رواية

شيماء مصطفى: “عين الحدأة” لصالح الحمد سيمفونية الرصد والألم.

شيماء مصطفى ★

في رواية عين الحدأة، الصادرة عن دار رشم للنشر والتوزيع ، والمتكون متنها السردي من 629 ورقة، ينقلك صالح الحمد بين ثلاثة عوالم متباينة ومتقاطعة في آن واحد، حيث مدينة الرصافة، وقطاع السجون، وكالفورنيا، وذلك عبر تقنية السرد الاسترجاعي/ الفلاش باك، بتفاصيل واقعية دقيقة لواقع سعودي يتمسك بعاداته وتقاليده، وذلك من خلال شخصية البطل وائل.

سيمائية الغلاف والعنوان

بدا الغلاف للعمل بخلفية سماوية، يتوسطها حدأة تستعد للانقضاض على فريستها، ويدين تستغيث، ومن المعروف عن الحدأة التي تعيش فوق قمم الأشجار العالية وأعلى المباني الشاهقة  أنها تتميز بقوة البصر التي تمكنها من رصد الحيوانات والطيور الصغيرة من ارتفاعات كبيرة، فتتمكن من إحكام السيطرة على الفرائس، وتصيب الهدف.

تدور الرواية حول شاب يدعى وائل، حكم عليه بالإعدام بحد السيف، بعد ثلاثين يومًا من إصدار الحكم، فيبدأ بالسرد التراجعي، يومًا فيوم، ثم ساعة فساعة، ثم لحظة فلحظة.

يقول كونفوشيوس:« حينما ينهض أمامك الجدار، فارسم بابًا»، فتعامل وائل بطل عين الحدأة مع معاناته من هذا المنظور، ولكن ليس من سبيل الإيمان بالحياة ذات المعنى، والتوثيق لهذه المعاناة، نظرًا لأن سجن الذات والأفكار أكبر بكثير من الجدران التي يمكث خلفها في أحد سجون الرصافة، فجعل من جسده لوحًا يحفظ عليه، أو بالأدق يرسم عليه، كل ما يود البوح به.

تنقل صالح الحمد من خلال الراوي بين ضميري الغائب والمتكلم، ليخرج من حيز السرد الذاتي، لفضاء  الموضوعية.

جلد الذات والنظرة الدونية للنفس.

أساء وائل بطل عين الحدأة  التواصل مع جسده، كما عانى من جلد الذات الذي  يُفقد الشخص ثقته بنفسه، ويُشعره أنه مهما فعل سيكون مقصًرا،  مما جعله عرضة للوقوع في الاكتئاب، وظهر ذلك بشكل أوضح في رفضه لاستخدام الثغرات القانونية للخروج من السجن رغم أنه لم يرتكب جريمة القتل، فالنظرة الدونية للذات وعدم الاستحقاقية هي المسيطرة عليه، وانبثقت  هذه النظرة   من طبيعة معاملته خلال سنوات طفولته ومراهقته في الرصافة، حين أخذ دولاب شقيقته  القديم، بينما اقنصت أريج حجرة كاملة بأثاث جديد، وحين انتصرت عليه أريج بتحايلها مستحوذة على ساعة حنان الذهبية التي أرادها كذكرى من شقيقته الراحلة، وحين انتصر عليه سلمان بألاعيبه.

«قد أستحق الموت، لكني لم أقتل غادة، قد أستحق الكره، إلا أنني لم أقصد  أن أؤذي أحدًا، قد أستحق اللوم، غير أني لم أسامح نفسي قط، قد أستحق النسيان ، لكني أعي أنني سأعود إلى أمي»

تكوينات بصبغة سينمائية

من جماليات عين الحدأة لصالح الحمد التفاصيل والتكوينات البصرية التي جعلت من النص صورة سينمائية متكاملة، وزاخرة بالصوت والصورة والحركة، وبدا ذلك بشكل أوضح في الوصف للأماكن، سواء لبيته، وشوارع الرصافة، والجامعة في كاليفورنيا، وأروقة السجن، حتى غرفة نومه في الرصافة حملت دلالات التكوينات البصرية فالأحمر القاني تبين أنه  يثير مشاعر قوية مثل : العاطفة أو الحب أو الغضب ، كما تُعد قدرته على جذب الانتباه على الفور هي السبب في استخدامه غالبًا للتحذير من خطر وشيك،  واللون الأزرق للسجاد دل على البرود وغير الاهتمام، كما أنّه قد يضعف الروح أيضًا، حتى نافذة غرفته التي تتيح له الرؤية والكشف حجبها سعف النخيل، ومنضدة المذاكرة سوداء كما اشتراها الأب، وحين طلب وائل تغييرها اختار الأحمر تنساقا مع السرير، واعتبر اللون السكري الفاتح لدولاب حنان وأريج الذي حصل عليه تشويها للتناسق هذا.

لم يلجأ الراوي إلى الاستعراض اللغوي بل حاول بلغة محيادية تخللتها بعض المفردات من اللهجة المحلية؛ ويعود ذلك لطبيعة الحبكة والنص، فليس من المنطقي أن يكون وائل محكوم عليه بالإعدام يستعرض بمفرداته، ولهذا جاءت التفاصيل والوصف لتغني عن اللغة.

ثمة مفارقة إنسانية في شخصية وائل، فوائل الذي لا يأبه ولا يعير الحياة أي اهتمام خاصة مع بدء العد التنازلي لحكم الإعدام، شديد الحرص على حياة طائر صغير، كيف لشخص يمتلك قلب كهذا يقبل على فعل القتل المنسوب إليه؟!
« حين تدرك أن أيامك معدودة، لن تعبأ بأية عواقب»

وعلى مستوى الحوار فقد تأرجح العمل، فبعض الحوارات نجح الحمد في توظيفها، وعبرت بشكل يتلائم مع الإطار الإيديولوجي والاجتماعي للشخصيات، والبعض الآخر لم يحالفه التوفيق؛ نظرًا للإسهاب الشديد.

المرأة في حياة البطل

أما عن صورة الأخت فقد كان لوائل شقيقتان متناقضتين أشد التناقض، حنان وهي  الأكبر والأقرب إلى وائل وصندوق أسراره، لكنها رحلت، ولم يبق من أثرها سوى الذكريات.
« سيكون كسرك أعظم، وجرحك أعمق،  حين تودع من تحب»
وقد كان رحيل حنان بداية الفقد لوائل ، حيث تبع رحيلها رحيل آخر  تمثل في أمل ابنة العم والحبيبة، والأم، ثم بعد ذلك غادة التي أسهم ظهورها في ثراء ذروة السرد، فاهتدى وائل في النهاية أن الكل راحل ولا محالة.
«الجندي ميت حتى لو انتصر وعاد لأهله، والمريض ميت حتى لو تجاوز محنته، والسجين ميت حتى لو أُفرج عنه»

حاول وائل العمل بنصيحة أمل المتمثلة في الكتابة كنوع من التعافي، من إيلام الفقد، حتى حنان نفسها كانت تفعل ذلك، وأمل أيضًا، فقد شكلت المذكرات الورقية نوعًا من الحميمية والونس لأصحابها، دون الحاجة للبوح.
« كلما اشتقت لها، اكتب هنا».
رسم صالح الحمد خطًا سرديًّا تعرف من خلاله أنماط الشخصيات وسماتهم من خلال ما يسمعون أو يطالعون، فقد لعبت الأغاني والروايات والمجلات التي تفضلها الشخصيات دورًا كبيرًا في إبراز ملامح الشخصيات، فقد كانت تنبؤية بدرجة كبيرة للتعرف غادة ووائل وأمل وحنان وأريج، والأب، وكأنه سار على نهج أرسطو « تكلم حتى أراك».

الأب في الروايات السعودية

أما عن صورة الأب، فالأعمال السعودية بشكل عام تتميز بإعطاء الأب صورة مهابة وقدسية سواء كان ما يتخذ من قرارات تروق لأسرته أو لا فاحترامه واجب، ودوره واضح و مسؤول في تشكيل اللبنة الأولى والأساسية في شخصية أبنائه.

الواقعية السحرية الأنثروبولوچية

أما عن شخصية وائل بطل النص  والسارد الرئيسي، فقد مر بثلاثة أطوار تحول خلالها من شخصية هشة تتبع الآخرين إلى شخصية فلسفية، ولهذا اتسم البناء السردي باتباعه للمدرسة الواقعية السحرية الأنثروبولوچية بهدف إبراز  الجانب الثقافي للبيئة وللتابين الفج بين واقع وائل في الرصافة وكالفورنيا، وبين تكوينه وتكوين غادة .



الرواية في مجملها جيدة رغم الإسهاب في الوصف والحوار ، وقد وصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية عام ٢٠٢٤، وهي الرواية الأولى للكاتب والأكاديمي السعودي صالح الحمد ، الحاصل على درجة الماجستير في الأدب الأمريكي من جامعة كاليفورنيا.


★سكرتيرة التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى