باسمة العنزي: سالم الصقور.. وأطفال القبيلة المهزومة.
باسمة العنزي★
“تعودت على تربية الخسارات الفادحة في كل محاولاتي السابقة، أعيد تأهيلها كما يفعل أيُّ بلد يعيد تأهيل جرحى عائدين من الحرب”.
في أثناء تجوالي في معرض الكويت الدولي للكتاب السابع والأربعين لفت نظري على الرف الأوسط كتاب غلافه أسود بعنوان “القبيلة التي تضحك ليلاً”، توقّعته ديوان شعر، فلم أتردد لحظة في اقتنائه، وبخاصة بعد حصيلة كبيرة من الروايات والمجموعات القصصية!
لم يكن العنوان الشاعري سوى لـ”نوفيلا” بديعة صادرة عن دار مسكيلياني لكاتب خليجي -لم أقرأ له من قبل- اسمه سالم الصقور!
“في كل شهر قمري يموت واحد من أبنائي، فينتصب سرادق العزاء في صدري، ولا أحد يشاركني تلك المآتم السرية”.. يبدأ نص الصقور بالعبارة السابقة معلناً ثلاث حقائق، أولها موت الحلم، وثانيها مرارة فقدان الأمل، وثالثها سرية مشاعر الأسى، تلك المشاعر التي بإمكان الراوي على امتداد الصفحات أن يحدثنا عنها متهكماً وهو يحاول -مثل نسر عاجز عن الطيران- أن يواجه ثورتها في أعماقه، فكتمانها أشد إيلاماً من نزول الجبل بساق مكسورة!
يقول زيجمونت باومان: “الأطفال من بين أغلى الأشياء التي من المحتمل أن يشتريها المستهلك العادي خلال حياته كلها”، لذا استمرت معركة الإنجاب خمسة عشر عاماً دون كلل مع مرورها بالطب والشعوذة وحيل الموروث.
تأتي فكرة هذا العمل المختلف لتناقش مفهوم الأبوة الغائبة لرجل قبلي ووحيد في مجتمع شرقي يقدس فكرة العائلة الممتدة والقدرة على الإنجاب، وأن يتحول الفرد إلى غصن يموّل القبيلة بما تحتاجه من أفراد.
أليست القبيلة بنكاً اجتماعياً يلزمه ميلاد أطفال جدد لبقاء شجرة العائلة ذات الجذور الضاربة في العمق؟
زمن الرواية يوم واحد من شهر أغسطس عام 2022، والمكان ممرات المستشفى في قرية جنوبية، وطريق صحراوي لا يكتمل بين نجران والرياض.
تلد زوجة البطل مبكراً طفلة غير مكتملة النمو، تتأرجح بين الموت والحياة، يعيش الأب ساعات مفخخة بالترقب، معتلياً عرش خيباته، منتعلاً خطاه المبتورة، فإعلان أبوته مؤجل رغم الأمل، والحدث الأهم في يوم البطل يتمدد بين القلق والعجز.
“أحياناً تضطرنا الحياة إلى أن نختار بين خسارتين، وإلى الآن أتمسك بخسارة واحدة هي الأقل إغراءً بين الخسارتين”.
وما بين ممرات المستشفى إلى خارجها تدور حياة “علي بن سعدي” في فلك عيادات الإنجاب والوعود الكاذبة وشماتة القبيلة! يغوص البطل في ذاته مستعرضاً تاريخ خمس عشرة سنة من الأبوة المسلوبة والإرث العائلي الثقيل.
مع الحرمان تبدو جنة الأبوة البعيدة وكأنها خطوة الخلاص الأخيرة، رغم إدراك البطل أن الخسارات والمخاطر أشد وطأة في عالم الأبوة المبني على التضحيات والالتزام الدائم.
“شدة الوضوح تجعل الحياة مخيفة وصريحة أكثر، ثمة قطعة ناقصة وغامضة دوماً في هذه الحياة، وعلينا البحث عنها بشرط أن لا نعثر عليها”.
عمل يتحدث عن الخسارات وغريزة البقاء، وعن صفعات وقبلات الحياة، وعن الرغبة والزواج كلغز كوني معقد التركيب، وعن قسوة انتظار اللحظات الحاسمة!
“يحدث أن تمنحنا الحياة صفعة وقُبلة معاً، وكل ما علينا أن نحتفل بالقُبلة مع الجميع، ونعالج الكدمات وحدنا”.
لغة الصقور الشعرية حلّقت بالعمل بعيداً، فالحس الساخر على امتداد الصفحات، وإجادة وصف المشاعر الإنسانية في جميع تحولاتها النفسية، مع البعد عن الاسترسال والنمطية.. كل هذا منح القارئ فرصة الإنصات الجيد لكل ما رغب الكاتب في تمريره عن مواضيع شمولية تناقش غريزة البقاء وسلطة القبيلة وهاجس الموت وهشاشة الواقع.
بعد انتهائي من قراءة العمل استغربت أنه عمل الصقور الأول! عادة ما يكون ذلك مؤشراً جيداً لأننا أمام موهبة أدبية ناضجة تخطت الكثير من المراحل وهفوات الكتابة، وفي نفس الوقت يرهق الكاتب بارتفاع سقف توقعات القراء الذين بالتأكيد سينتظرون عمله القادم ولن يخمّنوا أنه ديوان شعر ولو كان بغلاف أسود وعلى الرف الأوسط!
★كاتبة ـ الكويت.