شيماء مصطفى: (104 القاهرة )لضحى عاصي..لعنة أن تكون مغلفًا بالذكريات..
شيماء مصطفى*
“الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره؛ليرويه”
عبارة مُلهمة استهل بها غبريال ماركيز سيرته الذاتية (عشت لأروي) ترجمة الراحل صالح علماني، تحمل العبارة تأويلات متعددة، هل يقدم ماركيز عصارة خبرته وتجاربه كراوٍ عالمي للمهتمين بالرواية وصناعة الحكايات! أم أنه يُقر بحقيقةٍ لإنسانٍ عادي اكتشف أنه يتميز بالقدرة على ترجمة ما يدور في رأسه ؟ هل كان ماركيز نفسه الزائر الليلي الذي يتسلل إلى انشراح بطلة رواية 104 القاهرة للروائية المصرية ضحى عاصي فيتلو عليها ما يروق لها من الحكايات؟ وإن لم يكن ماركيز فمن يمكنه أن يفعل كل هذا برأس امرأة توقفت دراستها عند المرحلة الإعدادية ؟
بنوعٍ من الغموض، وبمزيدٍ من التشويق، عنونت ضحى عاصي روايتها الأولى 104 القاهرة، الصادرة عن دار دون، فتظل حتى آخر لحظة تحاول معرفة إلام يشير العنوان، هل لشارع؟ أم أتوبيس نقل الأحياء من حي لآخر؟ ولكنك لن تكتشف ذلك إلا في النهاية، فما هي إلا سيارة نقل الموتى إلى عالمهم الآخر، حيث التحرر من الخوف مثلما أخبر الزائر الليلي انشراح.
تواصل غير سوي!
الحاجات المشبعة يتبعها اتزان فسيولوچي وسيكولوچي، والأنثى حين تكون على دراية باحتياجاتها ولم تشبعها، فإنها تظل تبحث طوال حياتها عما تحتاجه لتلبيه حتى وإن تورطت في علاقات غير سوية لا تتسق وتطلعاتها.
نجحت انشراح عويضة في إقامة تواصل روحي ونفسي مع ذاتها،وفي التواصل الاجتماعي مع الآخرين جدتها نرجس وآرام أنوش، أغافني، ناهد الزريقي، منال، غادة، أشرف الدمرداش، عادل هيدرا، وغيرهم، لكنها أخفقت في التواصل السوي مع جسدها فحتى بعد وفاتها رأت جسدها من منظور إبراهيم وحسن .
“أحيانًا تتمنى أن تخلع جلدها، وتلقي به في أقرب بالوعة”.
” ماذا أفعل في هذه الكمثرى حتى أملك قوامًا فرنسيًا؟ كرهت البدلة الفرنسية التي لا تناسبني، أبدو فيها مضحكة”.
الزائر الليلي!
كانت تلك الإشارة التي لم تنتبه لها، كان ينبغي عليها أن تدرك أن إبراهيم لن يعود، لكنها تجاهلت الإشارة، وأهدرت سنوات وسنوات في انتظار جودو” إبراهيم.
حتى عندما جاءتها الرسالة مباشرة من الزائر الليلي بأن تتخلص من ذكريات الماضي ومن إبراهيم، وألا تهدر الباقي من عمرها في اعتبار المستقبل هو الخلاص،وأنه قد آن الآوان لتعيش حياتها، ذهبت لتتزوج من أول رجل طرق بابها،إلى حسن، الذي يصغرها بعشر سنوات، قادها اللاوعي لهذه الزيجة غير الموفقة كمحاولة لإثبات أنوثتها، وأنها ما زالت مرغوبة، ومِنْ مَنْ؟ من حسن ابن شقيقة إبراهيم حبيبها الغادر،حسن الذي يقضي أغلب وقته على القهاوي ، متهربًا من مسئولياته وديونه بأكذوبة امتداد نسله لحسن طوبار، البطل الذي ذُكر في مذاكرت نابليون بونابرت، وأخفق الچينرال ڤيال في اجتذابه لصفوف الحملة الفرنسية.
فكل ما تفعله لتثبت أنها تعافت من علاقتها بإبراهيم، يبرهن العكس تمامًا، حتى حسن لم تكن في نظره غير كتلة من اللحم.
“كيف أتخلص من الكمثرى؟ حقًا لا تناسبني، لم أخلق لها ولم تخلق لي”.
“انشراح بنت الكلب، عاشرها حوالي ثلاثين عامًا لم ير فيها غير كتلة من اللحم متكورة، تقترب من الأرض، وترتدي السواد”.
حسن مدمن الأفلام الإباحية والعادة السرية، حسن الذي لم ينظر لها كمرأة، بل كتلة لحم.
ناهد الزريقي هي الآخرى وقعت في هذا الفخ، حين هجرها زوجها الوصولي مجدي الليموني تواصلت بشكل خاطىء مع جسدها، ألقت عليه السبب، اعتقدت أنه لم يعد مثيرًا بالدرجة الكافية ليقيم مجدي الليموني في كنفها،ولهذا خرجت أمام الجميع عارية تمًاما،كمحاولة يائسة لإثارة أي رجل حتى لو كان سائقها”.
ناهد التي عالجتها انشراح بالوهم حين جعلتها تقضي ليالٍ سرية رفقة جن عاشق اسمه شهاب.
صحيح أن انشراح كان غرضها أن تزيل كل ما يدور برأس السائق والخدم من تأويلات حول سبب خروج ناهد الزريقي ابنة أستاذ القانون أو ترزي القانون كما يدعون،والسيدة المعروفة بكمال عقلها وحسبها في الأوساط الراقية، فادعت أنها ممسوسة من جن عاشق، جعلت ناهد نفسها لفترة تقتنع بذلك، بأن هناك رجل من عالم آخر يريدها، فوقعت هي الأخرى في فخ ممارسة العادة السرية.
غادة ابنة الجامعة الثائرة، هي الآخرى، رغم محاولات عادل هيدرا الكثيرة للزواج منها،ورغم استعداده التام للتضحية من أجلها، تناست كل ما تملك من قوة، وطلبت من انشراح أن تصنع لها عملًا مثلما صنعت لمنال، لعل حاتم يكف عن لهاثه خلف منال لتقبل بالزواج منه،مضحيًا بكل ما قضى سنواته في اقتناصه: زوجته وأولاده، سُلطته ومنصبه، ماله وعلاقاته، تزوجها عرفيًا وهي ابنة الجامعة، والثائر أمين عبد الله، ارتضت أن يكون زائرًا ليليًا يرتاد شقتها حين يريد قضاء حاجته، وجاء هو الآن خلف منال التي تستبدل الرجال كما تستبدل الأحذية، فشلت غادة هي الأخرى في التواصل السوي مع جسدها،حين ظنت أنها ليست بالجمال الكافي الذي يجعل حاتم يتزوجها في العلن.
منال نفسها فشلت في ذلك حين أرادت أن تنتقم من طارق الرجل الأول في حياتها،الزوج الذي تنازل بسهولة عن زواج ادعى أنه قائم على الحب مع أول وشاية من أمه ليلى وأخته هدى،فبدلًا من أن تنفي تهمة الخيانة عنها،ظلت لشهور حبيسة بيت انشراح،وحين قررت انشراح مساعدتها تحولت لساقطة تضاجع الرجال.
حتى ليلى رغم تسلطها وسيطرتها الدائمة على الحاج سيد عويضة إلا أنها دائما تشعر بأن انشراح تشاركها زوجها مشاركة من نوع آخر،فكانت تجاهد طيلة الوقت، وتنهال على انشراح بالاتهامات، تخرجها من المدرسة بحجة مساعدتها في أعمال المنزل، تصحبها لدجال في المقابر،تدعي أنه ليس الابن الشرعي لعويضة وأنه ليس بشقيق لانشراح، ترحل بزوجها إلى المعادي بعيدًا عنها،كونها لم تكن في نظره السيدة الأولى،ورغم كل محاولاتها المستميتة حين شعر بدنو أجله لم يجد غير بيت انشراح شقيقته.
نرجس الجدة هي الأخرى، لم تختلف عنهن كثيرًا، فحين أرادت أن يحصل جسدها على اللذة والنشوة لم تجدها إلا في حك جسمها بالحجر.
“تدعك جسدها بالحجر، تستمتع ساعات وهي تجلس،تصل إلى النشوة وهي ترى جلد جسدها باللون الأحمر الوردي.”
حياة المناديلي أم انشراح حين احتاج جسمها لتلك النشوة، حصلت عليها من دجال، واهمة ابنتها انشراح أنها تضحي من أجلها.
“تسارع الأم:انشراح لسة بنت، ودي مرات ابني ما يصحش، اخرجي يا انشراح أنتي وليلى.”
بيت شفاء أم ضريح؟
قدمت انشراح كل سبل الدعم في حدود قدراتها لكل مريديها، مرة بالوهم وتكنيك العلاج السيكو درامي دون أن تشعر كما فعلت مع ناهد لتفريغ المشاعر السلبية المستحوذة عليها، تارة تستخدم المنطق وصوت العقل مع غادة حين أخذتها إلى جروبي وذكرتها بما يميزها والقوة التي تمتلكها فلا يليق بها أن تفعل معها ما فعلته مع منال،مرة أخرى مع منال حين ساعدتها بوصفة من وصفات نرجس لتتعافى من حبها لطارق،حتى حاتم حين أراد أن يتعافى من حبه لمنال،ورغم ما فعله بغادة،إلا أنها قدمت له الدعم والمساندة، فكل مرة تنوع انشراح في طريقةالدعم، فتحول بيتها مع الوقت لملاذ آمن للجميع، تجيد انشراح مهارة الإنصات كما تمتلك قدرة استثنائية على تقبل الآخر بصرف النظر عما يشوبه من آثام، وهذا ما جعلها مميزة في عين الجميع.
خاضت انشراح وكل من معها رحلة شاقة للوصول إلى التصالح مع الذات والنبش داخلها، من أجل الوصول إلى السلام النفسي، والتعايش مع الألم.
رحلة العهد من الجد إلى غادة.
انتقل العهد من نرجس إلى انشراح، وحين شعرت انشراح بدنو أجلها نقلت العهد وما لديها من وصفات جدتها نرجس،ومذكراتها الشخصية لغادة، نقلت العهد لغادة دون غيرها لأنها الأكثر تماسكًا والأكثر عطاءً،الوحيدة التي لها مريدون، لامنال، لاناهد، ولا حتى شيماء ابنة انشراح، الوحيدة التي اتخذت من صالة انشراح الضيقة حلقة لمحو الأمية للكثيرين من أبناء المنطقة دون مقابل لدرجة أن منال سخرت منها واعتبرتها تهدر وقتها، الوحيدة التي تعاملت معها انشراح بصوت العقل حين أوشكت على فقد صوابها،لا منال،لا ناهد،ولكن السؤال الأهم عن من أخذت نرجس العهد؟
أخذت نرجس العهد من زوجها جد انشراح، حين قال لها:”عاهديني..” ومات قبل أن يكمل جملته، صحيح أن نرجس أخطأت حين فسرت عهده على أنه عهد بعدم الزواج من رجل بعده، لدرجة أنها كانت تحصل على نشوتها من حك جسمها بالحجر،لكنها دون أن تشعر كانت على عهده ووعده قدر استطاعتها.
الوادع الأخير.
حتى بائعة الورد تنتظر أن يهدي أحدهم لها وردة،فانشراح التي تطبب الجميع،وصفات لهذه،ونصيحة لذاك، وصفةًلمنال، واحتواءً لناهد، إفاقةً لغادة، وطبطبةًلحاتم، جاءها في النهاية أشرف الدمرداش، لتتماثل الشفاء من جُرح إبراهيم، وسلبية حسن، جاء كالدواء الشافي لتصالح بقبلته أيامها،وتسامح بحبه الزمن.
جاء أشرف ليرسل لها رسالة ورقية في عصر الرسائل الرقمية،ليعود بها إلى الوراء فتشعر أنها ما زالت فتاة جميلة لم تكبر بعد.
جاء مشهد العزاء في عمر مكرم بحضور الجميع من رجال السياسة والمشاهير لوصف واقع مرير،ليس لأننا لا نعرف قيمة الراحلين إلا بعد وفاتهم، وليس لأننا لا نعاديهم في حياتهم،وحين يرحلون نتسابق على وضع الزهور فوق القبور،وكتابة النعي على المواقع الإلكترونية المختلفة وتتلقى العزاء كما لو كنا بجانبهم حتى لحظاتهم الأخيرة، وإنما لأخذ اللقطة،والظهور لأغراض سياسية.
ولأن الحب قوامه تواصل ناجح لا ينتهي بالوفاة، كان أشرف الأكثر تواصلًا مع انشراح لا حسن ، لا إبراهيم ، فعزف لها سمفونية التكريم بناءً على رغبتها.
ضحى عاصي ..المرأة التي تنسج الحكايات.
إذا أردنا أن نوصف ضحى عاصي بعد هذه السيمفونية المدهشة 104 القاهرة، فيمكننا أن نقول أنها حكاءة بامتياز ، تحمل في جعبتها السردية المثير من الحكايات، نقلت لشخوصها هذه القدرة فحسن زوج انشراح رغم حضوره الباهت إلا أنه استطاع أن يقنع الكثيرين بأنه من نسل حسن طوبار، انشراح رغم أنها ساعدت كل من لجأ إليها بالوهم -في حدود قدرتها-إلا أن لحكاياتها ومذكراتها حضورٌ طاغٍ، آرم أنوش ونرجس ساهمت حكاياتهما في تشكيل الجانب الوجداني لدى انشراح،بينما الكتب التي ربطتها بإبراهيم شكلت الجانب المعرفي لديها.
المتعمق في الرواية سيكتشف بناء أدبي اختلط فيه الغموض بالميتافيزقيا بطريقة غير متكلفة، سيجد تحولات درامية للكثير من الشخوص في رحلة وصولهم للتصالح مع الذات، وفي رحلة التحرر والتعافي من الخواء الداخلي،ثمة سرد سياسي مقنع تمثل في هجرة آرم أنوش وأغافني،وموت هاجوب قبل مغادرته مصر، سيجد سردًا متحررًا من التوثيق التاريخي والسياسي لكنه في الوقت نفسه مرآة لتلك الفترة وتأثيرها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي،ومع فتح الباب على مصراعيه للاستيراد.
تماسك البناء الأدبي للرواية، وتماسك الخطوط الدرامية للشخصيات بها يجعلها صالحة للتحول إلى عمل درامي مميز، على غرار رواية ذات للكاتب صنع الله إبراهيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقدة – مصرية