أخبار ومتابعات

أحمد كرماني:شهية الصورة وجوع المعنى: تأملات في ثقافة الطعام المعاصر.

د.أحمد كرماني عبد الحميد

من اللافت أن يملك الممثل أو لاعب كرة القدم مطعمًا. المشاهير يبيعون أسماءهم قبل أطباقهم. لم يعد الجمهور يطلب الطعام، بل يطلب التقرّب من النجم عبر لقمة. هي مطاعم قائمة على الوهم، تستثمر في الشهرة لا في الطعم، وتؤسس لعلاقة استهلاكية محضة تُفرغ الثقافة من بعدها التشاركي والتأملي. أصبحت المائدة مختبرًا للشهرة، وصار “الطبق” علامة تجارية أكثر منه تجربة حسية أو ثقافية.

  في مشهد يتقدّمه البصر وتغيب عنه البصيرة، أصبحت موائد الطعام أكثر حضورًا من موائد الفكر، وغدت وصفات الطهي أبلغ من دواوين الشعر، وراح “الطباخ النجم” ينافس “الشاعر النبي”. لم تعد قنوات الطبخ تُقدَّم للمحتاجين إلى وصفة بل للمفتونين بالعرض، ولم تعد المطاعم تجارية بقدر ما صارت عروضًا درامية يملكها ممثلون ولاعبو كرة. إن الثقافة المعاصرة، وقد تحوّلت من معانيها الرمزية إلى استهلاك بصري مفرط، تعيد تشكيل علاقتنا بالغذاء، لا كحاجة بيولوجية، بل كعرض اجتماعي وصورة طبقية.
   يبدو أن الاستهلاك لم يعد في خدمة الجسد بل صار الجسد في خدمة الاستهلاك. الطعام، وقد خرج من حيز المطبخ إلى منصات العرض، تحوّل إلى سلعة بصرية تستنزف الحواس وتعيد تشكيل الذوق على مقاس السوق. في قنوات الطبخ، نأكل بأعيننا أكثر مما نأكل بأفواهنا، وفي مطاعم المشاهير، نستهلك وهم الشهرة قبل أن نتذوّق الطبق. كل شيء محسوب بدقة للكاميرا: زاوية اللقطة، لمعان الصوص، صوت القرمشة، تعبير وجه الطاهي. إنه طقس استعراضي لا علاقة له بالجوع، بل بحضور الذات ضمن مشهدية فائضة.
تحوّل الطعام إلى صورة، تلتقطها الكاميرا، تنسخها الميديا، وتُعيد إنتاجها شبكات التواصل. لم يعد للمذاق دور بقدر ما للصورة دور؛ فالمهم أن يبدو الطبق شهياً لا أن يكون كذلك. إنها ذائقة بصرية تمحو الذائقة الإنسانية، وتجعل من الطعام استعراضًا جماعيًا للذوق لا تجربة خاصة. وكأنّ الصورة قد ابتلعت النكهة، وكأنّ العالم أصبح مطبخًا كبيرًا بلا نار.

 في زمن فائض الصور، لم تعد قنوات الطبخ تلبّي حاجة بل ترسّخ نمطًا طبقيًا لثقافة البذخ. الرفاهية المصوَّرة أصبحت معيارًا للنجاح. كأنَّ الطبخ لم يعد مهارة بل مسرحًا للاحتفال بالاستهلاك، كأنّ كل طاهٍ يجب أن يتقن فن التقديم أكثر من فن الطهي. لقد سُلب الطعام من سياقه الطبيعي وأُلبس ثوبًا تلفزيونيًا، وأصبح “الشيف” نجماً يُصفّق له الجمهور، ويُوقّع المعجبون له على الأواني.


   وفي هذا السياق، يمكن الوقوف عند ظاهرة مدهشة تكاد تُختصر فيها ملامح هذا البذخ الاستعراضي: البستاشيو. لم يعد الفستق مجرد مكوّن ضمن وصفة، بل تحوّل إلى رمز طبقي مستفز يُزرع عنوة في كل صنف: في القهوة، في البسبوسة، في الآيس كريم، وحتى في الكشري والمعجنات. كل شيء صار “بستاشيو”؛ لا لأن الطعم يحتاجه، بل لأن السعر يرفعه. كأنّ الفستق، وقد صار أخضرَ المال لا النكهة، أصبح الشاهد الرسمي على ثقافة لا تبحث عن اللذة بقدر ما تعرض الترف. وكأنّ إضافة البستاشيو في كل صنف هي توقيع ذهبي على طبق لا يُؤكل إلا بعين الهاتف وكبرياء الطبقة.
  هذه الظاهرة تكشف كيف يُستدعى الأغلى لا الأجود، وكيف يُزيَّف المعنى بمجرّد رشّة خضراء توهم بالرفاه. إنّنا هنا لا نأكل الفستق بل نأكل صورته، نستهلكه بوصفه رمزًا للقدرة الشرائية، لا بوصفه مكوّنًا فنّيًا يضبط النكهة. وما كان في السابق زينة نادرة أصبح الآن معيارًا للسعر لا للمذاق، وجواز مرور بصري إلى عالم النخبة المصطنعة.

 


  كل ذلك يعيد تشكيل علاقتنا بالطعام وبالثقافة، حيث تُمحى الحدود بين الجسد والسلعة، بين الذوق والفرجة، بين الحاجة والتمثيل. في هذا الزمن، يصبح الشبع بلا لذة، واللقمة بلا ذكرى، والثقافة بلا عمق. ويبدو أننا ننتقل من الوليمة إلى المأتم الثقافي، حيث نأكل المعنى نفسه، ونستهلك الرموز بلا وعي، ونلتهم الصور حتى التخمة.
   إن الثقافة المعاصرة، حين تجعل من الطعام وسيلة استعراض لا مشاركة، ومن الصورة سلطة لا تعبير، فإنها تقتل المعنى باسم الشبع، وتجهض التأمل باسم البذخ. وبين قنوات الطبخ ومطاعم المشاهير، وطقوس الفستق المتعجرفة، يضيع سؤال الإنسان: ماذا نأكل؟ ولماذا؟ وكيف أصبح الطعام بديلاً عن الفكر؟ وهل بقي للثقافة من مكان على مائدة الاستهلاك.


★كاتب ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى