أخبار ومتابعات

“د. علي العنزي” يتألق في مئوية الثقافة في الكويت بورقة عن ‘حمد الرجيب”.

بطرح مختلف ورؤية مغايرة، أشاد بها الحضور من كبار الأدباء في الكويت، قدم الدكتور علي العنزي الأستاذ بقسم النقد والأدب المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت ، ورقته النقدية المعنونة ب “استرداد حمد الرجيب”، في رابطة الأدباء، ضمن فعاليات (مئوية الثقافة في الكويت).
حيث تميز العنزي بتناوله الجديد لمسيرة الرجيب، وتأثير حياته الشخصية على منجزه الفني، وتسخير الرجيب عمله الدبلوماسي في خدمة المشهد الثقافي الكويتي.
ولأننا في مجلة نقد x نقد قد رصدنا تلك القراءة الواعية من قبل العنزي، ولمسنا أثرها الكبير على حضور الندوة، نقوم هنا بإعادة نشر الورقة، لتعم الفائدة، علها تشكل مساراً جديداً في تناول سير الرواد والمؤثرين مثل الراحل حمد الرجيب.

في درب استرداد حمد الرجيب
د. علي العنزي

ليست الورقة التي بين أيدينا عملاً تأبينيًا، ولا هي محاولة لردّ الاعتبار الرمزي لمثقفٍ راحل. إنها، في جوهرها، محاولة لاسترداد ما يُخشى أن يكون قد تسرّب من وعينا الجماعي بصمت: الرؤية لا الرجل، والمشروع لا الموقف العابر.
فالاسترداد، في هذا السياق، لا يعني أن نستحضر اسم الرجيب باعتباره واحدًا من أعلام التأسيس، بل أن نستنطق مجمل حضوره الثقافي بوصفه جهازًا فكريًا ومؤسسيًا وتشريعيًا ساهم في رسم ملامح المسرح الكويتي الحديث.
إن هذه الورقة تندرج ضمن ما يمكن أن يُسمى بـنقد الذاكرة الثقافية، لا استعراضها؛ إنها لا تسأل: ماذا أنجز الرجيب؟
بل تسأل بشيء من القلق المشروع: لماذا يبدو أن ما أنجزه لم يُورّث؟ ولماذا خبا الوهج الذي بدأه؟
بهذا المعنى، فإن الاسترداد ليس عملية استحضار، بل مواجهة تاريخية مع الحاضر، مواجهة نتتبع من خلالها المراحل التي عبرها المشروع المسرحي عند الرجيب: من التكوين المزدوج، إلى العمل المؤسسي، ثم إلى خفوت الحلم، لا بوصفها محطات في حياة شخص، بل كمرايا تكشف البنية المسرحية الكويتية وتحولاتها عبر قرن.

الراحل حمد عيسى الرجيب


وفي هذا الإطار، تقترح الورقة أن نقرأ تجربة الرجيب في ضوء ثلاث مفاتيح منهجية:

أولًا: بوصفه حالة مركّبة جمعت بين الفكر التربوي والتجريب المسرحي، أي بين العقل الأداتي والخيال الجمالي.

ثانيًا: باعتباره نموذجًا لـ”المثقف الوظيفي” الذي نجح – ولو مؤقتًا – في ربط الفعل الفني بالدولة الناشئة دون الوقوع في التبعية الخانعة.
ثالثًا: من خلال وقائع نقدية مضيئة، تبيّن كيف كان للرجيب وعيٌ مبكر بمفاهيم اليوم، مثل الاستدامة الثقافية، والحوكمة الفنية، ودور الفن في إنتاج المجال العام.

ولما كان ما سبق، لا تنحصر الورقة في التوثيق أو الإشادة، بل تتّخذ من استرداد الرجيب مدخلًا لتفكيك المسافة بين لحظة التأسيس وما نحن عليه الآن: هل ما زلنا نملك القدرة على إنتاج قامات من طينته؟ أم أننا نعيش على ما تبقّى من أرواحهم؟
ولما كان هدف هذه الورقة، لا أن ترسم سيرة رجل بقدر ما تسعى إلى تفكيك ملامح مشروعه، بوصف التجربة – حين تتجاوز صاحبها – تتحوّل من أثر فردي إلى لحظة تأسيسية قابلة للقراءة والتحليل، بل وأحيانًا للمساءلة؛ ففي هذا السياق، لا نقف عند الوقائع بوصفها حوادث زمنية، بل بوصفها تشكلات رمزية، كلٌّ منها يفتح على مشهد، وكل مشهد يحيل إلى ما هو أعمق من الحدث ذاته.
ولأن الرجيب لم يكن حضورًا نمطيًا، بل بنية متداخلة من القيم والرؤى والتجارب، فإننا لا نتناول حياته بخط سردي واحد، بل عبر اثنتي عشرة محطة منتقاة، تشكّل فيما بينها خريطة ذهنية لمسارٍ ثقافيّ لا يخلو من المنعطفات والاختلالات، لكنه يظل محفورًا في الذاكرة بوصفه أحد أبرز تمظهرات النهوض المسرحي الكويتي في لحظته التكوينية.

اثنتا عشرة محطة إذن…
في كل منها صوتٌ، وظلٌّ، وتحوّل.
وفي مجموعها، نصٌّ مناقبي ممتدٌ، كتبه الرجيب بجسده ومقامه ومقاله، وتركه لنا لنستكمل القراءة؛ ومن هذا المنطلق، نقفُ اليوم عند مجموعة من محطات الحياة الثقافية للمرحوم حمد الرجيب، رائدنا في ذلك أن نستحضر سويا لا تفاصيل السيرة، بل مَفَاصِلِ المشروع.
مشروعٌ بدأ على خشبة بدائية، وتحول إلى بنية مؤسسية، ثم استراح – كما سنرى – على حافة الطريق.
نقف عند هذه الوقائع، لا لنستعيد رجلًا غاب عن دنيانا إلى الخلود، بل لنستفز سؤالًا لم يغب قطّ:
ماذا فعلنا بتلك البدايات الزاخرة بالوهج؟

المحطة الأولى: (علاقة الرجيب بآل شماس) حين يُصغي الجمال لا ليعرف، بل ليعترف!
قد يبدو الحديث عن النزوع الموسيقي في حياة حمد الرجيب أمرًا تكرّرت الإشارة إليه، بل ولا يخفى على كُثر، لكن ما لم يُتناول بالتحليل الكافي هو تلك اللحظة الأولى، الندية، التي وُلد فيها هذا الحس؛ وأعني ارتباطه المبكر بأسرة شماس، والذي قد يكون غير مدروس دلالياً من الناحية النقدية!!
في طفولته، كان الرجيب يواظب بدأب على حضور الترانيم والتراتيل التي تُقام في منزل أسرة “شماس”، وهي الأسرة المسيحية الوحيدة آنذاك في محيط اجتماعي محافظ.
كان الحدث، ظاهريًا، صغيرًا: طفلٌ يجلس في الركن، يُصغي بصمتٍ لنغمٍ لا يعرف لغته العقائدية، لكنّه يفهمه بالحدس الخالص؛ فجاءت هذه الورقة لتجادل، بأن هذه التراتيل لم تكن مجرد حدث عرضي في حياته.
لم يكن ذلك مجرد انفتاح وجداني عابر، بل اللقطة الأولى لوعي جماليّ لم يضع “العقيدة” شرطًا مسبقًا للتلقي.
وكنت قد قرأت يوما ما، أن الرجيب، كان – ذات مرة – قد عبّر في لحظة لاحقة، عن رؤيته الخاصة لهذه التجربة، حين ربط بين تلك التراتيل وغناء البحارة الكويتيين؛ فكلاهما في نظره شكلٌ من أشكال الابتهال الجمعي، يتقاطعان في الغاية الروحية، وإن اختلفا في المرجعية.
ولا غرو في أن هذا الرأي النقدي بشأن تواشج الطقس والغناء البحري، قد يكون مفتاحًا جيدًا للوقوف على دلالات علاقة الرجيب بالموسيقى عامة وآل شماس خاصة: وأقول في هذا الصدد، إن استماع الرجيب للتراتيل في سياق مجتمعي محافظ قد يمثل لحظة نادرة من الانفتاح الروحي على الآخر.
وعلاوة، فإن هذا الانفتاح يساهم برأيي في توسيع الأفق الجمالي والتسامحي منذ سن مبكرة، ويمثل ركيزة أساسية في تشكيل الذائقة الجمالية و صقل الأذن الموسيقية، وهو ما انعكس على اهتمام الرجيب بالتلحين في فترات لاحقة من حياته، وأقول بهذا الصدد.

غناء البحارة


أن إدراك الرجيب للتقاطع بين غناء البحارة والتراتيل يدل على عدة نقاط:
أولًا. يدل على حس تحليلي نقدي لم يتم دراسته من قبل!
ثانيًا. كان لدى هذا المبدع الرائد، ربط بين أشكال موسيقية نابعة من حاجات إنسانية متشابهة: الخشوع، التعبير الجمعي، طلب العون، وإعادة إنتاج الأمل. (سواء في فنون البحر- أو التراتيل بكافة أشكالها).
ثالثًا. في بيئة أحادية الغالبية… وفي مجتمع ضيق التكوين الديني والثقافي؛ هذه الاستجابة الأولى، التي جمعت بين نداء البحر ونشيد الرب، لم تكن اكتشافًا فنيًا فحسب، بل لحظة مبكرة من الانفتاح الصامت على الآخر، لحظة من ذلك النوع الذي لا يبدأ فيه الوعي بالصدام، بل بالإنصات المختلف.
رابعًا. ذلك الطفل، المنغمس في سماع أصوات لا تُشبه تراثه، بدأ يكوّن – من غير وعيٍ مباشر – ذائقة موسيقية تضع القيمة الجمالية قبل الانتماء العقائدي، وتنحاز إلى الوجدان المشترك قبل الحدود الطائفية.
من هنا، قد نفهم لاحقًا سرّ اهتمام الرجيب بالتلحين، وسرّ ذلك الحس التحليلي الذي ربط الطقس الديني بالغناء الشعبي، والتراتيل بجوقة البحارة؛ إنه لم يكن يجمع الأشكال، بل كان يبحث عمّا يجمع النفوس: الخوف، الطلب، التبتل، والرجاء.
ولعلّ ما تمنحه هذه المحطة من بصيرة عميقة، لا يتعلق فقط بخصوصية الرجيب، بل بإمكانية وجود وعيٍ تعدديٍ صامت، يُبنى لا بالشعارات، بل بالاستماع.
فالإنسان، في تلك اللحظة، يسبق الدين؛ والإيقاع، حين يُلامس القلب، لا يسأل عن الهوية، بل يهمس بها.
غناء البحر وتراتيل الكنيسة… خشوع، واستنجاد، وصوتٌ يُقال لا ليُسمع، بل ليملأ الفجوة بين اليأس والأمل.
لابد وأن هذا الموقف، يُبرز أثر النشأة المتسامحة والانفتاح على الآخر، وكذلك إمكانية نشوء وعي تعددي ومتسامح، علاوة على وضع القيم الجمالية قبل الحدود العقائدية!!
خلاصة هذه المحطة، تكمن في أن تلك اللحظة السمعية – عند آل شماس – أسست لعدة مشاهدات:
أولًا. إن التجلي الجمعي قادر على تجاوز الانقسامات الشكلية بين الأديان والثقافات نحو روحٍ إنسانيةٍ موحّدة.
ثانيًا. الإنسان أولاً، لا العقيدة
ثالثًا. الذائقة بوصفها وعيًا جمعيًّا
رابعًا وهو الأهم: أحيانًا لا تبدأ مقاومة أحادية المجتمع بالرفض، بل بإنصات مختلف…
وأعني بذلك أن الرجيب المتبرعم ثقافيًا لم يواجه الأحادية المجتمعية بشعارات، بل فتح أذنه في صمتٍ، ليكتشف أن ما يجمع البشر ليس فقط اللغة، بل الارتجاف المشترك أمام نغم مقدّس.

مجلة البعثة الكويتية

المحطة الثانية: (نشر “من الجاني؟”) الكتابة بالفصحى كفعل ريادة ومجازفة تأسيس
كانت البداية مع نصّ بعنوان “من الجاني؟” نشره حمد الرجيب سنة 1947 في العدد السادس من مجلة البعثة.
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر حدثًا عاديًا: شاب كويتي يكتب مسرحية.
لكن اللافت – بل الاستثنائي – أن هذا النص كُتب بالفصحى، ليكون بذلك أول عمل مسرحي فصحوي يُكتب بقلم كويتي.
ولا تكمن دلالة هذه الخطوة في لغتها فحسب، بل في اللحظة التاريخية التي وُلدت فيها: لحظة كانت فيها الكويت لا تزال تفتّش عن ملامح هويتها الثقافية، وتحاول أن تُنصت لما هو أبعد من محيطها الجغرافي واللهجي.
لقد حقق الرجيب بهذا الخيار فعلين رياديين في آنٍ معًا:
أولًا، تمرّد على السائد اللهجي، الذي كان يحكم أغلب أشكال التعبير الأدائي آنذاك.
ثانيًا، راهن مبكرًا على أن المسرح الجاد لا يمكن أن يتكئ على العامية وحدها، بل لا بد له أن يستند إلى لغةٍ تحمل شحنة فكرية وجمالية قادرة على التأسيس.

وفي بيئة لم تكن تعرف بعد المؤسسات الأدبية الراسخة، ولا الحركات المسرحية المنظمة،
جاءت خطوة الرجيب لتبدو كما لو كانت قفزة في فراغ مفاهيمي، لكنها كانت – في عمقها – حركة باتجاه المستقبل.
فما الذي تقوله هذه المسرحية، لا في محتواها فقط، بل في جُرأتها الوجودية؟
تقترح هذه المحطة ثماني دلالات كبرى:
أن الرجيب راهن على وعيٍ جمعيّ لم يكن قد وُجد بعد، بل كان يكتبه مسبقًا على بياض المستقبل.
أنه كان – منذ بداياته – قادرًا على كسر الدائرة المحلية، والخروج من فلك الاكتفاء الداخلي إلى أفق أوسع.
أنه حمل في تكوينه ما يمكن تسميته بـروح مجازفة التأسيس، وهي تلك القدرة النادرة على اقتحام الفراغ وتحمل صدمة التلقي الأولى.
أنه لم يكن يكتب طمعًا في تصفيق، بل كان يخوض “البدايات المتعثرة” بوصفها شرطًا للتأسيس الحقيقي.
أنه كان يرى في المسرح وسيلة للنهضة، لا للتسلية.
وأنه تعامل مع المسرح لا كمجرد فن، بل كمشروع ثقافي ذو وظيفة نهضوية عميقة.
والأهم من كل ما سبق، أنه كان يؤمن بـما أسميه “مأسسة المسرح”؛ لا باعتباره منصة فنية فحسب، بل بوصفه أداة للوعي، ومجالًا للتفكير والنقاش العام.

وفي هذا المعنى، يتحوّل المسرح عند الرجيب من خشبة للعرض إلى فضاء للتنوير، يحمل القدرة على إعادة تشكيل الوعي، لا مجرد إمتاعه.
لقد كانت “من الجاني؟” نصًّا بسيطًا في ظاهره، لكنّه كان عبارة افتتاحية لمشروع مسرحي أراد له الرجيب أن يكون أداةً في خدمة الأمة لا مرآة للتسلية.
ومن هنا، يصح أن نقول إن الرجيب – وهو في الخامسة والعشرين – لم يكن يكتب مسرحية، بل يُدشّن وعيًا جديدًا.

المحطة الثالثة: مقال البعثة… حين يُقترَح المسرح كأداة للإصلاح
ننتقل الآن إلى محطة جديدة من سيرة الرجيب المبكرة، حيث نُشر له، في عشرينياته، مقالٌ لافت في مجلة “البعثة”، يمكن اعتباره واحدًا من أوائل النصوص التنظيرية التي تناولت المسرح في الكويت من زاوية وظيفية اجتماعية.
في هذا المقال، لا يكتب الرجيب عن المسرح كفنٍ للعرض أو الترفيه، بل يقترحه بوصفه رافعة ثقافية وإصلاحية شاملة. وقد قدّم فيه تصنيفًا مبكرًا للمسارح بحسب طبيعتها ووظيفتها ومجال تأثيرها.
فهو يخصّ المسرح المدرسي بوظيفتين محوريتين:
أولًا، أنه يُعوِّد الطلبة على الشجاعة الأدبية،
وثانيًا، أنه يمنحهم زادًا معرفيًا يساعدهم على تفهّم الحياة.

ثم ينتقل إلى ما يسميه المسرح المتجول، الذي يرى أنه ينبغي أن يُوجَّه إلى الأرياف والمناطق النائية،
ليقوم هناك بدور تثقيفي مباشر، يكافح الخرافات، ويواجه العادات الضارة.
وفي ختام مقاله، يدعو الرجيب صراحة إلى تأسيس دور مسرحية دائمة في الكويت،
تنهض بدور تثقيفي فعّال، وتعالج – بذكاء الجمال – ما قد تعجز عنه المدرسة أو المؤسسة الرسمية.
وراء هذا الطرح المبكّر، تتخفّى عدة دلالات مدهشة، تستحق الوقوف عندها:
الدهشة الأولى، أن هذا الوعي الناضج بوظائف المسرح، كُتب من شاب في عشرينياته، قبل أن تنشأ في الكويت أي بنية مسرحية مؤسسية تُذكر.
لقد أدرك الرجيب، مبكرًا، أن المسرح ليس قالبًا فنيًا واحدًا، بل بنية مركبة، تتكيّف مع الجمهور وموقعه واحتياجاته النفسية والثقافية.
تَفَهُّمُه المبكر لاختلاف طبيعة الجمهور (طلبة، ريف، مدينة) يدل على وعي طبقي ومجالي نادر.
وفي زمن لم يكن المسرح يُنتج فيه بصورة منتظمة، كان الرجيب يطرح المسرح كرافعة تربوية موازية للمدرسة، لا كمجرد نشاط لاصفي.
وهذا يعني أن الرجيب لم يرَ في المسرح مجرد مظهر من مظاهر التحضّر، بل أداة من أدوات التحوّل.
وفي مقاله هذا، تتجلى رؤيته لمسرح لا يُقام على الخشبة فحسب، بل يتسرّب إلى الوعي العام، وينتشر في المفاصل النفسية والأخلاقية للمجتمع.
يمكن القول إننا هنا أمام رؤية إصلاحية اجتماعية للمسرح، سابقة لزمنها، ومؤشّرة على أن الرجيب – وإن لم يكن يُنظّر بمصطلحات منهجية صلبة –
كان يملك الحدس الوظيفي العميق الذي يسبق غالبًا اللغة الأكاديمية.
لقد كَتَبَ الرجيب مقاله هذا لا من برجٍ عاجي، بل من قلب حاجة ملحّة لم تُعلن بعد؛
حاجة إلى مسرح يمسّ، لا يُعرض فقط.

نجيب الريحاني

المحطة الرابعة: بين الريحاني وطليمات… التكوين على ضفّتين
اللافت في حياة الرجيب المسرحية خلال أربعينات القرن العشرين، ليست فقط دراسته الأكاديمية في القاهرة، بل حرصه الموازِي على متابعة عروض نجيب الريحاني، رغم صداقته الوثيقة بزكي طليمات، أحد أبرز منظّري المسرح “الأكاديمي” الجاد في العالم العربي.
ولعلّ هذا التوازي وحده كافٍ للدلالة على انفتاح تكويني مزدوج، لم يكن ناتجًا عن التردد، بل عن وعي نقدي مبكر بتعدّد مسارات المسرح ووظائفه.
فمتابعته لعروض الريحاني لم تكن استهلاكًا ترفيهيًا، بل كانت – فيما نرجّح – فعلًا تأمليًا واعيًا، يتقصّى فيه كيف يمكن للمسرح الشعبي أن يخاطب الجمهور بلغة الحياة اليومية دون أن يتخلى عن حسّه التهذيبي والتنويري.
عدم تقوقع الرجيب على مناهج وحدها – لنقل طليمات مثلًا – أسهم في تكوين مسرحي مرن ومتعدّد الطبقات، يمكن تلمّس أثره لاحقًا في مقالاته المبكرة، والتي حاول من خلالها بلورة رؤيته الخاصة حول المسرح كأداة مجتمعية قادرة على التوسّط بين التثقيف والتسلية.
لقد كان هذا الشاب الكويتي، المقيم في مصر في الأربعينات، يعيش في مناخ ثقافي حيّ، ويقف في اهتمامه المسرحي بين نقيضين ظاهريين، أو لنقل بين طرفين متكاملين:
نجيب الريحاني، رائد المسرح الكوميدي الشعبي المرتبط بلغة الشارع والهمّ اليومي؛ وزكي طليمات، مؤسس المشروع المسرحي الأكاديمي الذي يقوم على التراجيديا، والتأصيل التربوي، والانضباط النصي.
هذا التلقي المزدوج لا يعكس فقط سعة أفق الرجيب، بل يمثل واقعة فكرية وفنية غنية، يمكن تضمينها في أي قراءة جادة لمسيرته المسرحية.

زكي طليمات


ولدى تحليل علامات هذا التكوين الهجين، يمكن الوقوف على عدة دلالات:
أولًا: إن المزج بين الريحاني وطليمات يعكس قدرة على تجاوز القطبية السائدة بين “الترفيه” و”الجدية”، ويؤكد أن المسرحي الحقيقي هو من يدمج بين الوظيفة الجمالية والرسالة الاجتماعية.
ثانيًا: إن استيعاب تجربة الريحاني، يعني أن الرجيب لم يكن نخبويًا في ذائقته، بل أدرك مبكرًا أن المزج بين الضحك والمعنى، بين النكتة والسؤال، هو ما يمنح العمل المسرحي حياته الثانية في ذهن المتلقي.
ثالثًا: هذا الوعي يظهر لاحقًا في تمسكه بـمسرح توجيهي غير خطابي، لا يُسقِط أفكاره من علٍ، بل يُمررها عبر البناء الدرامي الذكي، واللمحة الساخرة المدروسة.
رابعًا: إن العلاقة الهجينة بالريحاني وطليمات لم تنتج ازدواجية مشوشة، بل أسست لبنية تكوين متعددة، تنهل من الأكاديمية من جهة، ومن النبض الشعبي من جهة أخرى.

وأخيرًا، حين نقول إن الرجيب قد خرج من عباءة طليمات، فلا نعني أنه انسلخ عنها، بل أنه أعاد تموضعها في سياق محلي، فجعل منها نواةً لرؤية براغماتية للمسرح العربي، لا ترى في النماذج الأوروبية مرجعًا أوحدًا، بل نقطة حوار قابلة للتعديل، لا للتكرار.

المحطة الخامسة: تأسيس مجلة “الرائد”… من الكتابة الحرة إلى الثقافة المؤسسية
المحطة التالية التي نُضيء عليها هي واقعة تأسيس مجلة “الرائد” سنة 1952، وهي لحظة مفصلية لا تقل أهمية عن مشروع “البعثة”، بل تتقاطع معه من جهة، وتتجاوزه من جهة أخرى.
شارك حمد الرجيب في إطلاق هذه المجلة التربوية/الثقافية بالتعاون مع اثنين من أبرز أعلام المشهد الفكري الكويتي آنذاك:
الشاعر أحمد العدواني، والقاص فهد الدويري – رحمهم الله جميعًا.
وقد صدرت “الرائد” عن نادي المعلمين، بعد فترة وجيزة من توقف مجلة “البعثة”، التي كانت تمثّل، في سياقها، ذروة المبادرة الفردية الحرة.

مجلة الرائد


وهنا، يبرز السؤال النقدي المشروع:
ما الذي ميّز “الرائد” عن “البعثة”؟
الجواب الأول: أن “الرائد” كانت منبرًا تربويًا بثقل مؤسسي منظم، بينما كانت “البعثة” أشبه بنداء ثقافي مستقل ينبض بروح الطليعة.
ومع ذلك، لم تكن “الرائد” قطيعة مع “البعثة”، بل امتدادًا لها بروح جديدة: روح تؤمن بأن التنوير لا يكفي أن يُكتب، بل يجب أن يُدار ويُنظَّم ويُؤسَّس.

وبذلك، تمثّل “الرائد” لحظة فارقة في تطعيم المشروع الثقافي الكويتي بالبعد المؤسساتي الوظيفي، أي بانتقال الثقافة من كونها تعبيرًا فرديًا إلى كونها جزءًا من جهاز مدني يُنتج الوعي، ويرعاه.
وتكشف هذه الواقعة عن عدة دلالات حيوية:
أولًا: التحوّل من المبادرة الفردية التي ميّزت “البعثة”، إلى الانخراط الفعلي في جسم مؤسسي منظم، تمثّله “نادي المعلمين”.
ثانيًا: الوعي المبكر لدى الرجيب بأن الاستدامة الثقافية لا تتحقق بالكتابة فقط، بل بإرساء البنى الداعمة لها، وأن النشر لا يصبح فعلاً عامًا إلا إذا خرج من حيز المبادرة المعزولة إلى فضاء العمل التشاركي.
ثالثًا: هذا التحول يعكس وعيًا بأن الثقافة لا تنفصل عن التربية، بل تتقاطع معها، وتتغذى منها، خاصة في لحظة بناء الدولة الحديثة.
رابعًا: “الرائد” لم تكن مجلة تربوية تقليدية، بل كانت منبرًا ذا بعد أدبي واضح، ما يعني أن الرجيب كان يدفع في اتجاه رؤية ثقافية شاملة، ترى أن التكوين المهني للمعلم لا ينفصل عن ذائقته الفنية ومسؤوليته التنويرية.
خامسًا: ما يضيف لهذه المحطة قيمتها الرمزية هو أن الرجيب – في هذه اللحظة – يؤسس لتقاليد نشر نقابي مهني، تتجاوز الثقافة النخبوية المعزولة نحو ثقافة جماعية تحمل أفقًا حقوقيًا واضحًا.
سادسًا: في هذا السياق، لم يكن الرجيب يرى الفعل الثقافي خطابًا معرفيًا فقط، بل أداة لتقوية الوعي المدني والحقوقي لدى المعلمين، في وقت لم تكن فيه هذه المفاهيم متداولة بعد في العالم العربي.

وأخيرًا، تجسّد “الرائد” الانتقال من إنتاج المعرفة إلى مأسستها؛ من التجربة الفردية إلى البنية المؤسسية المنتجة لها؛ من المثقف المُبادر إلى الثقافة كجهاز وطني يُنتج الاستنارة ويرعاها.
هذه النقلة، في جوهرها، ليست مجرد تحول في الشكل التنظيمي، بل هي انعطافة مفهومية تمسّ طبيعة الثقافة ذاتها: كيف تُصاغ؟ ولمن تُوجَّه؟ ومن يملك الحق في تفعيلها وتداولها؟
لقد خرجت المعرفة هنا من طورها الأوّلي، الذي يحتفي بالإبداع الفردي، إلى حيّز أكبر يُلزمها بأن تكون فعلًا عامًا، قابلاً للقياس والاستمرار والمساءلة.
أن تُؤسس مجلة كـ”الرائد” يعني أن المثقف لم يعُد مجرد صانع أفكار،
بل صار – بالضرورة – شريكًا في إدارة الوعي العام، وفي تنظيم قنوات تلقّيه وتداوله،
أي أن الرجيب – وصحبه – لم يكتفوا بأن يكتبوا، بل قرروا أن يُنظّموا شروط الكتابة ذاتها، وأن يبنوا لها وعاءً مؤسسيًا يضمن ديمومتها.
ومن هنا، فإن “الرائد” لا يمكن قراءتها كمجرد امتداد لـ”البعثة”،
بل ينبغي النظر إليها باعتبارها نقطة انعطاف تم فيها إعادة تعريف دور المثقف من “فاعل حرّ” إلى “فاعل من داخل البنية”،
ومن صوتٍ يُنادي من الهامش، إلى صوتٍ يُعاد هندسته ضمن منظومة تخطيط الدولة للوعي.
وإذا كانت “البعثة” قد مثّلت زمن الإرادة الفردية، فإن “الرائد” دشّنت زمن التنظيم،
زمن لم تعد فيه المعرفة تُنتج من عاطفة المثقف فقط، بل ضمن وعيٍ مؤسسي يُدرك أن الثقافة لا تكتمل إلا حين تصبح جزءًا من البنية التحتية للنهضة.

الراحل يعقوب يوسف الحمد

المحطة السادسة: رسالة يعقوب الحمد إلى الرجيب… من التكوين إلى التكليف
في عام 1949، أنهى حمد الرجيب دراسته في القاهرة، وقد جمع آنذاك بين دبلوم في التربية من كلية الآداب، ودبلوم آخر من المعهد العالي لفن التمثيل العربي.
وعند عودته إلى الكويت، لم تكن عودته عادية، فقد رافقتها رسالة علنية نُشرت في مجلة “البعثة”، كتبها التربوي البارز آنذاك يعقوب الحمد، صاحب عمود “خواطر في شؤون التعليم”، ووجّهها صراحةً إلى الرجيب، مخاطبًا إياه بلغة تحمل من النداء ما يفوق المجاملة، ومن التكليف ما يتجاوز التقدير.
لقد شكّلت هذه الرسالة، بما تضمنته من مطالبات واضحة، وثيقة مهمة في تاريخ المسرح الكويتي، تُظهر تحوّل الرجيب في أعين معاصريه من “طالب مبتعث” إلى صاحب مشروع مُنتظر.
لقد دعاه الحمد إلى قيادة مرحلة جديدة من المسرح، بعد أن ظلت النشاطات التمثيلية تُمارَس في ساحات مفتوحة أو على منصات بدائية بلا مقومات حقيقية.
وجاء الطلب صريحًا: أن يُقنع الرجيب مجلس المعارف بضرورة تأسيس “دار مسرح حقيقية”، تتوافر فيها شروط البناء التقني والمعماري، وتكون مشروعًا وطنيًا طويل الأمد “يشرّف بعد قرن من الزمان”.
لم تكن الرسالة مجرّد تحية عودة، بل كانت خطابًا يحمّل الرجيب مسؤولية رمزية وتاريخية، لحمل المسرح الكويتي نحو مرحلة الاحتراف والتأسيس.
وهنا، تتكشف عدة دلالات:
أولًا: يمثل الخطاب لحظة انتقال من “التكوين الذاتي” إلى “التكليف المجتمعي”، حيث يُنتظر من الرجيب أن يتحوّل من متعلّم إلى صانع لبنية ثقافية.
ثانيًا: تكشف الرسالة عن وعي مجتمعي مبكر بضرورة الخروج من طور “المسرح المؤقت”، إلى إقامة بنية تحتية دائمة تُعبّر عن جدّية المشروع المسرحي.
ثالثًا: لا يخاطب الحمد الرجيب كمجرد كاتب أو ممثل، بل كمفاوضٍ محتملٍ مع مجلس المعارف، وكمن يُعوَّل عليه لإقناع مؤسسات الدولة بإدراج المسرح ضمن أولوياتها.
رابعًا: في خلفية الرسالة، تظهر قناعة جيل بأكمله بأن المسرح الكويتي لا بد أن يكون له مقرّ، وذاكرة، وهوية معمارية، لا أن يظل مشهدًا متقطعًا في الساحات الموسمية.
خامسًا: ما تطلبه الرسالة هو مسرح بمقام الدولة، لا بمقام الترفيه؛ مسرحٌ يُشرّف الكويت في الذاكرة البعيدة، لا في الحفلة القريبة.
ومن هنا، فإن عودة الرجيب إلى الكويت عام 1949 لم تكن عودة شخصية من بعثة علمية، بل عودة محفوفة بتوقّعات تاريخية.
لقد أصبح، في نظر رفاقه ومجتمعه، المسؤول الرمزي عن نقل المسرح الكويتي إلى ثلاثة آفاق:
من العفوية إلى الاحتراف، ومن الشارع إلى الخشبة،ومن التكوين إلى البناء المؤسسي.
لقد أرادوا منه أن يكون صوت التمثيل داخل مؤسسات الدولة، لا صدى للمسرح في الهواء الطلق.
وهكذا، لا تبدو رسالة يعقوب الحمد مجرّد التفاتة شخصية، بل هي تثبيت علني لوظيفة ثقافية جديدة أُلقيت على عاتق الرجيب، وظيفة تتجاوز حدود النص والمشهد، لتلامس الجانب التشريعي والبنيوي في تأسيس المسرح الكويتي.
فمنذ تلك اللحظة، لم يعد يُنظر إليه كهاوٍ شغوف أو خبير عائد من منفى دراسي، بل كحلقة وصلٍ بين الحلم المسرحي والقرار الرسمي، بين ما كان يُرتجل في الساحات، وما ينبغي أن يُشيد على أساس.
لقد كُلّف الرجيب من الحمد وأقرانه – وإن لم يُقل ذلك صراحة – بأن يحوّل الخبرة إلى مؤسسة، والمعرفة إلى مبنى، والطموح إلى هيكل.

المحطة السابعة: استقدام زكي طليمات… حين يُستدعى العقل إلى الخشبة
في عام 1958، أسهم حمد الرجيب، بصفته المؤسس الفعلي لدائرة الشؤون الاجتماعية، في استقدام زكي طليمات إلى الكويت، في خطوة أجمعت معظم القراءات اللاحقة على وصفها بـالتحول الاستراتيجي في مسار المسرح الكويتي.
فقد جاء طليمات بدعوة رسمية، في إطار خطة حكومية طموحة لإعادة هيكلة الحركة المسرحية، لا عبر المبادرات الفردية، بل من خلال أدوات علمية ومؤسسية.
كان للرجيب دور محوري في الإقناع بضرورة هذه الخطوة، إذ رأى – مبكرًا – أن التجربة المسرحية الكويتية تحتاج إلى عقل تأسيسي خبر المراحل، لا النجومية، وراكم أدوات التنظيم لا فقط أدوات الأداء.
أسندت إلى طليمات ثلاث مهام أساسية:
إعداد تقرير شامل عن واقع المسرح الكويتي.
تأسيس فرقة المسرح العربي سنة 1961.
المساهمة في إنشاء أول معهد متخصص للفنون المسرحية في الخليج.

زكي طليمات وأعضاء فرقة المسرح العربي


وقد أسفر هذا المشروع عن نتيجتين مباشرتين:
إطلاق اختبارات نوعية لطاقات شابة محلية.
وتكوين فرقة المسرح العربي، التي تحوّلت لاحقًا إلى رافعة أساسية لتخريج وجوه شكلت العمود الفقري للمسرح الكويتي الحديث.
لكن ما يلفت النظر حقًا، هو دلالات اختيار الرجيب لطليمات بالذات، وهو ما يدعونا إلى الوقوف عند عدة مؤشرات:
أولًا: أن الرجيب استدعى “المعرفة المؤسسة” لا “النجم المستعار”، فاختار شخصية تمتلك القدرة على تحويل الرؤية إلى هيكل، لا إلى عرض استعراضي عابر.
ثانيًا: هذا الخيار يعكس توجهًا عقلانيًا بعيدًا عن الحلول المؤقتة، وإيمانًا بأن المسرح ليس انفعالًا، بل علم يُبنى ويُدبّر.
ثالثًا: اختيار طليمات، بتكوينه وتاريخه، يعني الرهان على أربع ركائز أساسية:
المدرسة.
المنهج.
النظرية.
التقنين.
رابعًا: نرى في ذلك تحوُّل الدولة – عبر الرجيب – من مجرد “متابعة” للحركة المسرحية إلى شريك فعلي في تأسيس مؤسساتها.
وإلى جانب ما سبق، ثمّة دلالة محورية إضافية:
أن الرجيب راهن على الفاعلية الخارجية لا الانغلاق المحلي، مؤمنًا بأن التجربة المسرحية العابرة للأقطار قادرة على إثراء السياق المحلي، لا من باب الاستلاب، بل من باب الحوار والاستفادة.
وتتجلى النقطة الأهم في هذه المحطة، في تدشين ما يمكن تسميته بـ “ثقافة الاختبار”، لا “التعيين العشوائي”! أو ما يعرف عالميا بـالـ auditions أو الـ casting culture، بدلًا من التعيين الجزافي أو الوراثي.
ففرقة المسرح العربي لم تُشكَّل بمنطق العلاقات، بل تم فتح باب التقديم العام، وتقدم مئات الشباب، لتُبنى الفرقة على أسس فنية واضحة.
وهنا يظهر التحول من “النخبوية المغلقة” إلى المشروع الجماهيري التشاركي، حيث يصبح المسرح فضاء عامًا لا ناديًا خاصًا.
لم يكن الرجيب، في استدعائه لطليمات، يستورد مشروعًا جاهزًا، بل كان يبني الجسر بين الإرادة المحلية والرؤية المؤسسية.
لقد وعى منذ اللحظة الأولى أن النهضة المسرحية لا تقوم بدون عقل تأسيسي،
وأن البناء الثقافي المستدام لا يحتاج فقط إلى المواهب، بل إلى النخب القادرة على تحويل الفن من انفعال إلى برنامج.
بهذا المعنى، لم يكن اختيار طليمات اختيار شخص، بل اختيار مسار.

المحطة الثامنة: المسرح لا يُباع… بل يُزرع في الضمير
ننتقل في هذه المحطة إلى واحدة من المواقف المفصلية في رؤية الرجيب للمسرح: موقفه من “المسرح الموجه للسوق” أو لنقل “الترفيهي الخالص”.
إذ عبّر في أكثر من مناسبة، بوضوح لا لبس فيه، عن موقفه غير المتقبّل أو غير المنسجم مع ما اصطلحت على تسميته بـ” المسرح الإمتاعي غير المؤسس”،
وهو الموقف الذي لا ينبع – عند الرجيب – فقط من تفضيل فني، بل من خيار مبدئي له جذور أدبية وجمالية.
وقد تساءلت، مرارًا، عن تصوّر الرجيب للمسرح الجاد أو “الأكاديمي” كما كان يُفضّله،
فوجدت في بعض مقالاته ما يدل على إيمانه بمسرح قادر على إصلاح ما تعجز عنه الخطب أو الوعظ،
أي مسرح يخاطب الوجدان والعقل معًا، ولا يكتفي بالإضحاك أو إثارة الانفعال اللحظي.
هذا التصوّر جعله يتمسك بموقفين حاسمين:
أولًا: رفض الانجرار وراء الإثارة، أو استخدام المسرح كوسيلة استهلاكية خفيفة.
ثانيًا: دعوته الصريحة لأن يصطبغ المسرح بصبغة ثقافية، أدبية، توجيهية تحفظ له دوره الجوهري كرافعة أخلاقية.
لقد كان الرجيب يُصرّ على أن المسرح ليس ترفيهًا أجوف، بل مدرسة للمجتمع، يتعلّم فيها الأفراد ما تعجز عن بثّه المناهج، أو ما تتفاداه وسائل الإعلام.
ومن هذا المنطلق، لم يكن يؤمن أبدًا بذلك المسرح المتنازل عن رسالته مقابل العائد المادي، أو المتخلي عن بُعده الثقافي في سبيل التذاكر المباعة.
وعطفًا على ما سبق، فإن موقف الرجيب من ” المسرح ذي البُعد الربحي” لا يمكن اختزاله في موقف فني،
بل ينبغي قراءته باعتباره اختيارًا فكريًا وأخلاقيًا، قائمًا على عدة ركائز:
أنه كان يرى المسرح أداة إصلاح مدني،
أي قوة ثقافية موازية للتعليم والإعلام، قادرة على تفكيك المشكلات الاجتماعية،
وتقديم حلول رمزية وسردية تُعيد الأفراد إلى ذواتهم وعلاقاتهم بنظرة جديدة.
أنه رفض ثقافة الاستهلاك الفني،بمعنى أنه لم يقبل اختزال الفن في منطق “العرض والطلب”،
بل أصرّ على أن المسرح – كما الفن عامة – رسالة لا سلعة.
ويمكن تسمية توجهه هذا بـ”الدعوة إلى الصبغة الثقافية التوجيهية”،
وهو مصطلح يعكس التزامًا مبكرًا بالمسرح الملتزم،
ذلك المسرح الذي يربط الجمال بالمسؤولية، والمتعة بالوعي.
ومن هنا، تتجلى ريادة الرجيب لا في كونه الأول، بل في كونه المبدئي؛
فهو لم يخضع للسوق، ولا ساير التصفيق العابر، بل ظلّ يرى في المسرح مسؤولية تربوية ومجتمعية تمسّ المصلحة العامة.
وبهذا نخلص إلى نقطتين جوهريتين:
أولًا. أن الرجيب أدرك مبكرًا أن ما يُبقي المسرح حيًا ليس الضحك السهل، ولا التذاكر المباعة، بل المعنى الذي يُبنى في وجدان الجمهور بعد انطفاء الضوء.
وثانيًا. انحاز الرجيب لـ “المسرح الثقافي الأخلاقي”؛ لأنه آمن بأن المسرح الحقيقي لا يغازل أهواء الجمهور، بل يوقظ وعيه.
ولهذا – أرى بأنه – لم يكن المسرح عند الرجيب لحظة تسلية، ولا حتى مجاملة للذوق العام،
بقدر ما هو لحظة تفكّر جماعي، يُستعاد صداها في الوجدان!

المحطة التاسعة: لقاء 1980… حين أعلن الرجيب أن المسرح لا يُدار، بل يُؤسَّس

في لقاء تلفزيوني أجراه عام 80، قدّم حمد الرجيب واحدة من أكثر رؤاه المؤسسية وضوحًا وشجاعة؛ إذ دعا – بصراحة غير معهودة في زمانه – إلى استقلال المؤسسة المسرحية عن الوزارات.
كان يرى أن ربط المسرح بأي وزارة، سواء كانت “الشؤون” أو “الإعلام”، قد يترتب عليه ثلاثة عوائق مباشرة:

أولًا: تقييد الحركة المسرحية.
ثانيًا: إخضاعها للبيروقراطية الإدارية.
ثالثًا: تحميلها تحفظات تنظيمية تحدّ من طاقتها الإبداعية.

من هنا، طالب الرجيب بأن تكون هناك مؤسسة مستقلة تُعنى بشؤون المسرح، تدار بفكر فني خالص، لا بمنطق إداري تقليدي.
كان هدفه واضحًا: منح المسرح حرية التخطيط، والإنتاج، والتجريب، بعيدًا عن إملاءات غير مختصّة.
وبرأيي، يمثّل هذا الموقف تعبيرًا ناضجًا عن وعي إداري-ثقافي متقدّم، يتجاوز مرحلة التنظيم إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الإبداع والدولة.
الدلالات الكامنة خلف هذا الطرح:
لم يكن الرجيب يرفض تبعية المسرح للوزارات فقط لأنه لا يرى جدواها،
بل لأنه – وهو الإداري نفسه – كان يُدرك أن المنطق البيروقراطي يعجز عن احتضان الفعل الجمالي.
كان واعيًا بأن الآلة الإدارية تتحرك بوظيفة… أما الفن، فيتحرك برؤية.
ولفتني – على نحو خاص – وعيه العميق بأن الإدارات المعنية ليست دائمًا الحاضن الأمثل للفعل الثقافي،
وأن الثقافة لا تُدار كما تُدار الموازنات، بل كما يُدار التخييل الجماعي.

هذا التصوّر المبكر، يمكن أن ندرجه ضمن ما يُعرف اليوم بـ“الحوكمة الثقافية”،
أي أن تُدار القطاعات الثقافية من قِبل أهلها، وبأدوات تستجيب لحساسيتها، لا لأوامر وظيفية عابرة.
وهنا، يتقاطع الرجيب – من حيث لا يدّعي – مع أهم التحولات المسرحية في العالم العربي،
حين بدأت كثير من الأصوات تطالب بإعادة النظر في علاقة المسارح القومية بالصيغ الإدارية المتحجّرة،
والتي أدّت – في بعض التجارب – إلى مواسم مسرحية مغرقة في الكلاسيكية العقيمة.
من هذا المنطلق، يمكن وصف رؤية الرجيب بـ“المسرح كمؤسسة لا كأداة”،
أي كمجال يتطلب استقلالًا ومعايير جودة وإبداع، لا مجرد إدارة مواعيد إنتاج ومتابعة حضور وانصراف.
لم يكن الرجيب، في هذا الطرح، منشغلًا بإدارة المسرح فقط،بل كان معنيًا بإعادة تخطيط موقعه البنيوي داخل الدولة والمجتمع.
لقد فهم – ببصيرة نادرة – أن المسرح لا يزدهر في الهامش، ولا تحت سقف البيروقراطية،
بل حين يُمنح استقلالًا يتيح له التنفس، والتجريب، والخروج من الدور التعليمي إلى الدور التكويني.
بهذا المعنى، لا نستعيد الرجيب هنا كمؤسّسٍ مسرحي فحسب، بل كمثقفٍ مارس مقاومة صامتة ضد عسف الإدارة،
وسعى – بذكاء حاد – إلى سيادة المسرح، لا تبعيّته.

حمد الرجيب وأم كلثوم

المحطة العاشرة: الأديب في المنصب؛ التمثيل الثقافي لا البروتوكولي!
في عام 1966، عُيِّن حمد الرجيب سفيرًا للكويت في القاهرة، وممثلًا لها في جامعة الدول العربية، وظلّ في هذا المنصب عقدًا كاملًا من الزمن.
لكن اللافت في هذه المحطة أن الرجيب لم يكتف بأداء المهام الدبلوماسية التقليدية، بل سعى إلى إعادة تعريف السفارة نفسها، بوصفها امتدادًا وجدانيًا وثقافيًا للكويت، لا مجرد بعثة رسمية.
وقد تجلّى ذلك حين نقل معه فكرة “الديوانية الكويتية” إلى القاهرة، لا بوصفها مجلسًا اجتماعيًا فحسب، بل بصفتها شيفرة ثقافية كاملة، تحمل روح المجتمع الكويتي:
روح النقاش، والانفتاح، والضيافة، والحوار المتكافئ.
قال ذات مرة، لسمو أمير البلاد – طيب الله ثراه – مقولته التي تختصر هذا المعنى:

“ما دمتُ وُفِّقتُ أن أكون خادمًا للكويت، فإنني أحمل روحي وروحها معي حيث أكون.”

وفتح الرجيب ديوانيته في القاهرة أمام كبار رموز الفكر والفن والسياسة،
منهم: محمد عبد الوهاب، يوسف وهبي، أم كلثوم، فريد الأطرش، وغيرهم كثير،
ليحوّل الديوانية من مظهر بروتوكولي إلى جسر حي للثقافة الكويتية.
فدلالات هذه المبادرة متعددة:
أولًا: ما أسميه “التجذّر المتنقّل”، أو “الهوية المحمولة في المنفى المؤقت”،
حيث لم تكن الديوانية مجرّد غرفة، بل رمزًا ثقافيًا عضويًا، حمله الرجيب معه كهوية لا تذوب.
ثانيًا: أن الرجيب فهم الدبلوماسية بوصفها تواصلًا أفقيًا لا تراتبيًا؛
ديوانيته لم تمارس سلطة تمثيلية، بل فتحت فضاءً حواريًا ديمقراطيًا، أزاح الرسميات لصالح القرب الثقافي.
ثالثًا: الرجيب المثقف السفير، لا يروّج للكويت بشعاراتها، بل يُقنع عبر حضوره، ودفء المكان، ورقيّ المحاورة.
لقد مارس ما يمكن تسميته بـ“الدبلوماسية الثقافية غير الرسمية”.
رابعًا: بمبادرته هذه، لم يوسّع فقط أداءه كسفير، بل أعاد تعريف المنصب ذاته؛
لم يعد السفير مديرًا للملفات فقط، بل حاضنًا للهوية، ومُوسّعًا للمجال العام الوطني خارج حدوده الجغرافية.
خامسًا: عبر ديوانيته، أصبحت القاهرة لا تستضيف الكويت الرسمية فحسب، بل الكويت الاجتماعية، والثقافية، والوجدانية.
لقد قدّم الرجيب الذات الوطنية في أبهى صورها: كذات منفتحة، دافئة، متسامحة،
ذات تتحدث بثقافتها لا بمواردها، وبقيمها لا بعلاقاتها الرسمية؛
فلم يكن حضوره في القاهرة تمثيلًا دبلوماسيًا مجردًا، بل صيغة معيشة للهوية الكويتية وهي تتنفس بثقة وكرامة.
ويبدو أنه حتى حين ارتدى عباءة السفير، لم يخلع قناع المثقف،بل – وهذا هو الأهم – ارتدى ما هو أبعد من التمثيل الرمزي،
ارتدى قناع الناقد الواعي، ذاك الذي لا يكتفي بأداء الأدوار، بل يعيد مساءلتها، ويُخلخل ما بدا ثابتًا في الثقافة السياسية.
فهو لم يتعامل مع البروتوكول كحقيقة مقدسة، بل كمادة مرنة يمكن إعادة صياغتها ثقافيًا،
وحوّل بذلك المألوف الإداري إلى مساحة للتأمّل والاشتغال الرمزي،
حيث تتحول السفارة من مقر رسمي إلى منصة ثقافية،
ويتحول السفير من ناطق باسم الدولة، إلى مُعبّر عن روحها العميقة.

الرجيب مع الفنان يوسف وهبي

المحطة الحادية عشرة: أخلاقيات الحضور في حضرة الفن: حين يصبح المقعد الخلفي مقامًا أولاً!

وهو على تخوم العمر، وجّه المعهد العالي للفنون المسرحية دعوة إلى الأستاذ الرائد حمد الرجيب، لحضور عرض تخرّج طلاب الفرقة الرابعة بقسم التمثيل.
كان الموعد ضمن تقليد أكاديمي سنوي يحتفي بمنجز الطلبة، ويكرّس لحظة المسرح كطقس عبور رمزي بين التعلم والممارسة.
وصل الرجيب متأخرًا لبضع دقائق، وقد بدأت الأضواء تنوس في القاعة إيذانًا بانطلاق العرض.
اختار، بهدوء، الجلوس في المقاعد الخلفية، متجنبًا أي إرباك بصري أو رمزي للخشبة،
برغم أن مقعده الرسمي كان محجوزًا في الصف الأول، احترامًا لمكانته وتاريخه.
وعندما تنبّه عميد المعهد إلى وجوده، توجّه إليه لإقناعه بالتقدّم إلى مقعده،
لكن الرجيب ردّ بجملة لا تزال تتردّد في الذاكرة المؤسسية للمعهد:

“المسرحي الحقيقي يجلس وفق قاعدة: الأوّل فالأول، لا وساطة ولا امتياز”.

لم تكن هذه العبارة زلّة عابرة، بل بيانًا قيميًا مُحمّلاً برمزية سلوكية، يعلن فيه الرجيب أن التواضع ليس مجاملة، بل موقف مسرحي.
إن البيئة المسرحية، المعروفة تاريخيًا بانحيازها لمظاهر الاعتداد الذاتي والتراتبية،
تجعل من تصرّف الرجيب نموذجًا نادرًا لـ”الرائد المتواضع” الذي يُعلي من قيمة الفن لا من موقعه فيه.
رفضه للجلوس في الصفوف الأمامية بعد بدء العرض، ليس تفصيلًا شكليًا،
بل احترام صارم لزمن المسرح، بوصفه طقسًا لا يُقاطع، ولحضوره بوصفه عهدًا بين العرض والجمهور.
عبارته: “لا وساطة ولا امتياز” تُشكّل احتجاجًا ضمنيًا على التراتبية الرمزية،
وتأكيدًا على أن الفنان الحقيقي لا يطالب بالتمييز، بل يُطالب بانضباط الجميع في حضرة الفن.
الموقف برمّته لم يكن خطابًا وعظيًا، بل تجسيدًا مباشرًا لقيمة، أثرُهُ في الطلبة أكبر من عشر محاضرات تُلقى من على المنصة.
الرجيب هنا لا يقدّم درسًا في قواعد البروتوكول، بل يعيد تعريف الريادة بوصفها التزامًا أخلاقيًا،
حيث لا تكون المكانة مرهونة بمقعد أو لقب، بل بقدرة الفنان على أن يكون قدوةً في السلوك، كما في الإبداع.
في لحظة مسرحية صامتة، علّم الرجيب أبناءه الطلاب أن المكانة تُقاس لا بعدد الدعوات،
بل بمدى احترامك للبدء المسرحي، لتوقيت النور، وللسلوك المهني في حضرة الفن.
لقد قال، دون أن يتكلم طويلًا:

“المسرح لا يُكرّم القدامى بالمقاعد، بل بأن يكونوا مرآة لما يجب أن يكون.”

المحطة الثانية عشرة: أحلام الرجيب: إرثٌ في طور التفعيل لا الانطفاء
لا يمكن الحديث عن حمد الرجيب دون الوقوف عند ثلاث رؤًى كبرى شكّلت مجمل وعيه المسرحي،
وهي ليست مجرّد مواقف، بل أحلام تأسيسية، نضجت ببطء، وترسّخت عبر مشروع تراكمي استغرق ما يقرب من ربع قرن.
أحلامٌ لم تُبنَ على مجرّد الانفعال الثقافي، بل على فهمٍ بنيويّ لدور المسرح في تشييد وعي اجتماعي قادر على التفاعل مع الذات والتاريخ.
غير أن هذه الأحلام، التي لامست لحظات من التحقّق المشرق، بدأت لاحقًا تميل إلى الانطفاء التدريجي، حتى بدت ـ بعد غياب صاحبها ـ معلّقة بين ذاكرة مؤسّسة، وواقع متردد.

الحلم الأول: المسرح المدرسي… حين كان التعليم يتنفس بالفن
آمن الرجيب بأن المسرح المدرسي ليس نشاطًا لاصفيًا، بل جزءٌ عضوي من البنية التربوية،
يعلّم الطالب أن يتكلم، أن يُقنع، أن يتأمل، أن يحاور النص لا أن يلقنه.
وقد عرف هذا الحلم لحظة نادرة من التحقّق في الخمسينات والستينات،
حين كانت المدارس تُنتج أعمالًا مسرحية ذات بُعد اجتماعي وتربوي، تربط الطالب بقضايا بيئته ومجتمعه.
لكن ما إن انتقلت الدولة إلى نموذج أكثر بيروقراطية، حتى تراجع المسرح المدرسي،
وأُفرغ من محتواه التكويني، لصالح أنشطة شكلية أقرب إلى الاحتفالية منها إلى الاشتغال التربوي العميق.

الحلم الثاني: المسرح الأهلي… حين كان المسرح ابن بيئته
حين دعا الرجيب إلى تأسيس المسارح الأهلية، لم يكن يُفكر في بنى تنظيمية معزولة،
بل في مساحات حرة لإنتاج الوعي، تعبّر عن نبض المجتمع وتؤدي دورًا تفاعليًا مع التحوّلات العربية.
ولم يكن غائبًا عنه، في هذا التوجه، مفهوم “الوسيط المدني” الذي يشغله المسرح بين الدولة والمجتمع.
وقد تحقق هذا الحلم، فعليًا، عبر نشوء أربعة مسارح أهلية في الستينات،
لكن التحدي لم يكن في التأسيس بل في الاستمرار؛
فمع مرور الوقت، تراجعت هذه المسارح إلى مجرّد “أجهزة إنتاج موسمي”،
تحوّلت تدريجيًا إلى مؤسسات مهرجانية، تُنتج المناسبات لا الخطابات، وتُدار بمنطق التنسيق لا بمنطق الرؤية.

الحلم الثالث: دُور العرض… من البناء المعماري إلى الغياب الرمزي
لطالما حلم الرجيب بأن يمتلك كل حيّ كويتي دار عرض مسرحي حقيقي،
لأن الفن في نظره لا يجب أن يُحاصر في المركز، بل يجب أن ينتشر كحق جماهيري.
وقد تحقّق هذا جزئيًا بإنشاء بعض المسارح (كيفان، الدسمة، عبدالحسين عبدالرضا…)،
لكن الحلم بقي ناقصًا، لأن تلك الدور لم تترسخ بوصفها مراكز إشعاع، فلماذا تراجعت هذه الأحلام؟
ليست المشكلة في “العدم”، بل في “التحقّق”؛
فأحلام الرجيب لم تُقمع، لكنها تُرِكت بلا وصيّ بنفس حماسه، وجرى تفريغها جزئيًا من بعدها التكويني لحساب الحضور الشكلي.
وكأن المشروع المسرحي الذي بدأ كفعل تأسيس اجتماعي، أُعيد تدويره كفعل احتفالي،
وهكذا استُبدلت الرسالة بالركح والمنصة.
لقد حلم الرجيب بمسرح يؤسس لا يُستعرض، ويصوغ الذائقة لا يُراضيها، ويصنع الذاكرة لا يستهلكها؛ وما التذكير بأحلامه اليوم، إلا محاولة للقول إن المؤسسة لا تكفي، إن لم تسكنها روح المشروع.

المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت

خاتمة: حمد الرجيب؛ استرداد الرؤية… لا استحضار الاسم
حين نستعرض محطات حمد الرجيب الاثنتي عشرة، لا نكون بإزاء “سيرة” بالمعنى المألوف،
بل أمام تجلٍّ متعدد الوجوه لرؤيةٍ تنويرية أبت أن تُحصَر في ميدان أو موقع أو مرحلة،
رؤية اختارت أن توزّع حضورها بين الخشبة والصف، بين المجلة والديوان، بين النص والفضاء العام،
لتصوغ بذلك وعيًا ثقافيًا جديدًا كان المسرح أحد أدواته، لا غايته الوحيدة.
ولعلّ أكثر ما يثير الإعجاب في هذا المشروع،
هو أنه لم يكن مشروع “مسرحي محترف” فحسب، بل مشروع مثقف عضوي بالمعنى الغرامشي للكلمة،
مثقف رأى في المسرح وسيلة لإعادة بناء العلاقة بين الفرد ومجتمعه، بين القول والفعل، بين الجمال والمسؤولية.
لقد شكّلت هذه المحطات – وإن اختلفت موضوعاتها – نسيجًا متماسكًا من المبادئ والمواقف،
نسيجًا ظلّ وفيًّا لثلاثة أبعاد مركزية:
البعد القيمي: حيث لم يُقِم الرجيب مشروعه على منطق الإنجاز الكمي أو الرمزي، بل على منطق المعنى، فاختار التواضع على الأسبقية، والانضباط على المجاملة، والرسالة على التصفيق.
البعد المؤسسي: فقد سعى إلى نقل المسرح من حافة النشاط إلى قلب البنية، مؤمنًا أن الفن لا يصمد إن لم تُؤسَّس له الحاضنات، ولا يتجذر إن لم يُصغ وفق منطق التراكم لا اللحظة.
البعد المستقبلي: حيث لم يكتب الرجيب للمسرح كما هو، بل كما ينبغي أن يكون؛ لذلك بدت رؤاه – في التربية والتأسيس والبنية – أشبه بما يُكتب في زمن يسبق زمنه، لا زمن يصفه فقط.
ولذا فإن استعادة الرجيب، اليوم، لا تعني رفعه إلى مقام “الرمز المنجز” فحسب، بل إلى مقام “السؤال المؤجَّل” أيضًا:
ماذا فعلنا بما بدأ؟ كيف نعيد تحويل الممارسة المسرحية من أداءٍ موسمي إلى مشروع؟
وكيف نستخلص من تلك الأحلام – التي لم تُطفأ، بل تُركت – ما يعين على استئناف الوعي لا إعادة التكرار؟
نعم، لقد غاب الرجيب من المشهد الجسدي إلى الخلود، لكنه لم يغادر بعد من الهياكل التي ساهم في تشييدها، ولا من المفاهيم التي بثّها في بنيتها.
فقد ترك لنا ما هو أعمق من الإنجاز: اتجاهًا، رؤية، وشعورًا أخلاقيًا بأن الفن لا يكتمل إلا حين يغيّر من يتلقاه.
ولعلّ أنبل ما يمكن أن نفعله، بعد هذه الوقفات،
هو أن نكفّ عن استهلاك اسمه كشاهدٍ مكرور على البدايات،
وأن نبدأ في تداوله كإمضاءٍ دائم على سؤال: إلى أين ذهب المسرح عقب أن غادرتنا هذه الأرواح الرهيفة… ومن نحن بعد أن رحل أحد أهم حملة مشاعل التنوير؟


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى