والطباع؛ ولكن يجمعهن ذلك الحاضر القاسي ، فلكل واحدة منهن قصة مختلفة؛ أثرَّت في تكوين شخصيتها، فمثلاً مريم، الشخصية المتناقضة تبين تدينها المتشدد، وحبها الخفي لعشيقها الألماني ، لتعود كل ليلة ساجدة في مُصلاها، راجية ربها أن يغفر لها ذنبها، فهي الأخت الوحيدة لستة إخوة، فالواضح من شخصيتها أنها أُجبرت على حفظ القرآن، وارتداء الحجاب؛ لتوضح تلك الأبعاد الذكورية التي سيطرت عليها، و تبقى على النقيض من شخصية أديل، التي تدّعي أنها تنظر للحياة بطريقة مختلفة، أو أكثر تفاؤلاً من الأخريات، فهي أكثر جرأة في كلامها وأدائها من مريم ، تسعى إلى التكيف مع الوضع الحالي، وأن تتزوج من ألماني أشقر، وتحظى ببيت هناك، تحب الأضواء والشهرة، وهذه كانت نقطة التلاقي بينها و بين فاطمة، ممثلة المسرح المشهورة، ذات النفس العالية، تحب التمثيل الذي كانت تذكرنا به في كل جملة في حوارها، تيأس من وضع بلدها الذي آلت إليه، فهي ممتنة له بذكريات النجاح، وأصوات الجمهور العالقة في ذهنها إلى الآن، وكانت شخصية فاطمة، بمثابة صوت الضمير للمتلقين؛ ففي كل مرة تشفق على الأوضاع؛ لا تكتفي بسورية وحدها؛ بل تذكر فلسطين والعراق والسودان، وكل لاجئ دمرت بلادَه أسلحةُ الاحتلال.

أرقام لا أسماء

طيلة العرض نرى الثلاثة في مواجهة القاضي؛ الذي لا نعرف كينونته، ولا شكله فهو أمام المتلقين شخصية متخيلة، كُنَّ يُعَرِّفن أنفسهن أمامه؛ ولكن باستخدام أرقام بجانب الاسم، وكأنه محو للهوية، أو معاملتهن كسلعة تجارية؛ لكل واحدة منهن رقم، وكل مرة يقصصن عليه القصة بنفس الطريقة، فأعتمدن على أسلوب التكرار؛ حيث لا يوجد من يحفظ قصة أوهوية تلك النساء الضائعة؛ خلف أسوار الحروب، والظروف القهرية، مما جعل أديل، ترد قائلة:”هل أذكرك باسمي أم برقمي” و هي الحالة الهيستيرية التي جاءت لها بعدما ذكرت قصتها؛ فكانت تعيش حياة هادئة مستقرة في عش زواجها ، وبعد ما أنجبت ابنتها، وقامت بعلاجها من ثقب قلبها، قام الاحتلال بحفر ثقب آخر برصاصاته التي لا تعرف مجالاً للرحمة، أما مريم، التي تفقد إيمانها في النهاية، وتخلع حجابها، نتيجة لتلك الجريمة التي ارتكبها الاحتلال بقتل “حسام” آخر أخِ لها، فأصبحت مبعثرة الذات بين والديها الوحيدين في سورية، وبين ذاتها في بلد لا تعرفها، فهل تجمع شتات نفسها الانفصامية، أم تتمرد لتعود إلى بلادها، أما فاطمة، التي تتملكها الوحدة، وهي السبب الرئيسي وراء قراءتها المستمرة للمسرحيات مع أديل، فهي تشفي ذلك العجز في وحدتها بانبهار أديل، بها في كل مرة ، وهي تعلم مدى معرفتها المحدودة بالفن، ولكن منادتها بالفنانة كان سبباً كافياً، وكما اتضحت مكونات شخصياتهن المختلفة، ولكن كان سبب خوفهن واحد، وهو”مقبرة اللجوء” هذا الاسم المفزع التي ذكرته مريم، بعد قتل أخيها، عبارة عن مكان يدفن فيه كل جسد أصابه الاحتلال، غير معترفِ بهوية، أو اسم أو حتى بلد، مجرد أشلاء تحت التراب،لا يهم إن كانوا نساء أو أطفالاً كما قالت أديل: “شباب فُقدوا، ولم يعودوا إلى أرحام أمهاتهم”، فهم بالنسبة لنا أرواحٌ؛ أما بالنسبة لهم أرقامٌ مدفونة.

ما قبل اليوم الثاني

و بتسلسل الأحداث نصل إلى تلك النقطة؛ التي تجمع الخيوط ببعضها، وتجيب على أسئلة المتلقي، مثل لماذا مريم، بهذا التناقض؟ ولماذا فاطمة، صارمة؟ ولماذا أديل بتلك المشاعر المتبلدة؟

كل هذه الأسئلة ترجعنا خطوات إلى ماضيهن ، فندرك أن مريم، تم اغتصابها لمدة عَشَرَةِ أيام من عَشَرَةِ أشخاص مختلفين بحجة النكاح في الحروب، وفاطمة، تعرضت للضرب حتى تم إنقاذها من قبل غرباء، وأديل، تخسر صغيرتها، ليجتمعن مرة أخرى؛ حول أن الثلاثَ تعرضن لنزيف في الدم، فينتهي المشهد بصرخة واحدة؛ ولكن لا نعلم هل كان بسبب الجرح الجسدي، أم كان جرح ترك جذور أرضهن؟ ويكون نقطة التحول؛ فمريم، تختار حياتها متحررة من كل قيودها، وفاطمة ترتدي قناع زيها المسرحي؛ لتهرب به إلى عالمها الفني المضيء، أما أديل، فترقص رامية ماضيها وراءها.

سينوغرافيا العرض

وليتكمل العرض الفني، وينمي التغذية البصرية للجمهور، كان الديكور بسيطاً يعبرعن كل شخصية، وحالتها الدرامية، فهو عبارة عن غرفة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، جزء مريم، الأكثرتنظيماً، كان عبارة عن خزانة مليئة بالملابس الواسعة والأحجبة بالإضافة إلى الكتب الدينية، والقرآن الكريم، سجاجيد الصلاة ، التي كانت تسخر منها أديل، فكانت الوحيدة التي لا تملك إلا زجاجة النبيذ خاصتها، وأيضاً بعض الكتب التي تتكلم عن التمثيل والمسرح؛ تقرأها لها فاطمة، وفي منتصف المسرح تقع فاطمة، بصندوقها المغلق على متعلقاتها من أزياء مسرحية، وشَعر مستعار، وفساتين لشخصيات مثل جوليت، فكانت كل قطعة لديها تحمل قصة في ذهنها، وبذكر نقطة الذكريات، والعقل الباطن، فكان للشاشة دور كبير في الديكور، حيث شكلت بطريقة توحي بأنها خيوط ذكريات، وأحداث في كل عقل للشخصيات ، وأضيف عليها أنها وسيلة تواصل البطلات الثلاث بأهاليهن، أو بمعنًى آخر “الفيديو كول”، أما بالنسبة للإضاءة فكانت إضاءة عادية تبرز فقط ملامح الوجه، وتتركز على من يتحدث، وهذا ما جعل العرض أكثر واقعية، وزادت الحالة الشعورية عندما اقترن العرض بالموسيقى، فكان إيقاعها يَنُمُّ عن حالة الحروب والفقد، ومشاعر الشخصيات التي صممت الموسيقى عندها بأغنية “ياما ودعيني” من فاطمة، بعد وصول مكالمة الفيديو لها ، وأن أهلها أصبحوا تحت القصف، فقام بدور والدها في العرض المخرج “أيمن الشيوي”، وأيضاً وحد لون الزي لاشتراكهن في نفس المأساة؛ ولكن كانت مريم، بزي محتشم فضفاض، وأكمام طويلة ، مرتبة الشَعر على عكس أديل، ذات الزي عاري الأكتاف والقصير، وشَعر مجعد؛ لِيَنُمَّ أكثر على تمرد شخصيتها، وكسرها للقواعد، أما فاطمة، فكان زيها طويل، ومهندم بطريقة يدل على شخصيتها القوية والعنيدة، فعندما كُنَّ يقفنَ في مقدمة المسرح؛ كنا نرى حقاً هذا الاختلاف.

أداء حركي ، ومساحة فارغة

كان الأداء الحركي في بداية العرض عبارة عن مجموعة من الحركات الجسدية؛ التي تعبر عن الاستبداد وما شابه، واختلفت تلك الحركات برقصة أديل، وفاطمة، كأنها فترة خرجتا بها عن الواقع، و نسيتا قليلاً ظروفهما، كما اعتمد العرض على كسر الحائط الرابع؛ فالحوار كان معظم الوقت موجهاً للجمهور، ووقوف الممثلات الثلاث في مقدمة الخشبة دلالة على وجودهن في مركز قوة، فهن يعرفن حقوقهن، ويعلمن كيف يدافعن، أيضاً برزت تقنية “مسرح داخل مسرح” بتمثيل فاطمة، مشهد من مسرحية “جلجامش” والتي تدور حول حتمية الموت للبشر، والخلود للآلهة؛ لذلك جاء النص المستخدم في المشهد؛ ليصف حالة سورية، ويتماشى مع السياق الدرامي للعرض؛ ولكن يعاب على العرض عدم إعطاء شخصية فاطمة، هذا الحيز الكافي لإبراز معالم شخصيتها، وأبعادها النفسية أكثر، فكان المتلقي على انتظار؛ ليتعمق في رسم شخصية فاطمة، والوصول بها إلى تلك النقاط في حياتها قبل الهجرة؛ كما في الشخصيات الأخرى.

إلى متى؟

و بعد العرض والتحليل تبقى النهاية مفتوحة، ويبقى السؤال مطروحاً، إلى متى يستمر قهر نسائنا؟ إلى متى تُسلب أبسط حقوقهن في الحياة؟

إلى متى يدعس على شرفهن، ويُقتل أطفالهن أمام أعينهن؟ إلى متى سيمحو المجتمع الذكوري كل فكرة، وكل طفرة نسائية راغبة في تحقيق ذاتها؟

إلى متى يقيدون النساء خوفاً من عادات، وتقاليد فارغة؟ متى يصبح للمرأة العربية غد؟


★ طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى