رواية

محمد أسامة: “صورة مريم”..وقوف على مرآة بتول.

محمد أسامة ★

“إيهِ نفسي! أنتِ لحنٌ فيَّ قد رنَّ صداه
وقَّعته يدُ فنّانٍ خفيٍّ لا أراه.
أنتِ ريحٌ ونسيمٌ، أنتِ موجٌ، أنتِ بحرُ،
أنتِ برقٌ، أنتِ رعدٌ، أنتِ ليلٌ، أنتِ فجرُ
أنتِ فيضٌ من إله!”

يعتبر الفنانون – وأخص بالذكر الكُتَّاب – في إعطاء وصفٍ دقيقٍ لأنفسهم – سواء في عملية إبداعهم، أو حياتهم الروتينية المعروفة – عملية بالغة التعقيد؛ تعتمد فيها على سرد ما شاهدوه من ظواهر، وما أحسوه من مشاعر وانفعالات، ومن ثَمَّ تشريحها، بالاعتماد على لعبتهم الخاصة الممزوجة بين صورة الشيء أو الشعور في أذهانهم، وبين صورته الواقعية أو تعريفه السائد؛ إلى أن تكتمل الرحلة بتكون حالة فريدة، تجذب صاحبها، وتوصله إلى الوصف الأمثل والقريب للذات، وهنا يمكننا أن نفهم حالة الحيرة والذهول، التي أصابت الشاعر “ميخائيل نعيمة” في المقطع السابق، ونراها أصدق تعبير لنفسه،  نتيجة لانتقاله بين المشاهد والصور الطبيعية، ومقاربتها بما يدور فيها، إلى أن يصل إلى التسليم، بأن هذا المزيج ناتج من قوة كبرى- وهو الإله – فيض من فنان خفي، وضع فيها شيئاً من كماله، الذي لا يستوعبه أحد، وفي نفس الوقت يجذبك للتعرف عليه.

وهنا  رواية “صورة مريم ” للكاتبة “مريم العجمي” – الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لعام 2022″، اِمتداداً موفقاً لتلك المغامرة، تصنع فيها الكاتبة رؤيتها الخاصة – مبررة ذلك على لسان شخصية الاختصاصية، بأن الناس لا ترى سوى أنفسها – على هيئة لعبة، قوامها مراوغة بسيطة، بعرض جزء من ذاتها، بداية من اسمها وبعض من ملامح مكان نشأتها، وطبيعة علاقتها بالمسرح والثقافة، إلى علاقتها بنسخها المتغيرة بتغير رؤاها وزمنها، لتحاول منها إشباع فضولها بالاقتراب من معانٍ تتدرج في أثرها ووقعها، كالتعري والانكشاف، والمرونة في مد الوقائع الناقصة، ومنها الوصول إلى المعنى الأشد، وهو معرفة ماهية الذات، وسرها المطمور بين النسخ- أو كما تصف  الأخصائية الاجتماعية بالسمكة المفقودة، واستكشاف ما تفردت به، وما يجعلها تكتفي بنفسها منهمكة بمحايلة حاضرها، بترميم ما يستمر في إتلافه بصورتها-فنرى انفصال الشخصية الرئيسية عن ذاتها بنهاية الرواية منطقياً-، لئلا تختفي الصورة، فيختفي الأصل بدوره، أو يصير مجرد حروف دالة على أثر قد عفا.

يتفرع من تلك المراوغة خط مهم يساهم في تقويمه، ويضع الصراع النفسي، في إطار متوازن بين ما قدمته الكاتبة عن ذاتها، وبين حبكة الرواية المكتملة، وما ترغب به الشخصية الرئيسية باستعادة ذاتها، وهي صنعة الكتابة، وترويض الأفكار وتطويعها -كما قالت الراوية: يسهل عليّ التخيل والتخلي- تظهرها الكاتبة في مشاهد ورموز منثورة- كشخصية  الأخصائية ، والمرايا، والأقلام، والهاتف البدائي – بطول حبكة الرواية، تستند حول رمزية العذراء مريم، تتماهى مع معاناتها في حملها ومخاضها، فيتكرر التناص مع الآية الكريمة “وهزي إليكِ بجذع النخلة تساقط عليكِ رطباً جنياً” بمشاهد عدة، ومنها تبرهن “مريم العجمي” على قوة الصلة بين الكتابة وصانعها، وأيضاً بين قوة الكتابة والألم  -تقويها الكاتبة بوجود أساس من سبعة نصوص، تصوغها الشخصية الرئيسية في ليالي ما قبل المخاض السبع-  والتي تقترب في الحالتين من علاقة بين الأم ووليدها – تؤكد الكاتبة على ذلك في ثقة الشخصية بجنينها في كونه سيصير مثلها محباً للثقافة – ، فيكون ظهوره مرتبطاً باستدعاء الذكريات الأليمة،  والقادرة على صف الكلمات الفزعة، وتثبيتها ليتكون على مهل.

ورويداً رويداً ينسلُّ النص إلى جوارها مكتملاً، يعبر عن نفسه كما يدل الصغير ببكائه، فتتعهده بالرعاية والتهذيب -وهنا صنعت الكاتبة رمزية الثدي المثقل- ويكون بالتبعية بوابتها للانغماس أكثر في عالمها الخاص، بما فيه من براءة تمكنها من العبث بالحكايات، وقوس قزح على سواء، وهناك يسهل عليها أن تقابل نفسها، وتراها جيداً، تقارنها بذكراها، وبعرض مسرحي لا يكتب له الظهور، تدرك أن كلاً منهما صورة للآخر – كما برمزية انتقال شق الولادة من بطن البطلة للاختصاصية تكمله، وتمده بالثقة، وتضعه أمام دروب ما كان واقعه، ليسمح أن يعيد الخطى فيها مرة أخرى، لئلا يقع فيعاقب.

ولهذا السبب فإن الكاتبة هنا طوعت بعض الشيء الزمن والأحداث لصالحها؛ تخلق منها سجالاً ذاتياً عماده سؤال “إلى متى” يرغب في كسر الخوف، والتخفف من سطوة النقد الذاتي -المتمثل في حرص  الأخصائية، وفي وصف الناقد الأصلع بشكل قاسٍ- والسعي لصنع صورة تامة الكمال، وإدراك أن المتعة سواء البحث أو الكتابة تكمن في الجزء الغامض، اللاعب كحاوِ ماهر في إظهار وإخفاء التأويلات والأسئلة؛ ولذلك وتدعيماً للفكرة، لم يتم التركيز -إلا بالفصل الأخير للتوضيح- على أي من النسخ”البطلة الأم، والبطلة الفتاة،  والأخصائية ” أقرب للواقع، إلا بقدر تحقيق المتعة في أمل صاغته النفس، بوسيلتها للتحرر والخلاص، فصارت تبحث عن معناها ومعنى صنعتها، ومن ثم الولوج داخلها والتفهم، فتتوحد مع آمال البطلة أن ينصفها الواقع، فيرى فنها “شِعرها المكتوب في ظهر كراريسها” مثلما أمل شق الثمرة أن ينصفه القدر، ويلتقي بشقه المهضوم بمعدة رجل ميت. 

بالنهاية فإننا أمام رواية قصيرة، لكنها مليئة بالرموز والتفاصيل، التي ساهمت في إيضاح الفكرة، بسرد جيد يميل قليلاً للإسهاب في وصف الحركة، لكن الكاتبة تتمكن من أن تسبق القارئ، وتبعده عن التشتت وسط كل تلك التفاصيل، لتوجهه بالتركيز على حياة كاملة تخلق، من البداية إلى النهاية، لا يشوشها شيء، متفردة كصورة مريم.


★ناقد-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى