روايةفنون وآداب اخرى

شيماء مصطفى:عزت القمحاوي في” الطاهي يقتل الكاتب ينتحر” يكشف لك القبح والزيف في الطهي والكتابة؟!

شيماء مصطفى ★
بدراسةٍ مستعرضة لعدة روايات – عالمية وعربية- وبخبرةٍ لا يُستهان بها في عالم الطهي يقدم لنا عزت القمحاوي (الطاهي يقتل والكاتب ينتحر) الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية ليجعلك تتساءل هل الأمر يتعلق بالحدس أم بالمقادير؟ الشكل أم المضمون؟ العين أم اللسان؟ أيهما يبقى في الذاكرة المؤقتة وأيهما ينتقل إلى الذاكرة طويلة المدى؟
لا يجيبك القمحاوي، ولا يفرض عليك رؤيته بل يتبنى منهجًا تحليليًّا أكثر منه نقديًّا مدعومًا بالعديد من النماذج والأمثلة ليضفي نوعًا من التوثيق لهذه الرؤية، تاركًا لك حرية الانتقاء.
سيميائية العنوان والغلاف
بالعودة إلى العتبة القرائية الأولى لنص الطاهي يقتل والكاتب ينتحر من حيث الدلالة اللغوية نجد  مضارعة الخبر تضفي نوعًا من الاستمرارية فنجد الطاهي يقتل عمدًا، بينما يلجأ الكاتب اضطرارًا إلى الانتحار فيفعل مثلما فعل فولدفمورت بطل سلسلة “كي چي رولينج” هاري بوتر حين مزق روحه من خلال (هوركروكس)، وحينها إذا أردت أن تتعرف على الكاتب يحتم عليك قراءة مجمل أعماله وتخمن أي جزء منها هو، أو ينتحر مرة واحدة فيدفع بحياته في سيرة ذاتية، أو يفعل كما فعل نجيب محفوظ بشيء من التمويه فحتى بعد قراءة مجمل أعماله لا يمكنك تخمين أي جزء كتبه يمثل جزء من روحه، فكان محفوظ متحفظًا.

وبالعودة للطاهي فالقتل عنده احترافي، ولا يمكن الفك والتركيب وعودة الأشياء إلى أصلها، ولهذا ووفقًا للمفاهيم العلمية واللغوية فالفرق بين الطهي والكتابة كالفرق بين التغير الكيميائي والفيزيائي، وذلك كان القتل مناسبًا للطاهي والانتحار يليق بالكاتب، وبالعودة للغلاف نجد في الخلفية صورة لقصور ألف ليلة وليلة كونها المنبع الأصلي للحكايات، مع إضافة الفلفل الأحمر الحار باعتباره بهار أساسي في أغلب المطاعم الشرقية والغربية.
«لا تفش سرك لكاتب فربما يصنع منه حكاية».
يحاول القمحاوي خلق علاقة توافقية بين القارىء والكاتب  من خلال إزالة اللبس والتحفظ لدى الأشخاص الذين يتوهمون بأن الكاتب يدون كل ما يسمع مدللًا أن العملية الإبداعية معقدة  تتجاوز محاكاة الواقع.
كما تطرق إلى الفروق الجوهرية بين الطهي والكتابة مع عقد موازنة طريفة غير ندية بينهما من التراث للمعاصر فيؤكد على أن العلاقة تناغمية توافقية في باطنها، تنافسية في ظاهرها.
نصيحة ثلاثية الأبعاد
بعبور نوعي في تكنيك الكتابة، وبطريقة غير مباشرة يقدم القمحاوي نصيحة منبثقة تجربة للكاتب والقارىء والناقد إذا أرادوا خلق أواصر حقيقية فيما بينهم.
«الرواية في جوهرها لعبة استغماية، لا تكون ممتعة إذا  اختفى الكاتب في مكان قريب ومتوقع، ولا يمكن أن تستمر إذا اختفى في مكان لم يتمكن القارىء من الوصول إليه»
«المخفي ضرورة من ضرورات النص، فهو الذي يجعل منه أحجية على القارىء تفسيرها، وبهذا يقوم المخفي بمساهمة كبيرة في تعزيز الشراكة بين الكاتب والقارىء»
فتعامل القمحاوي معهم باعتبارهم شركاء في العملية الإبداعية، فإشكالية العلاقة بين الكاتب والقارىء  والطاهي والمتذوق مسار تياري مغلق، مع التأكيد على سلاسة الانتقال من الواقع للفن دون تعارض.

«الكاتب أسعد حظًا من المفكر في الدول الفقيرة حيث تكميم الأفواه لأنه الأكثر قدرة على التمويه والمراوغة»
فمثلما نرى حشرة العود، والحشرة الورقية وحيلهما السلوكية للتخفي بغض النظر عن الغرض، فإن الكاتب يجيد استخدام قانون الشكل والأرضية كحيل من ميكانيزمات الدفاع.
سحر الكتش
« لسوء الحظ لا يستطيع الإفلات من ضغط الجماهيرية الواسعة سوى قلة من الطهاة والكتَّاب الذين يرفضون الاستسلام للموضة الرائجة التي ترضي جمهورًا كسولًا منعمًا يكره النار ويخشى الغضب، هناك غش ما يطلبه الرواج»
يستشهد القمحاوي بنماذج حية من الواقع الكتشي؛ ليبين مدى رفضه لهذه المبالغة الاستعراضية سواء في عالم الطهي أو الكتابة، محاولًا كشف القبح والزيف في الطهي والكتابة والنحت والموسيقى، ولا يكتفي القمحاوي عند إيضاح سحر الكتيش بل يخبرنا بمنبعه ، وأثره في طمس الهوية والنكهة للأشياء.
« في كل الأحوال يريدنا الكتش أطفال أبرياء، يخلصنا من رؤيتنا النقدية لما حولنا، يقفز على الحدود بين الوطنيات والقوميات، يذوب الحدود بين البشر وينهي ملامح الاختلاف والتعدد، بحيث لا يمكنك أن تقف على فرنسية الفرنسي أو روسية الروسي».
كما تطرق إلى التلاعب الأيديولوجي في الأدب، وبأسف يخبرنا أن الإقبال الكبير على قراءة الكتش نابعة من الرغبة في الجمال لا القبح.
فعلى طريقة التنويرين يحاول القمحاوي تقديم يد العون للجمهور المتذوق للطهي والروايات على حد سواء كي لا يقعوا فريسة لفخ الكتش.
كما يظهر بشكل جلي ولعه بألف ليلة وليلة وأعمال محفوظ من حيث تعددية البناء اللغوي، واتباعها للاستباق والإرجاء.


«كل الطبخات تنتهي مهما تمدد زمنها، حتى طبخة الأحجار التي كانت المرأة تشاغل بها أطفالها، عندما رأها الخليفة العادل عمر بن الخطاب ، وكل الروايات تنتهي بعد أن يستنفد كتابها قدرتهم على الإرجاء والتمديد لكن طبخة ألف ليلة وليلة لا تنتهي».
ويعلل لا نهائية ألف ليلة من سيمائية العنوان.
وفي النهاية يضع مقياسًا للكتابة الروائية  من وجهة نظره:
«في كل الأحوال لا تستحق الكتابة اسم رواية إلا إذا استطاعت أن تجعل القارئ يتوحد مع عالمها، فتصبح الفانتازيا واقعًا ملموسًا، ويتناغم موتيف صغير قديم  مع عالم الأسرة الواقعية».
القارىء الصبور للطاهي يقتل والكاتب ينتحر يمكنه التأكد من أن القمحاوي قارىء واعٍ قبل أن يكون كاتبًا محترفًا، سيجده يجيد دور الكاتب والناقد والقارىء والمتذوق، سيجده على طريقة مدرسة الإحياء والبعث في الشعر يدرك قيمة التراث، ويجده أيضًا على الطريقة المعاصرة يخبرك كيف تصبح كاتبًا، ناقدًا، قارئًا بعيدًا عن فخ الكتش(الفن الرديء).


★ناقدة-مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى