فنون وآداب اخرىمشاركات شبابية

منيرة العبد الجادر: ثقافة البودكاست


منيرة العبد الجادر *
خلال مراحل عديدة من تطور الإعلام الغربي، اِحتل “الصوت”، الصدارة، والسبب من وجهة نظر الغرب، أن “الصوت” يمثل حضور صاحبه، الأمر الذي يبرر لنا الانتشار السريع، لبرامج (البودكاست) في العالم، مما يدفعنا لأن نسلط عليها الضوء في مقالنا هذا، مع أمثلة (كويتية) من تلك البرامج، للإجابة عن التساؤلات التالية: هل نجح الصوت في الوصول إلى المتلقي، عبر تلك البرامج؟
وهل تحقق ما قاله جان جاك روسو، من أن الكتابة زائدة عن الصوت، أم لا زلنا بحاجة لثنائية “الكتابة والصوت” معاً من منطلق، أن لا كتابة بلا صوت، ولا صوت دون كتابة!؟
الثقافة السمعية
كانت الثقافة السمعية، مسيطرة في القِدَم، فلم يكن هناك وسيلة غير الإذاعة، كما أن الِاختيار ليس بيد الناس، فقد كانوا مرغمين على سماع بعض المحطات البعيدة عن ذوقهم الخاص، بالإضافة إلى تقنيات الصوت غير الواضحة، إلى أن حدثت قفزة تكنولوجية من خلال الِاختراعات، فأصبحنا نشاهد مقاطع مصورة، بالوقت الذي يأمرنا به مزاجنا المتقلب، هذا ما نفعله ‏اليوم مع البودكاست، ‏الذي اشتق الكلمة من كلمتيْ الإذاعة (Broadcast) وآي بود (iPod) لتعبّر عن البرامج الإذاعية، وبالتالي، أصبح للبودكاست منصة منفردة (أبلكيشن) مخصص بشتى ألوان (البودكاستات)، والتي سنستعرض منها هذه الأمثلة:
أولاً: بودكاست ساندوتش ورقي
(Paper samwich)

يعتبر من برامج البودكاست المفضلة لدي، حيث إنه يسلط الضوء على متحدث واحد، يستضيف عبر الحلقة عنوان كتاب، ويستعرض لنا المعلومات، التي وردت فيه، ثم ينسج أفكار المؤلف مع تجارب الفرد الحياتية، وهذا ما يلعبه دور المتحدث بربط المواقف، التي وقعت معه، أو قد يستنبطها من وحي خياله، لكنها تضفي طابعاً توضيحياً مرتبطاً بصلب الموضوع.
حلقة (دراما)، وصوت أنس بن حسين.


من الحلقات المميزة بالنسبة لي، في بودكاست (ساندوتش ورقي) حلقة (دراما)، وقبل البدء بتفاصيل الحلقة، أود الإشارة إلى أن هذه المفردة، تذكرني مباشرة بالتعريف، الذي كان بعض الأساتذة يفضلون (تلقينه) لنا، ‏خلال سنواتنا الدراسية في المعهد العالي للفنون المسرحية، بمعناه التقليدي، وأغلب الظن أن زملائي حينما يقرؤون هذا المقال، سوف يرددون تعريف المصطلح مباشرة، مع ابتسامة أراها من خلف هذه الفقرة تحديداً، لكن الحلقة التي سأتناولنا، قدمت (الدراما) ليس بمفهومها المعتاد، باعتبارها كلمة لاتينية معناها (فعل)، حيث يرى أنس بن حسين (مقدِّم البرنامج)، أن الدراما كلمة سلبية، يستسهل بعض الناس وصف حياتهم بها، من هنا يظهر لنا أحد أسباب عنونة الحلقة بتلك المفردة، لكن المقدِّم لم يكتف بكلمة دراما، بل وضع بجانبها سنة 2004، وهذا ما سوف نتعرف عليه لاحقاً.
يفتتح أنس الحلقة بسؤال افتراضي، طُرِح من قبل أحد المستمعين:”ما هي أعظم صفحة قرأتها في كتاب؟”، والإجابة كانت بجملة واحدة:” لا تلعب دور الضحية في سيناريو أنت تصنعه”، ومن ثم يضع مقدِّم البرنامج، وصفة تحضير الدراما الحياتية، كما وردت على لسان أنس:”ملعقة تفكير، كوب من التصورات الخاطئة، رشة جريئة من الإيغو، شديد المرارة”.

أنس بن حسين
أنس بن حسين

بعد ذلك يستعين المقدِّم بموقفٍ يترجم ذلك، من خلال ما حصل معه في بريطانيا، تحديداً مدينة برايتون، حيث التقى أنس آنذاك بعجوز بريطانية، ودار نقاش حول أنواع الموضة، وأهمها حلاقة الشعر بالموس، اِستفزته نصيحتها بعدم تقليده لهذه الموضة بالذات، لكونه يرى أن أي شخص يعاني من علامات الصلع، يحلق رأسه، ويستغل نسبها للموضة، اِنبثقت الدراما في حياة أنس، بعد أن واجه مشكلة الصلع عام2004، وأخذ يحاول حلها، فتحققت عملية تزعزع الصورة الثابته، التي رسمها لنفسه، وتَوَلُّدِ لدينا (الدراما) الحياتية مع اختلاف درجاتها.
اِختيار المذيع لمفردة “دراما” كعنوان رئيسي، يعطينا تصوراً للموضوع بشكل عام، أما بالنسبة للرقم “2004” فهو المفتاح المحدد للمضمون، بمعنى أن “2004” تشكل السنة الاِستثنائية في حياة المذيع، حيث يتدفق عنصر الترقب، وتدافع التساؤلات عند المستمع، بشأن علاقة المصطلح بالسنة.
المثير لِاِهتمام هنا، أنه يرسم لك مخططاً ذهنياً، مع ذكر الهوامش في لحظة آنية مسموعة، على سبيل المثال: لفظه لكلمة (سكيما)، وما النتائج التي توصل لها، بعد البحث عنها على اعتبار أنها لم تألف أذن المستمع، خلاصة النظرية: “أنت لست صفحة بيضاء” كأنك تقرأ صفحة تحتوي على خط الهامش في أسفلها.
ما يميز هذا البودكاست، أنه يركز ‏على الدراسات والكتب الأجنبية، ويَنْصَبُّ جُلُّ اهتمامهم بتلك المراجع، بَيْدَ أن المادة المسموعة، والنص المكتوب، لا يخلوان من الثراء اللغوي، وإنتقاء المفردة الجمالية، التي تعبر عن المواقف الواقعية، أضف إلى ذلك توافق التشبيهات مع الموضوع المطروح، بأسلوب مجازي، يجذب سمع المتلقي.
ثانياً: بودكاست بدون ورق
يُعتبر هذا النوع من البودكاست، أقرب للمقابلة، بحيث ‏يلعب دور المذيع “فيصل العقل”، الذي يتحاور مع الضيف بطريقة مختلفة نوعاً ما، بمعنى أن موضوع الحلقة، يتمحور حول تخصص الضيف، ويفسح له المجال الأكبر ‏في التعبير عن الرأي، وعرض ثقافته المكتسبة، ونرى أن فيصل العقل، قبل بدء الحلقة، يعطي نبذة تعريفية عن الضيف بشكل موجز.


والحلقة ‏التي أثارت فضولي هي (النفي خارج الزمان والمكان، للدكتورعبد الرحمن الفرحان، المتخصص في أدب السجون).
اِستهل بمقدمة عن اتجاهه لهذا الأدب، وذكر لنا تأثره بأحد كتَّاب أدب السجون “علي الدميني” ، صاحب مقولة:” الحرية لا توهب ولا تسقط من السماء، ولكن تصنعها تضحيات الناس”.
فحينما أصغيت لهذه الجملة، ورد إلى ذهني تساؤل: عن علاقة تلك الكلمات بالوجودية؟! نلاحظ تكرار أسلوب النفي بمسألة الحرية، والتي هي لب الجدل الوجودي، (لاتوهب) أي أنها لا تُعطى (ولا تسقط من السماء)، يمكننا القول إن تكرار النفي هنا هو تأكيد، (ولكن تصنعها تضحيات الناس)، هنا نتوصل لفعل التضحية، الذي يُقْدِمُ عليه المرء.
بينما فسرها الدكتور، بأن كل ثورة يتزامن معها تجارب اعتقال، وسَجن، وقتل، فلا يمكن حدوث ثورة دون مرور الناس بهذه التجارب، إضافةً على ذلك، أن الفكر الوجودي ظهرت لنا ملامحه قبل الحرب العالمية الثانية، لذا نعود إلى ذات النقطة، التي أشار إليها الدكتور،عن الثورة نظراً لتطابق الظروف.
مفهوم السجن
لا بد أن تتشكل صورة نمطية في مخيلة كل شخص منا عن حالة السجين خلف القضبان، ‏وليس بالضرورة أن يتحقق ‏مفهوم السجن وراء ‏المبنى الهندسي المعروف، إلا أن حوار الدكتور، تَمَثَّلَ من خلال مرجعيته الثقافية، باسترجاع اسم الفيلسوف الفرنسي فوكو، وتحديداً سلط الضوء على كتابه، الذي يحمل عنوان “المراقبة والمعاقبة”.
لخصه الدكتور، بسرد مشهد يحتوي على سحل، وتعذيب شخصية بغرض الترهيب، وأنه بصورة علنية، أدت إلى ولادة مؤسسة السجن، علاوة على ما سبق، وضح لنا وجهة نظر فوكو، التي انتقد عبرها، فكرة مؤسسة السجن، لكونها ترعى الجريمة، ولا تحاربها.
أثر السجون 
كان سيد قطب شخصية دينية جدلية، له نتاج شعري، فيما يتعلق بشعر السجون، وأديب قبل ذلك، من أهم أعماله “في ظلال القرآن” وهو تفسير للقرآن الكريم، وما أشعل شمعة فضولي هنا، أن مؤلفه هذا كُتب على مرحلتين، الأولى كانت في قلب السجن، والثانية بعد خروجه منه، ليس ذلك، وحسب، بل ما سطره قلمه كسجين، لغته مختلفة بتاتاً بعد استعادته لأجنحة الحرية خارج السجن.
والجدير بالذكر، هو اهتمام أصحاب البودكاست بوضع المحاذير، التي دار النقاش حولها في مضمون الحلقة (داخل صندوق الوصف الخاص بقناة اليوتيوب) على هيئة رؤوس أقلام، وبجانبها عدد الدقائق، أوالساعة بجانب العناوين، حتى تكون عملية الاِستماع أسلس عند البحث عن أحد المحاور، التي يختارها المتلقي، ‏بالإضافة إلى تدوين أسماء المراجع، ‏للِاطلاع عليها.
ثالثاً:بودكاست أريكة
هذا البودكاست لا يشبه الأنواع السالفة، التي تطرقنا لها، فالنوع الأول، كان شخصاً واحداً، يدردش مع المستمع دون صورة مرئية، والثاني، مذيع يستضيف أشخاصاً ضمن اختصاصات مختلفة في كل حلقة، أما بودكاست أريكة، فيحتوي على ثنائي لطيف “بيبي العبد المحسن، وطلال سام” كلاهما يتشاركان في طرح موضوع معين، ويتم عبره التعليق على المعلومة بطريقة كوميدية، وروح عفوية، تهيئ المتفرج لتقبل آرائهم، التي تبدو غريبة أحياناً، أو إن أصح القول، ‏هي آراء فئة من الناس، ‏تخجل من التعبير عنها، ‏هذه الصفة تلمستها في شخصية بيبي مع محاولات طلال لمقاطعتها، ‏حتى لا تنجرف، ويساء فهمها.


هذا البودكاست، يندرج تحت تصنيف الترفيه، خصوصاً أنه لا ينحصر في تصوير الحلقات، بل هناك فقرات ماتعة، يتواصلون من خلالها مع المشاهدين، فعلى سبيل المثال في نهاية كل حلقة، تقسم قراءة التعليقات بينهم، إلى جانب تخصيص بث مباشر عند المناسبات، أو قد تكون بهدف التغيير، بالإضافة لتحضير سؤال للمتابعين، وفي هذه المرة تنعكس الأدوار، لأن المتصلين هم من يشاركون “بيبي وطلال” آراءهم ومواقفهم، حيث تقام مسابقات، تقدم من خلالها، الهدايا للمتصلين.
واللافت للنظر أن أريكة، غيّر مفهوم الناس لبرامج البودكاست، لأن الفكرة السائدة عن البودكاست لدى أغلب الأشخاص، أنه مخصص لدائرة المثقفين، أو بمعنى آخر، يرونه بمثابة كتاب سمعي بطريقة مستحدثة، ‏خصوصاً أن ثقافة البودكاست، ‏تأخرت في الوصول إلى الوطن العربي.
بينما أريكة أثبت نقيض تلك المعتقدات، وأهم ميزة أنه أفسح مجال ‏المشاهدة لجميع الفئات العمرية، وحقق الاِستمتاع، واتبع تكنيك تقريب المسافة بين المقدِّم والمتلقي، وذلك حين يقرأ أحدهم معلومة، يعترف بأنه لم يسمع بها من قبل، ثم يبحث عنها لتوضيحها أكثر.
في ظل كل ما استعرضناه عن ثقافة البودكاست، لفت نظري ثنائية الصوت والصورة، فرغم أننا كما ذكرنا بأن كلمة (بودكاست) مرتبطة بالإذاعة، وأساس الإذاعة هو الصوت، إلا أن الصورة المرئية، أصبحت دخيلة على هذا النوع من البرامج، فهل أضيفت، لأهميتها، أم بغرض التطوير والتغيير فقط، لا غير؟!

*خريجة قسم النقد والأدب المسرحي – الكويت.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى