أخبار ومتابعات

كيف يرى عبد الرحمن حلاق “المحرر الأدبي” ؟!


خاص لـ نقدXنقد
ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي، وفي إطار الندوة الرئيسة للمهرجان، والتي أقيمت تحت عنوان “التحرير الأدبي والنشر  في العالم العربي”، شارك الروائي والناقد والمدقق اللغوي عبدالرحمن حلاق، بورقة مميزة، طرح من خلالها رؤيته العملية لدور المحرر  الأدبي، وبدايات ظهوره في العالم الغربي، ومساحات اشتغاله وأبعاد ذلك الاشتغال، مستعيناً بتجربته كفاعل في المشهد الثقافي على مستوى الكتابة من جهة، والتدقيق اللغوي من جهة أخرى، بالإضافة لعلاقته الوطيدة بأبناء المشهد، واطلاعه على تجاربهم، حيث يبدو جلياً في ورقة “حلاق” تركيزه على الجانب العملي المعجون بالأمثلة، مما يجعل مجلة نقدXنقد حريصة على نشر هذه الورقة على صفحاتها، لتكون متاحة للقارئ العربي المأخوذ بالمسميات الرنانة، بعيداً عن الاشتراطات الواجب توافرها لتحقيق تلك المسميات على أرض الواقع، وليتعرف القارئ على معطيات تلك الوظيفة في عالمنا العربي، بكل ما تحمل من تساؤلات وإشكاليات:

أزمة محرر؟ أم أزمة مجتمع؟
بقلم: عبدالرحمن حلاق
لا أعتقد أن ثمة إشكالا بوجود وظيفة المدقق اللغوي، فالكاتب والناشر متفقان تماماً حول هذا الأمر، أما من يتغاضى عنه فأكاد أجزم أنه من ذوي اللهاث خلف الربح إن كان ناشراً أو ممن له موقف من اللغة العربية ويدعو إلى تغييرها بطريقة ما إن كان كاتباً، وتأتي وظيفة المدقق اللغوي دائماً بعد اكتمال بنية النص شكلاً ومضموناً، وقبل الطباعة مباشرة. أما عن وظيفة المحرر الأدبي فأكاد أعدها قضية تشبه قضية تحرر المرأة مثلاً إذ يتفق الجميع على ضرورة نيلها الحرية في الوقت نفسه يتواطأ الجميع على قهرها أو قمعها.
بداية تجب الإشارة إلى أن نشوء هذه الوظيفة أصلاً كان بين أحضان الصحافة في بدايات القرن التاسع عشر، فرضته التطورات والتغيرات المتسارعة على الصعيدين العلمي والاجتماعي حيث بدأت الصحافة تزدهر بشكل لافت نتيجة ظروف موضوعية كثيرة لامجال هنا لحصرها وإذا علمنا أنه في عام 1910 كان يوجد في الولايات المتحدة 2430 يومية وفي ألمانيا 2200 يومية وفي مدينة باريس 60 يومية، نستطيع إذن تصور حجم التنافس العظيم للاستحواذ على القارئ وعلى الرأي العام وعلى السوق التجاري، كل ذلك أدى إلى ضرورة العناية بالمقال أو بصياغة الأخبار وبالتالي ضرورة وجود محررين أذكياء يعيدون صياغة الخبر أو المقال بما يكفل تحقيق الأهداف المرجوة. وهنا يجب أن نضع في اعتبارنا قوة المجتمع القادر على التغيير إن تمّ تحشيده بشكل جيد. والمجتمعات الغربية في تلك المرحلة كانت تعيش بداية أنظمتها الديمقراطية ونستطيع القول عنها بأنها مجتمعات حيّة وفتية. أضف إلى تلك العوامل جميعها العامل اللغوي المتمثل بحيوية تلك اللغات وقدرتها على توليد المزيد من المفردات بالتزامن والاتساق مع الإنتاجية العالية على الصعيد العلمي. وكان أن ولدت فعلاً وظيفة المحرر الأدبي استجابة لتلك التطورات والتغيرات وبطبيعة الحال انتقلت من عالم الصحافة إلى عالم الكتابة الإبداعية وخاصة الرواية، وظهر العديد من المحررين الأفذاذ الذين أسهموا بشكل مباشر في شهرة الكثير من عمالقة الأدب الغربي.


في عالمنا العربي يعتقد الجميع أن أزمة المحرر الأدبي ناجمة أصلاً عن أزمة الثقافة العربية، ويضعون لها بعض الأسباب من مثل جشع الناشر حيناً ونرجسية المؤلف حيناً آخر، ويتغافل الجميع عن ذكر الأزمة الأساس، أزمة المجتمع العربي ذاته والمتمثلة بسياسات التجهيل الذي مورست عليه خلال عشرات السنين السابقة، بالتزامن مع غياب الديمقراطية وحضور سياسات التصحر السياسي التي فرضتها أنظمة الاستبداد، خاصة في الدول التي كانت سابقاً تمثل المركز بسبب عمقها الحضاري وأقصد مصر وسوريا والعراق، ، نجمَ عن ذلك كله غياب احترام الرأي الآخر. بمعنى آخر، سُلبت الإرادة من المجتمع فغابت الصحافة المؤثرة، وغاب الأدب المؤثر، حتى أننا مازلنا لا نسمع صدى لصرخات الكثير من المفكرين الكبار، فبقيت وظيفة المحرر الأدبي في عالمنا العربي حبيسة الصحافة، وذلك لغياب العوامل المنتجة لها أصلاً، ولم نسمع بضرورة تبنّيها في دور النشر إلا حديثاً، وبسبب الانفتاح الهائل الذي أحدثته شبكة الانترنت العالمية. فكان لابدّ من استيرادها كأحد المنتجات الثقافية الغربية كما استوردنا مدارس النقد الأدبي ومدارس الفلسفة والفكر.
وكأي منتج مستجد سيتمّ استقباله إما بالرفض التام أو بالقبول التام وسيتدخل الموضوعيون لإبراز الجوانب الحسنة فيه ويعملون على دمجه وبشكل توفيقي في معظم الأحيان. وقد عُقدت في عديد من الدول العربية المؤتمرات الخاصة بذلك.
وبغض النظر عن المواقف المسبقة، يمكننا القول: إن وظيفة المحرر الأدبي يمكن لها أن تحقق قيمة مضافة يستفيد منها الناشر والكاتب معاً شرط أن تتوفر لها الشروط الموضوعية والتي يمكن أن نجمل بعضها في:
1_ وجود ناشر يتطلع حقيقة إلى إنتاج كتاب على أكمل وجه. من حيث جودة الإنتاج المادية وقيمته الفكرية والفنية.
2_ وجود كاتب يتقبل النقد، ويمتلك القدرة على تنحية نرجسيته قليلاً، ويؤمن بالرأي الآخر.
3_ وجود محرر يتصف بثقافة واسعة، وموضوعية تمكنه من تنحية أفكاره الخاصة أو أيديولوجيته الخاصة والتعامل مع النص بمنتهى الأمانة والحياد، زيادة على ذلك يمتلك رؤية نقدية تمكنه من كشف مواطن الخلل دون الاعتماد على ذائقته الخاصة.
4_ وجود مجتمع قارئ قادر على التفاعل البناء مع الكتاب. وإبداء الرأي المستقل بعيداً عن سلطة الإعلام، خاصة الإعلام الذي لا يحتفي إلا بأصحاب الجوائز رغم جميع إشارات الاستفهام حولها.
مع ذلك يبقى لدينا مشكلة أظن من الصعب على أحدنا أن يجد لها حلاً وتتلخص في مجمل العواطف والمشاعر والآلام التي يعيشها الكاتب مع نصه وشخوصه وأفكاره. هل يستطيع المحرر أن يتمثلها بأمانة ويحافظ على حرارتها. وإذا كان الكاتب من أصحاب الفكر المتقد والآراء التي تتجاوز المألوف فهل بإمكان المحرر الأدبي أن يضع جانباً متطلبات السوق وما يريده الجمهور؟ فهو بالمحصلة موظف عند الناشر والناشر في الغالب الأعم ينظر إلى الكتاب على أنه سلعة ويريد لها الرواج. ماذا لو تعارضت شروط السوق مع رؤية الكاتب وهنا نحن لا نتحدث عن نرجسية الكاتب بكل تأكيد إنما رؤيته الفكرية التي يتجاوز فيها المألوف، ومن حقه الدفاع عنها بشكل تام، ولعل هذه المشكلة من أكثر المشاكل تعقيداً بين المحرر والكاتب.
مع وجود كل هذه الشروط، هل نستطيع استخدام هذا المنتج كما هو معمول به في الغرب، إذ يبدأ عادة عمله بعد انتهاء العملية الإبداعية لكن الأمر مختلف لدى كبريات دور النشر الغربية التي تتعامل مع أسماء إبداعية مكرَّسة، ففي هذه المؤسسات يقوم المحرِّر الأدبي بوظيفته أثناء انشغال الكاتب بعمله، أو بالتزامن معه، فيرافقه أثناء عملية الكتابة، يقرأ الفصول أولاً بأول، مقدِّماً مداخلاته واعتراضاته، ضمن مراجعة نقديّة «تشريحية» تسعى في المبتدأ على أن يظلّ الكاتب على «الطريق» أو المضمار التعبيري الذي يستلزم انسجاماً وتكاملاً وتواصلاً واستمرارية في الرؤى والأفكار والتصوّرات. وفي بعض الحالات، قد يرافق المحرِّرُ المؤلّفَ منذ النواة الأولى للعمل؛ أي الفكرة وتجلّياتها، في تعاون قلّما نجده في صناعة النشر الحالية، ذلك أنه يستدعي التزاماً مطلقاً من المحرِّر للعمل الإبداعي، كما يتطلّب انصياعاً شبه تام من المؤلِّف لآراء محرِّره.
هذه الطريقة المتبعة في مؤسسات النشر الغربية بكل تأكيد تحقق نجاحاً مبهراً وأعتقد أن أكبر دليل على صحة منهجيتها رواية ساق البامبو الحائزة على جائزة البوكر العربية للكاتب سعود السنعوسي فقد خضعت الرواية لمتابعة دقيقة صفحة صفحة لمراجعة من قبل الكاتب الراحل إسماعيل فهد إسماعيل كما صرح بذلك الكاتب نفسه في حفل تكريمي أقيم له بهذه المناسبة.
في هذه الحال هل من الإنصاف وضع اسم واحد على العمل الإبداعي؟ أم أن العمل أصبح تأليفاً مشتركاً؟ وهل يستطيع هذا الكاتب “المكرّس” النوم بضمير مرتاح على أنه مؤلف عمل قد لا يتضمن أكثر من بضعة أفكار يطرحها؟
وعندما يعرف القارئ أن هذا العمل الذي بين يديه قد مرّ بهذه المراحل. هل سيبقى على قناعته بأن هذا الكتاب من إبداع هذا الكاتب؟ هل يمكن القول إن آرنست همنغواي أو خالد الحسيني كاتب عظيم ؟ ألم يُنتج المحرر الأدبي جانباً من هذه العظمة؟
يمكن لهذا الأسلوب من التعامل أن نجده في ورشات الكتابة السردية، تأخذ بيد المبدعين الشباب ريثما يمتلكون تقنيات الكتابة واللغة بشكل جيد، أو نجده على شكل تعاون بين كاتبين على سبيل التجربة في التأليف المشترك، أما أن يُمنح الكاتب تكريساً أو قوة دفع لاستمرارية التكريس بهذه الطريقة فدعونا إذا نعيد النظر بالعملية الإبداعية برمتها قبل أن يُطالب تجار الفن التشكيلي بمحرر فني وتجار الموسيقا بمحرر موسيقي. وكل ذلك من أجل السوق بحجة (الجمهور عاوز كده)
لقد راجعت الكثير من الروايات لأصدقاء مبدعين وكنت حريصاً جداً في حال إعادة صياغة بعض الجمل أو الفقرات أن أحافظ على المستوى اللغوي في النص وقدر استطاعتي أتمثّل الخصوصية اللغوية للكاتب. أما فيما يتعلق بالترهل أو الحشو فهذا مما لا تساهل فيه، يبقى الأهم من هذا كله تنامي الخط الدرامي وتوزع الذروات التي تحافظ على عنصر التشويق وكانت هذه الخطوة تأخذ سجالات مطولة قد يقتنع الكاتب بها أو بجزء منها وقد لا يقتنع ففي المحصلة وطالما أن العملية الإبداعية فردية خاصة في فنون الكتابة والرسم والموسيقى فتبقى الكلمة النهائية حسب تصوري للكاتب وحده، فالعمل الإبداعي سيحمل اسمه فقط، وبالتالي عليه العمل على ذاته مطولاً تثقيفاً وتنوراً وتجربة حياتية غنية. بهذا فقط يمكن أن يُقنع الجمهور. أما أن يخضع لمتطلبات السوق وشريعة الربح والخسارة فهذا أمر آخر يمكن أن يجعل من طالب في المرحلة الثانوية روائياً.
في عالمنا العربي يقوم الكاتب غالباً بدور المحرر إذ لا يوجد كاتب يتوقف عند كلمة ” تمت” إلا بعد مراجعات مطولة واستئناس بأكثر من رأي ومناقشات مطولة ولا أعتقد بوجود كاتب لم يقرأ على سبيل المثال كتاب ماركيز ” كيف تحكي حكاية” أو يطّلع على ورشات السيناريو التي تحدث عنها الكاتب ذاته .


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى