رواية

شيماء مصطفى: “الحزام” لأحمد أبو دهمان.. كما لو كانت قصيدة!

شيماء مصطفى ★

«وطني لو شغلت بالخلد عنه..نازعتي إليه بالخلد نفسي»

                                                 أحمد شوقي.
بعصابة رأس من زهورٍ جبلية تعززُ هويته زينَ لنا الروائي «أحمد أبو دهمان» غلاف روايته (الحزام) ليعلن بشكلٍ صريحٍ ومباشر انتمائه الأبدي لقريته، وليشكل من كلماته سجلًا يوثق تاريخ القرية التي وقفت سامقة كنخلة أمام تقلبات العصر بوجه عام، وأمام العثمانيين بشكلٍ خاص.

قصيدة طللية

تميزت (الحزام) بتعدد البناء اللغوي لشخوصها، فتنوع السرد الحكائي ليتلائم مع البناء الروائي والفترة الزمنية التي تناولتها الرواية، حيث استمد أبو دهمان الوصف من بيئته على الطريقة العربية القديمة من حيث: المتمثلة في الوقوف على الأطلال وبكاء الديار، ووصف الرحلة بسلاسة، فتحولت القرية على يده إلى قصيدة يرددها البدوي والحضري، العربي والعجمي.
فلم ينجرف خلف تيارات التمدن والتحضر، بل حمل على عاتقه قضايا وطنه.

ثمة رابطة خفية بين الحزام لأحمد أبو دهمان، والنهايات لعبد الرحمن منيف، فالصحراء والبيئة القاحلة متواجدتان وبقوة، وثمة تقاطع آخر بين العملين يربط بين شخصية عساف بطل النهايات، وحزام بطل أحمد أبو دهمان.

الدلالة والرمز

شكل السكين والحزام رمزية دلالية للقرية، كرمزية حقولها في العرض والشرف والمروءة، فتمسكه بهم وسعيه للحفاظ عليهم، ما هو إلا تمسك بالوطن وعاداته وتقاليده، فاستطاع أن ينقل لنا بعض الخصال الحميدة التي تمتع بها العربي القديم وتوارثتها قريته من الجود والكرم والشجاعة ونجدة المغيث، فقديمًا كان سكان الحضر يرسلون أبناءهم لدى مرضعات البادية ليكسبوهم قوة البنيان وفصاحة اللسان ورجاحة العقل، فكانت الصحراء بعمقها مصدر قوة وفخر لمن يعيش بها ،حيث شكلت عاملًا للجذب يرتاده الجميع، ولهذا  جاهد أبو دهمان وأهل قريته للحفاظ على خصوصية المكان وآصالته تاركين وراءهم كل الإغراءات ومفاتن الحياة، ربما يعود السبب إلى اعتاديهم على الضمير نحن بدلًا من المتكلم أنا فبدوا للجميع كالبنيان المرصوص.

علاقات متشابكة

بانسيابية شديدة كشاعر يعد مرآة لعصره، وعلى الطريقة العربية القديمة أيضًا نقل لنا صورة حية للعلاقات داخل القرية فتحولت من أسرة نووية لأسرة ممتدة في النسب والجذور، فأخبرنا عن علاقة الابن بالأب فرسم الصورة المثلى لعلاقتهما، وعلاقة الجار بالجار من خلال علاقته بأقرانه وعلاقته بالأب الروحي له حزام، فرغم العوز والحاجة لا تجد من الأب في القرية إلا مجاهدًا يسعى إلى توفير سبل الحياة الكريمة لآل بيته، ولضيوفه حين يحلون.
«أب بلا مال، كبندقية بلا رصاص »

الروائي أحمد أبو دهمان

أهم ما في العلاقات بين الأب والابن تمثلت في التضحية التي قام بها الأب، بالنظر إلى الفترة الزمنية التي تناولتها الرواية حيث الاغتراب والسفر والتعرض لمخاطر الرحلة وقطاع الطرق ومواجهة الموت عشرات المرات من أجل راحة أسرته، تضحية أعظم  للأب الحكيم الذي قضى أغلب سنوات عمره في رعاية الحقول حين أوصى صغيره قبل أن يغادر الحياة
« ليس لك مكان إلا في الكتب، لأن لكل زمان حقوله»

صورة المرأة 

علاقة أخرى وثقها أبو دهمان في روايته، تمثلت في علاقته بأمه، وبرؤية المرأة للمرأة في علاقة أمه وزوجة أبيه ، وعلاقة الأم بالابنة، وعلاقته بأمه، فلم تكن المرأة في عمله مغلوبة على أمرها عكس السائد في الأعمال الأخرى فوجدنا الأم والأخت الحكيمة، الناصحة، الموجهة، الشاعرة، المرأة التي تعرف مسئوليتها جيدًا، الموجهة المرشدة فكانت بالنسبة له مدرسة قبل المدرسة فعلى لسان البطل يقول عن أمه:
« كان يكفيني أن أشم رائحتها، أن أضمها، وأن أربطها في حزامي مدى الحياة»
وهو الذي خصص فصلًا كاملًا في الرواية إلى أخته تحت عنوان (أختي ذاكرتي).

ومثلما اهتم أبو دهمان بالمرأة اهتم بالحيوان فشكل الثور شرفًا لا يمكن التفريط فيه بجانب السكين والخنجر
« كنت أسمع أبي يقول مزارع بلا ثور مثل عازف ناي بلا شفتين»
«لكننا لم نكن بحاجة إلى هذا الخنجر بمقدار حاجتنا إلى الثور، فالثور حياة بينما الخنجر زينة»

الابن البار

رسم أبو دهمان ابن قريته في صورة الابن البار بوالديه، الصغير المسئول عن شرف أبيه وأفراد أسرته، فتجد نفسك متماسكًا كتماسكهم في أثناء الختان، لا تبكي، لا تصرخ، بل تقف راسيًا كالجبل، قوة أخرى تمثلت في الصمود في الاغتراب حين ترك الصغار القرية وذهبوا للتعليم في المدينة، حافظوا جميعًا على العهد، عكفوا على دروسهم، واظبوا على طهارتهم، تجاوز الأمر حد الالتزام فتضمن مسئولية توفير احتياجات الأسرة فترة مرض الأب رغم صغر السن.
« رفع أبي ثوبه أمامي، أطلعني على بقائها جرحه أسفل بطنه، عرفت أنه يعدني لقبول رحيله، أنا الذي كنت أعتقد أن أبي  مصنوع من حجر، أكتشف الآن حقيقة أنه من لحم وعظم»

لم يكن البر بالوالدين وحسب بل شمل كل ما هو بشري وطبيعي فتجد الحزام تحمل اسم الأب الروحي له وذاكرة القرية حزام، وتجد الفصول الداخلية للعمل تحمل عناوين أكثر حميمية وتودد للقرية وأهلها وهي: تراحيب، زوج زوجته، الولي، العالم الآخر، أخواتي ذاكرتي، أسبوع المدينة، قوس قزح، ذاكرة الماء، مدينة السحاب، زمن الجن، الخروف والكاتب، التضحية »
فنجح أبو دهمان من خلال الحزام التي ترجمت لعدة لغات تجاوزت الثمانية أن يجعل قريته قبلة للسائحين، فكتب لها الخلود، ونقل للجميع صورة واقعية صادقة عن حياة لم  يألفوها، ولم يعرفوا بها إلا من خلاله.


★سكرتير التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى