سينما

طارق بن هاني: “رحلة 404” ..هل تستطيع التخلص  من ماضيك الأسود ؟

طارق بن هاني ★

بتنقلات سريعة، وتشويق متواصل، يقدم لنا المؤلف محمد رجاء، والمخرج هاني خليفة، معاناة إنسانية من نوع آخر، حيث يلقي الضوء على (غادةٍ) قد تبدو متخيّلة، لكنها شديدة الصّلة بالواقع.

تبدأ أحداث الفيلم بالتأزُّم؛ من خلال الاصطدام المروريّ الذي تتعرّض له أمّ غادة (عارفة عبد الرسول)، بعد محاولة لحاقها بابنتها الفارّة منها – عبر الشارع – إثر شجارٍ نشب بينهما قبل ذلك على رؤوس الأشهاد، فتتعرض حياتها للخطر، وهو ما يدفع غادة للبحث عن مبلغٍ يعينها على إتمام العملية الجراحية – العاجلة – التي تتوقف على نجاحها نجاة والدتها، ولكن كيف؟ وهي التي أنفقت مالها (الحلال) في سبيل التوبة، وفي سبيل الذهاب لأداء فريضة الحج؟

يبدي لنا الفيلم غادة (منى زكي) فتاة ليلٍ مستترة، بعد أن تابت وارتدت الحجاب (بوصفه رمزًا للعفّة) – كما تحبّ بعض الثقافات أن تحصر العفّة –، وقرّرت الذهاب إلى الحجّ برفقة والدها تأكيدًا على توبتها، وكان انتقالها إلى تلك الهويّة الجديدة تهديدًا – ضمنيًّا – لأولئك الذين عرفوا أو عايشوا غادة حينما كانت تمثلاً للمرأةِ غير العفيفة؛ فانخرطت في أزمة تأسيس هويةٍ جديدة، كرّستها الحاجة إلى إنقاذ والدتها. ويحمد للفيلم – كثيرًا – مناقشته لانتزاعِ الهويّات الفرديّة في نطاق المجتمعات الجَمعيّة (والنمطية)!

يبدو لي أن كل شخصية في الفيلم تلمح – بمعنى ما – إلى أزمةٍ في الهوية (كما يطرحها علم نفس النموّ)، أو أزمة تحقق الهويّة الفرديّة ضمن محيطٍ يهدر حق ذلك التحقق الحرّ، بأشكال مختلفة، فما من شخصيةٍ إلا وكانت مهددًا لهوية غادة الجديدة، حتى أبويها!
ومن المواقف التي يكثّف فيها الفيلم التأزّم، ذلك الذي يجمع غادة بشهيرة (شيرين رضا)، التي تساومها على شرفها مقابل المال (الشيك) الذي ستحصل عليه لإنقاذ والدتها! ورغم ذلك لم تخل شخصية شهيرة (التي لاسمها دلالة بعيدة أيضًا) من جانب نقيض يشهد على طبيعة النفس البشريّة التي تجمع بين المتناقضات حينما نعرف أنها قد أعانت غادة سابقا على التحوّل إلى الحلال (حسب تعبير شهيرة) في تعبير مريرٍ عن عجزها – هي – عن ذلك التحول، لكنّ اللافت أن تحوّل غادة لم يكن يستهدف إهانة أحد، بمعنى أنها كانت لطيفة مع الذين يعتبرون – وفق هويتها الجديدة – رمزا للانحلال، إما لحاجتها إليهم، أو تعويلا على النبل الذي لمسته فيهم من بما عرفته عنهم!

لقد أضاءت الشخصيات التي مرّت بغادة – ومن خلال المواقف التي جمعتهم بها – جوانب مختلفة من شخصية غادة، بمعنى أننا نرى غادة مع كل شخصية برؤية مختلفة، أو متناقضةٍ، أو شديدة التناقض، وذلك يفصح عما استثمره الفيلم بتقديمه الشخصيات على نحو مُلوّن، يعيدها إلى منطق الحياة، حيث لا وجه واحد للشخص الواحد مع الجميع، بل هناك وجه لكل شخص، أي شخص لكل شخص، وذلك ما يظهر جليا في زياراتها إلى الرجال الذين ارتبطت بهم – بشكلٍ ما – في فترات سبقت توبتها، ومثلت عودتها – بالنسبة إليهم – نوعًا من التهديد، أو ما شابه ذلك، حينما كان الدافع إلى ذلك هو رغبتها في نيل المساعدة أو تحصيل المصلحة!

وكان ياسر (خالد الصاوي) أحد أولئك الذين أضاءوا جوانب جديدة في شخصية غادة، وأضاءت هي جوانب من شخصيّته، فمنها أنه الزوج الفاشل، والوالد الذي تتوتّر علاقته بابنه، والذي يبدو غير مفهومٍ من قبل عائلته، ويعتريه لذلك اليأس الذي يقاومه بإدمان الخمر، إنه – إذن – وغادة، في صددِ مشروع مقاومةٍ، ولكن باختلاف الأدوات والغايات، لاسيّما بعد محاولة الأول في الانتحار، وإنقاذ الثانية له، وذلك يمهّد لاستسلام تقترب منه غادة بعد أن خذلها أو كاد أن يخذلها الجميع… الجميع، لقد كانت توبتها مشروع يزحف إلى الفشل!

بهذا المعنى؛ نطالع المدمنين وباعة الهوى رجالًا أو نساء، بوجهةٍ لم نعتدها كثيرا، فهي – هنا – أقرب ما تكون إلى الوصل بدلاً من العزل، فهي حالات شذّت ولكنها ظلت موصولةً بماضيها، وأزماتها الراهنة، وفجواتها النفسية، وحزنها العميق مما آلت إليه أحوالها، وأحوال من حولها، وموصولة بأملها الخافت في الخروج من قوقعةٍ فُرضت – باختيار جزئيّ – عليها، وموصولة – وهذا الأهمّ – بإنسانيتها، وربما هذا ما يبرر تعاطفنا مع الشخصيات جميعها، فأكثر مشهد استوقفني هو الذي ظهر فيه ياسر، الذي كان مأزوما ولكنه لم يجد لغة يعبر بها عن ذلك، أو أحدا يستوعبه – دون لغة – سوى غادة، التي تمثل له كما يمثل لها خروجا عن الأخلاق وعن التعاليم، وولوجًا في التراحم غير المشروط!

يعبر الفيلم كذلك عن البرّ الذي تحرص عليه غادة رغم انتفاء أسبابه، وذلك احتفاظا منها بالواجب الإنسانيّ تجاه والديها، وربما لشعورها بالذنب مما اقترفته في السرّ حينما كانت ساقطةً من بمعايير الفضيلة، ما يجعلها في اعتراف ضمنيّ، بينها وبين نفسها، بالحاجة إلى التكفير عما تعرفه ولا يعرفه أهلها، ومن ذلك التكفير، الاهتمام بوالدة لم تبد مهتمة إلا بالأموال التي كانت تعطيها إياها والتي انقطعت ربما حينما انقطعت غادة عن الرذيلة، فكثيرًا ما لا يقدّم الآباء أكثر من المأوى والمأكل والمشرب والملبس، ولكن… مأوى بلا إيواء، ومأكل بلا شبع، ومشرب بلا ارتواء، وملبس بلا ستر وبلا دفء. ولكنّ الفيلم يراوغ ويخاتل في منطقة مألوفة جدًّا، ويكثف أدواته التشريحية، إلا أن ما أفضت إليه تلك الألفة لم يكن مألوفا أبدًا سواء أكان في سرد الأحداث، أو الحوار، أو الشخصيات، فإننا نقف عند الحوار الذي كان – وبطريقة لافتة – مغنيا عن السرد، ومغنيا عن الفلاش باك، ومغنيا عن الوصف، ومع ذلك فهو يقدّم – وببراعةٍ – سيرا ذاتية مفصّلة للشخصيات تجعلنا نتفهم مواقفها وردود أفعالها، كما لو كنا قد اطلعنا على ماضيها كاملًا، وقد جاء ذلك الماضي مرويًّا – ويا للغرابة – على ألسنة الشخصيات، وفي إقدامها وإحجامها، كما في المشهد الذي جمع غادة بطارق الأول (محمد فراج)، وكيف أننا عرفنا عن علاقتهما بتفاصيلها، وكل ذلك من خلال حوار؟ مثل زواجهما وملابساته، وجريمته في حق والدته وملابساتها، وإجهاضها وملابساته، ولا بدّ أن نفهم مدلول الملابسات، لأن الحوار لم يقدم معلومات لحقائق مجردة، بل قدمها بملابساتها، وبأبعادها وتفاصيلها، وقد حضرت بوليفونية بين شخصيات الفيلم، حتى كأنما كلّ شخصيةٍ كانت قصةً في ذاتها، وذلك ما أدى إلى احتفاظ الشخصيات بالخيرية الجبلّية إلى جانب مظهر الشرّ والفجور الذي بدا عليها في أول وهلة، فقد كانوا جميعًا ضحايا سياق أكبر، وكانوا في الوقت ذاته جناة، فقد أجهضت غادة طفلها، وتسببت في حادث والدتها، وامتهنت بيع الهوى، وسرقت ذهب المرأة التي استنجدت بها، ولكن… أجهضت طفلها لئلا يقتبس شخصية والده المدمن، وحاولت إنقاذ والدتها (وحول ذلك دار الفيلم) وقاومت أهواءها، وأعادت الذهب إلى أصحابه.

وكان المال (الشيك) رمزًا، أو بطلًا، محرّك للأحداث، هو الغاية والوسيلة، في إشارة إلى عصرٍ سائل، يتسيده المال واللذة والشهوة، ويفعل كل ما فعله بشخصيات الفيلم. إنه فيلم، يعري الكثير، يعري الجناة، ثم يعري الضحايا، وكل ذلك… بحثًا عن الفضيلة، إنها رحلة ملابسات… قد تطول، طويلاً.


★كاتب-عمان.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى