شيماء مصطفى: ماريو وأبو العباس لحارسة الأماكن ريم بسيوني.. ويبقى الأثر.
شيماء مصطفى★
حين أتحدث عن عمل لريم بسيوني خاصة أعمالها الأخيرة لا أحب أن أقول رواية وذلك لأن أعمالها تجاوزت السرد، وعبرت لضفة أعمق ، يمكنني أن أقول موسوعة أدبية فنية والروايات تنبثق منه وتتضافر معه.
“كاذبٌ من يقول أن المدن تموت وتندثر” عبارة رددها بطل علاء الجابر في روايته (هولندا لا تمطر رطبًا) .
“رأيت مدينتي تختفي..تتلاشى
ولكنها وهي تتلاشى تترك لبرهة
قبضة من النور المعلق في الهواء اللانهائي”
كلماتٌ قالها الشاعر السكندري الإيطالي أونجاريتي أثناء الرحيل وتصدرت رواية ريم بسيوني الصادرة عن دار نهضة مصر.
بالقراءة البصرية للكلمات والعبارة نلمح ثمة تناقض واختلاف، أما بالرؤية البصيرية نجدهما يحملان نفس المعنى فالمدن لا تموت ولا تندثر، فهي باقية إن لم تكن كنقض أو كأثر فإنها باقية في القلب، عالقة في الذاكرة، تهدينا نورًا في لحظات العتمة والظلام، وأعماق أبو قير تشهد ذلك.
فرحيل أونجاريتي كان رحيلًا مكانيًا وليس قلبيًا، رغم ابتعاد أبو العباس عن مرسية إلا أنها ما زالت عالقة في ذاكرته.
ما زالت رائحة شواء اللحم هناك عالقة بأنفه، ما زال مذاق الزبيب الأندلسي على أطراف لسانه، ما فعله الأسبان بعرب الأندلس لم يمح حقيقة أنهم كانوا هناك، حتى كريستين ما زالت عالقة مع الذكريات.
مخطىء من ظن يومًا أن للثعلب دينًا.
حين تبدأ الرحلة سيظهر لك الطريق، المهم حين تصل لا تظن أنك نجوت،تعرفنا في رحلة وصول ريم ورفاقها على طريقة الصوفيين في التعامل مع الابتلاء، وتعرفنا كِبْر وزهو قد لا يميزه البعض، فهناك من يتحدث باسم الإله، ويصدر أحكامًا وكأنه بمنأى عن غضب وعقاب الرب، لمن يروق لهم يصنفون محنته على أنها بلاء يؤجر عليه، ومن يختلف معه يروجون أن محنته عقابٌ من الرب وغضب عظيم،
تعرفنا في الرحلة عبد الجبار الشيخ اللص الكاذب، غضبنا من انقلاب عبد البارىء على رفيقه، أبصرنا حقيقة متولي الإسكندرية وخيانته الكبرى فترة وجود حملة لويس ، رأينا تقي الدين وغيره من الثعالب في ثياب الواعظين، أدركنا أن السياسة والسلطة والدين لا تجتمع في قلب رجل واحد، أبصرنا القباري والبوصيري والشاذلي وياقوت.
“وأنت يا هو يا ألله، إليك أنت ألجأ، قربني إليك، فمحاولاتي لا تبدو نافعة تركت طيب العيش ولبست الصوف، ذكرتك محزونًا في الغار وبين ثنايا الجبال، خفت من سخطك ولم أفز برضاك،ماذا تطلب مني؟ كيف لي أن أعرف أنني اقتربت ”
“فرسك يتألم يا أحمد، وأنت لا تشعر به،لو مرض الفرس فلن تصل،ما أسهل…”
“هل تعرف الكثير عن الخيل؟
أعرف القليل، لا أحد هنا يعرف الكثير”
“أنا هنا لأتأكد أن فرسك بخير،ولن يغوص مرةً أخرى في الوحل ولن يفقد حدوته”
وكأنه يقول أنا هنا يا أحمد
لأتأكد أنك لن تنقاد للغضب ولن تفقد بوصلتك، ولن تتزعزع عقيدتك،
يقول المازني:”محاسبة النفس عسيرة لكنها واجبة”
ما رواه الْحَجَرُ وما رواه البشر.
“يا ماريو يا غريب، أريدك أن تعرف أن أبواب الفتح تتعدد بتعدد السالك، هناك فتح الكلمة فتتدفق وتصيب القلب لا محالة، وهناك فتح اليقين، وهذا أعظم الأبواب”
قال للبوصويري:” الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا،الزاهد غريب لأن الآخرة وطنه،والعارف غريب في الآخرة لأنه عند الله.
إذا كان هذا التعريف للغريب الزاهد والغريب العارف فماريو أي غريب وفقًا لتعريف أبا العباس؟
أعطت ريم في عملها للغربة والاغتراب مفهومًا تخطت به حواجز المكان،وحواجز الروح فالاغتراب المكاني ابتلاء والاغتراب الروحي ابتلاء والاغتراب في الدنيا
ابتلاء أعظم، قضت ريم ورفاقها حياة مفعمة بالحِل والترحال ومجاهدة النفس للوصول.
“يومًا ستقول يا أبي، ويومًا ستعرف أني غريب مثلك،كلنا غرباء ولكن لا غرابة معه”
“وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى”
سورة النازعات الآية (40)٠
حكت ريم ،حكت كريستين لماريو، حكى البوصيري لماريو،حكى ياقوت العرش لماريو، حكى ابن عطاء الله السكندري لماريو، قال أبو العباس لماريو.
نقلتنا ريم بسلاسة إلى الحالة الصوفية،ظننت أننا في حلقة اجتمع فيها الجميع ويتوسطنا ماريو،اختار الجميع ماريو، يبدو أنه بارع في الاستماع كبراعته في الرسم، تدون ريم ما يقولون، ويعبر ماريو عما يحكون بالرسم.
روى الفنار لماريو عن استقباله لأبي العباس، وحب العباس له، فصمم مسجده بلمسات تتشابه مع الفنار المثمن.
“سأحكي لك يا ماريو، ولكن أريدك أن تعرف قبل الحكي أن جميع ما في كتب القوم عبرات دموع من سواحل بحر التحقيق”
” أن ترسم فهذا إبداع،ولكن أن تنفذ ما رسمته على الورقة فهذه حياة”
“كنت أجلس في نافذة فيلتي المطلة على أهرامات الجيزة،كل ليلة أسامر مصمم الأهرامات وأتكلم معه،كنت أتقن الكلام مع الراحلين، وأخاف الكلام مع من حولي”
“اليقين صعب الكتابة أو الحكي عنه”
جمعهم جميعًا حبهم لأبي المرسي،ورغبتهم الحقيقية من التحرر من هوى النفس.ومن تبحث عنه يبحث عنك.
ريم بسيوني حارس المكان والتاريخ الأمين.
“ما أسهل خوض الطريق بسرعة ثم التعثر سنوات، لتتأكد من عدتك قبل السير يا أحمد”
ما أسهل أن نفرغ الغضب،ننفس عنه لم يستطع التنفيس في وجه عبد الجبار وابنته ففرغ غضبه في حصانه المسكين، تمامًا كما نفعل -نحن العاديون- حين نريد معاقبة أهلنا نعاقبهم بأنفسنا، وكذلك الفتاة حين تواجه قهرًا، ظلمًا لا تدير غضبها، بل توجه عقابها صوب شعرها تقصه، أما أحمد -أبو العباس المرسي- بدلًا من أن يركل عبد الجبار – ركل حصانه.
تعلم المرسي في رحلته للوصول كيف يجاهد نفسه، وتعلم أيضًا كيف يُدير غضبه فلم يفقد بصيرته.
“الغضب كالغبار يحجب الرؤية”
نقلتنا ريم معهم بين مرسية والقيروان والإسكندرية وقوص والقاهرة، في مرسية ذاق أبو العباس حلاوة العيش.
قيل أن عقبة بن نافع حين قام ببناء القيروان قال لجنوده: هذه قيروانكم أي مكان اجتماعكم،وقيل أيضًا أنه أمرهم بتطهير المكان من السباع والأفاعي كونها كانت مهجورة لم يسكنها البربر أو الروم رغم خصوبة تربتها وطيب هوائها،ومع ذلك كانت المدينة التي اتخذها الشيخ عبد الجبار ليبخ سمومه في مسامع الحكام للانتقام من أبي العباس.
وكانت المدينة التي تفرق فيها الأخوان المُرسي وأخيه حين أرادت قسيمة ابنة عبد الجبار الانتقام.
وحين ذهب إلى الإسكندرية قد يظن بعض الذين عاصروا الحدث أن المدينة لفظته ولكن بعد سنوات كانت المدينة التي حوت رفاته،واتسعت لمسجده، مدينة الفنار البطلمي الذي يرشد السفن،ويستقبل مريده،الفنار الذي تواصل من خلاله ماريو
الإيطالي مع أبي العباس المرسي الأندلسي،فلعب القدر لعبته ليتخذ ابن روما – التي تدخلت في شئون مصر فترة الحكم البطلمي- (بعد بناء الفنار) ماريو من الفنار مصدرًا للإلهام، إضافة لولعه بالمعمار المملوكي،واللمسات الأندلسية،ليخرج لنا بقطعة معمارية فنية جعلت من الإسكندرية قبلة للسياحة الدينية.
حتى القاهرة كانت قاهرة للأعداء أما لأبي العباس فكانت الملاذ الآمن حين لجأ إليها هو وزوجته،فاستقبله مسجد عمرو بن العاص بحفاوة جامعًا بين المنتقد والمعتقد، ورغم أنه في هذه المدينة ذاق مرارة فقد الابن على يد العدوي إلا أن الله ربط على قلبه وألهمه الثبات فقهرت القاهرة غضبه.
بدراسة مستعرضة لأعمال ريم البسيوني ستجدها دائمًا تبحث عن الحب،ستجدها كل مرة تعثر عليه في لحظات الحرب والألم، ستصحبك معها في التيه والوصول، ستجدها أمينة على الأماكن كأمانتها على التاريخ، ستجدها بإيمان راسخ تؤكد أن الرب واحد وإن اختلفنا في طريق الوصول إليه، وستجد أن رحمته تسبق غضبه.
“في بلادنا يا كريستينا نبجل الحب بين الرجل والمرأة، ولكن الحب أعمق وأوسع، تعلمت أننا نعرف المشاعر فنحددها، بينما الحرية هي سر الوجود، لو غصنا في الأشياء وأدركنا عجز لغتنا عن التعبير ينفك القيد”
نقلتنا ريم ببراعة بين عصرين متباعدين زمنيًا، متشابهين في الكرب والبلاء، عاصرنا ماريو وأبو العباس والحملة الصلبيبة والحرب العالمية، كشفت الوجه القبيح للحرب مؤكدة بطريقتها على ما قاله ماركيز أن من يتخذ الحرب وسيلة للسلام كمن يمارس الجنس من أجل العذرية’.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ناقدة- مصر