شيماء مصطفى: “بريد الليل” لهدى بركات.. حميمية الرسائل الورقية في عصر الرسائل الرقمية.
شيماء مصطفى ★
لعبت هدى بركات في البناء السردي لبريد الليل على ثيمة جوهرية داعبت بها قلوب القراء، تمثلت هذه الثيمة في كون الرسائل الخمس ورقية في عصر الرسائل الرقمية، فجعلت أنفك يلتقط رائحة الورق، يسكن في ذاكرتك اصفراره، تلامس أصعابك أوراق الرسائل المطوية، وتحمل سلة المهملات بجوار مكتبك عشرات الرسائل الممزقة قبل الوصول للنسخة الأخيرة.
فرسمت لك في مخيلتك تكوينًا بصريًّا متكاملًا أشبه بالكادرات السينمائية الأوربية.
كما جعل الورق الرسائل مفعمة بحميمية شفافة تُتيح بوحًا شعوريًّا مُحببًّا ومبالغًا فيه، ونوعًا من المُكاشفة التي تفاقم الأمر فتزيده غموضًا.
وأما عن كونها ليلية فقد اتسق ذلك مع عنوان الرواية (بريد الليل) فهي لا تصل لأحد، فضلًا عن هاجس أصحاب الرسائل أنهم بين أنياب المراقبة، ورسائلهم حتى وإن وصلت فإنها تقع بيد أي شخص غير المرسل إليه، فأصبحت الرسائل أحادية الطرف.
« لن أرسل إليك بالبريد طبعًا، سأجد طريقة أعطيك إياها، أو أدسها لك في زيارتي التي أنوي القيام بها في سجنك..»
وقد حمل مراسلو بريد الليل على عاتقهم عبئًا ثقيلًا، من خلال إحساسهم بالأمانة المفرط على رسائلهم، وللمفارقة فإن أمانتهم هذه تسببت في أن تظل بعض الرسائل إما حبيس الأدراج، أو أنها تقع في يد الشخص الخطأ.
«ندمت على نسيانها في جيبي، كأني فرطت في أمانة غالية، على الرغم من معرفتي بأن إيصال هذه الرسالة كانت شبه معدومة،…..»
وقد مزجت هدى بركات في (بريد الليل) بين نوعين من الأدب: أدب المراسلات وأدب المهجر، دون أن يؤثر ذلك على القارىء، ودون أن يحدث ذلك خللًا في بنية النص.
أما بخصوص الألم عند شخصياتها، فدائمًا ما يحاط بالغموض، كونه يعبر عن خبرات عاشها الفرد في طفولته، ولم يتجاوزها، حتى لو لجأ للحيل الدفاعية كالنقل والكبت، وفي الرواية لم تتجاوز الشخصيات في رسائلهم الخمس هذا الألم، فأصبح الألم انتكاسيًّا تصاعديًّا، لأنه نشب بسبب ترسبات نفسية طفولية مرتبطة بعلاقاتهم الأسرية، فلازمهم الشعور بالذنب، وكنوع من جلد الذات لشخصيات رواية بريد الليل فإنهم من حين لآخر يستدعون هذا الألم، وبرغم محاولاتهم في التحرر عن طريق البوح والكتابة، أو طريق الاسترخاء، أو المحاولات المستميتة للتعايش معه وضبط السلوك، إلا أن المحاولات تبوء بالفشل.
« لم أعد أبالي بالآلم»
على المدى الطويل، وبالتتبع لتاريخ الشخصيات في بريد الليل، ستكتشف ثمة احتراق نفسي تمثل في تبلد المشاعر لديهم والشك في قيمة العلاقات الاجتماعية والحياة، فأصبحت الوحدة رفيقتهم، حتى الحنين رغم بهاء حضوره، إلا أنه كالمسكنات الدوائية تعالج العرض لا المرض، فعلى لسان المرأة في الرسالة الثانية:
« يُجَمْل الحنين الأشياء التي لا تُستعاد»
شكل الهروب لدى شخصيات هدى بركات في بريد الليل نوعًا من التمرد على المألوف، فعادةً ما يهرب الأشخاص من قبح الواقع لعالم الخيال، أو من مكان لآخر، فرغم المباشرة التي ربطت بين جميع الشخصيات في الرسائل في هروبهم من بلادهم، إلا أن الهروب الأكبر والأغرب الهروب من الذات والألم النفسي للوجع الجسدي.
اعتمدت هدى بركات في البنية السردية على التورية، تذكر شيئًا وتريد آخر، تذكر الألم النفسي وتريد الألم العضوي، تذكر الجسدي وتريد الروحي، تذكر الهروب لمكان وتريد الهروب من الذات، تذكر الدفء الحراري وتبحث عن الدفء الروحي، وفي الحالتين فإن المذكور والمراد لا غنى عنهما، فعلى لسان إحدى الشخصيات:
« لم يكن بيتها بيت أثرياء، ولكن بالنسبة لي، كان الدفء أعلى درجات الفخامة».
وقعت معظم الشخصيات في بريد الليل في فخ الغواية، فتجدهم مهمشين، ومستبعدين، منبوذين، يعانون من الفقر والاغتراب عن النفس، والغربة، والتهجير القسري، وتجد بعضهم لجأ للهجرة غير الشرعية، ستجدهم ضحايا وجُناة في آن واحد.
« أخي، أنا لم أقتل أمي، ولا تلك المرأة، تركتهما تموتان، ..»
« أنا قتيلة أمي، وأنا أيضًا ضحية تلك المرأة،..»
شكلت رسائل بريد الليل نوعًا من التطهر لدى أصحابها من خلال البوح بالمسكوت عنه، وقد نجحت هدى بركات في توظيف ذلك من خلال المباشرة.
« أكتب إليك اليوم هذه الرسالة؛ كي أقول لك أنك تعرفني حق المعرفة، وإن لا أسرار بيننا،..»
جاءت الرسائل الخمس في بريد الليل ( من حبيب لحبيبته، ومن حبيبة لحبيبها، ومن ابن لأمه، ومن سيدة لأخيها، من شاب لأبيه) جميعها لتستعيد الألم، والذكريات، فلا تحمل تفاؤلًا، ولا تبشر بلقاء قريب بين الطرفين.
أما عن الملامح الجسدية لكاتبي رسائل بريد الليل، فجميعم بجسد هزيل غادرته النضارة، وبملابس قاتمة أهلكتها كثرة التنقل من مكان لمكان، وبوجوه شاحبة من فرط ما تعمقت بالنظر إلى الشقاء والبؤس، فصورة الذات مشوهة تمامًا في عين الشخصيات.
« كيف غادرني جسد الطفل المحبوب إلى تلك الهشاشة وذلك الالتباس»
ومرجعية هذا الخواء الداخلي للشخصيات حاجتهم إلى التقبل والحب، وتكمن هنا نقطة جوهرية وبؤرة مركزية اشتركت فيها الرسائل بلا استثناء، وهي أنهم يستجدون الحب من ذويهم، ومن جلاديهم في نفس الوقت.
أما السجن، فالسجن داخل المعتقدات والأفكار اللا عقلانية، وسيطرة الهواجس على الشخصيات تجاوزت سجن الجسد وراء الجدران، حتى المطار باعتباره يحوي النقيضين النزول والمغادرة، لقاء الأحبة وفراقهم، دموع الفرح، ودموع الحزن.
تأرجح الجوع في رواية بريد الليل بين الجوع الفسيولوچي الناتج عن نقص الغذاء والفقر والتشرد للشخصيات، والجوع النفسي النابع من التوتر والقلق، والضغط النفسي، والحزن والملل.
مُراقِب ومُراقَب، تفصيلة أخرى جمعت الشخصيات فجميعهم يرتكبون الفعل ونقيضه، ويحركهم الخوف بعشوائية وخطوات غير مدروسة، ولهذا كان مصير جميع الشخصيات في الرسائل مبهم، ولا جنة لهم على الأرض.
اختتمت الرواية بفصل يحمل عنوان ( موت البوسطجي) وهو الفصل الأجمل والأكثر منطقية، ويعود ذلك لأنه أعطى تفسيرًا منطقيًّا جديدًا لعدم وصول الرسائل الورقية لأصحابها، فنجحت هدى بركات في التعبير بإيجاز عن سبب اختفاء حميمة الرسائل الورقية لاندثار مهنة في عصر الثورة التكنولوجية، إضافة إلى العنونة بموت البوسطجي، بدلًا من موت ساعي البريد.
توغلت هدى بركات في بريد الليل الصادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع2017 داخل أعماق الذات للمضطربين، ليتم تتويج هذا التوغل العميق بالجائزة العالمية للرواية العربية 2019.
وقد صدر لها العديد من الأعمال الروائية التي ترجمت لعدة لغات منها: حجر الضحك، أهل الهوى، سيدي وحبيبي، رسائل الغريبة، ملكوت هذه الأرض.
★سكرتير التحرير.