د. علي العنزي★
يستدعي الحديث عن السيرة الاجتماعية لعديمي الهوية، وقفة عند نمط اجتماعي ثان من أعمق المظاهر الروائية الكويتية وأقواها، بوصفه يطرح آراء وتصورات وأنساقاً ثقافية تطبعها الرغبة في الانفتاح على قضايا اجتماعية لها صلة متينة بالحياة، وهي سيرة “المنفى الاختياري” في السرد الكويتي.
نبدأ الحديث بالقول إنه بعد أن عرف جمهور القراء د. سليمان الشطي في حقبة السبعينيات ناقداً أكاديمياً، ثم كاتباً قصصياً، انبرى الشطي في روايته المحكمة الصنع “صمت يتمدّد”،[1] لتصوير حكاية متوارية خلف عباءة الوضع الاجتماعي للمرأة، لا تخلو من بعد أو مغزى اجتماعي، طارحاً إشكالية الارتحال عن الوطن وعدم العودة إليه.
يلفي المستقرئ لمتن الرواية – الممتد من أواخر الأربعينيات حتى منتصف الثمانينيات – نموذجاً بشرياً، لشخصية مأزومة تعاني من صراع الذات؛[2] إنه صالح المضطر للانسحاب من نشاطات الحياة، مهاجراً إلى رحابة أوروبا، للارتحال طوعاً نحو منفاه، بعد أن تعمقت أزماته، واكتشف أن لا غنى له عن الإعراض الاختياري عن الحياة.
احتشد السرد عند الشطي بالتنوع والتطوف في غابة زاخرة بالطبائع والمناخات الفردية، إذ يرتبط بطل الرواية صالح مع والدته بعلاقة مثخنة بالجراح. تهجر الأم ابنها منذ كان في الرابعة عشرة من عمره، قصاصاً لمباركته جريمة إزهاق روح شقيقته مريم على يد أخيه الأكبر عيسى، تحت مسمى “الثأر لشرف العائلة”. ثمة أم كليمة تدخل منزلها ذات عصر، فيبدأ السرد المتسم بقدر كبير من الجراح والعمق والجدية بصيحتها: “فعلتوها يا سفلة”.[3] كان موت مريم شبيهاً بالخيانة. فغر الرحيل في داخل الأم فجوة، نثرت نبوءات تومئ إلى نكبة في المنظومة الإنسانية؛ نفت الأم أولادها خارج قلبها حتى الممات؛ لقد منعت أمومتها عن الجميع، ولم يستطع مضي السنين أن يخفف مفعول الأسى.
يتجول الراوي بصحبة الأحداث والأشخاص، مفرغاً ذاكرته تدريجياً من محتواها، لتصوير الأمكنة المتداعية، والأرض التي تتخلخل تحت قدمي صالح، الباحث عبثاً في روتين الحياة عن الاستقرار والطمأنينة، يقول صالح بمخيال كله أسى: “حالة من الصمت والانعزال تتشكل من حولي، تنفذ إلى داخلي. أميل إلى التوحد، لم أعد قادراً على تجاوز ذاتي، أفكر كثيراً وأتحرك قليلاً”.[4] لقد بات انسياق البطل وراء أخيه الأكبر شبحاً يطارده، أو عقدة ذنب لم يتمكن من النجاة منها، حتى إنه لم يتزوج ولم ينجب ولم يستقر في الكويت؛ وهو الذي ما انفك يجلد ذاته، ويعاقب نفسه، عبر “المنفى الاختياري” نتيجة شعوره الغامر بالذنب.
إن بين قراءة الرواية، والنتيجة التي نخلص إليها، سؤالاً محيراً: لماذا وقفت الأم بهذه الشراسة ضد صغيرها العاجز أمام أخيه الأكبر؟ سنحاول أن نستقصي تفسيراً فنعثر على الرأي التالي: إن الهجمة الشرسة للأم على صالح لا تثير الدهشة، وتبدو مفهومة، وغير محيرة، ولا تحتاج إلى تبرير موضوعي، فالقيم والأفكار الرجعية التي انطوى صالح وأخوه عليها، قد لا تتصادم إلا في حدود ثانوية مع منظور ذلك العصر المحافظ والتقليدي – خمسينيات القرن الماضي – وإذ يمكن قول الكثير عن محنة الأسرة – ولكني أعتقد أن هذا المقام لا يتسع لحديث مستفيض كهذا – لكن ألا يشير العنوان إلى بعض ما يريد الشطي قوله؟ والعنوان هو “صمت يتمدد”، ومن المفهوم أن المحنة عندما تتمدد، ولا تكفي الخبرات الفردية لحلها، ويشعر الفرد إزاءها بالحيرة، فإنها تتضمن وبصورة أوفى الدال الاجتماعي العام.
لا أدري إن كان صمت صالح، وهو يقول: “عن ماذا أبحث، عن شيء مثلي، عمن يطابقني؟ هل بينهم من يطابقني من الداخل؟ لا يساويني إلا نفسي؛ وهي نفس حيادية توقفت عن النطق”.[5] يندرج تحت الرعب من فجور الواقع! أعرف أن هذه الرواية قاتمة، وأثارت لدي ردود فعل تغلب عليها الكآبة، ولكن سأسأل بصراحة: أليس الواقع الاجتماعي الفعلي العربي (سواءً زمن الرواية في الخمسينيات أو الزمن الحالي) أشد قتامة؟ لقد بلغت أحوال المجتمعات العربية حدوداً تخطت كل موهبة تخييليه!
يندرج طريق “المنفى الاختياري” تحت ألفاظ التخلي والاستسلام عن مواجهة هذا الواقع الاجتماعي؛ فثمة عجز وتخلٍّ واستسلام. لقد خُدع صالح، ذلك هو شُعوره، ولأنه لم يتهيأ – بحكم سنه – لمواجهة هذا الوضع، فإن جهده يتركز على الفرار منه. إنها رواية قاتمة، ولذا فإنها حالة من الاستسلام لا الاحتجاج.
إن قراءة متعددة المفاهيم، ينبثق منها أن الخضوع لمشيئة الرحيل الاختياري، قد يعني أنه السبيل الوحيد ليحقق البطل التوازن الفردي الذي يروم؛ بعد أن باتت حياة صالح مستحيلة، وتعذر البقاء في أرض يطارده فيها ضمير والدته، وطمأنينته المُبددة، وتماسكه الداخلي المهزوز. إنه أمر شبيه بالقتل الذي مارسه مع شقيقته، بل إن عذابه الأزلي أسوأ أحياناً منه بكثير. ومن باب أن النص بمنزلة بصلة لا ينتهي تقشيرها، فإن الانفتاح الدلالي على رحيل الابن إلى الأبد، يومئ بوصفه معادلاً موضوعياً يحيل إلى واقع مأزوم، فر البطل تمرداً على تقاليده البالية والسلبية. يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور Paul Ricœur (1913 – 2005) في هذا السياق: “أن نقرأ يعني – بافتراض أكثر عمومية – أن ننتج خطاباً جديداً”.[6]
ولا تكتمل هذه الرواية من دون التعرض إلى خاتمتها، إذ يبدو الاستنتاج منطقياً منذ الوهلة الأولى، في أن يختم الشطي متن روايته بقصدية إشكالية مميزة، تعبر عن مفاهيم وقيم مجتمع إقطاعي – شغله النمو العقاري والمال المستدام – أمام مجتمع برجوازي مستنير؛ يسرد صالح بإيقاع مثقل بالشيفرات خاتمة صاغها الشطي، وسعى إلى تشكيل إيهام الواقع من أحداثها، مُرتّباً صورةً إشكاليةً لعيسى المُخيف، وهو مازال متحكماً في المشهد والفعل الاجتماعي، أمام صالح المحكوم بوضعية اجتماعية سيزيفية: “بعد سنوات.. في إحدى زياراتي القليلة إلى الكويت، وعندما كان عيسى يريني متفاخراً آخر عماراته التي بناها حديثاً لتنضم إلى سلسلة العمارات التي بناها وتحمل اسمه، كنت ألمح، في آخر الشارع، منارة المسجد الذي شيدته أمي باسم مريم وأنفقت فيه كل فلوس التثمين”.[7]
يبدو قصد الشطي في هذه المشهدية واضحاً من دون لبس؛ يدفعني إلى ذلك مساران جوهريان سأتوقف عندهما للمساعدة على التوضيح والتعميق، لحدث رمز تتناهى بدءاً منه الأفكار والمعالجات المعبرة عن البيئة الاجتماعية: المسار الأول رجل المال، الأخ الأكبر، الانتهازي من طراز رفيع، المتكيف البارع مع أي وضع، الباحث في كل زاوية عن مكسب ما، من لا يُرجى إصلاحه، إنه الأقوى بيننا، وإن بدا ضعيف التفكير، بل إنه الأقدر على المحافظة على المسافة الطبقية الوهمية التي ترفعه فوق الآخرين، وتساعده على التملص مما يمكن أن يفرضه عليه المُجتمع. ثمة تملص ذو طبيعة ديالكتيكية من هذا المنظور، عبر معانقة الواقع والاتفاق معه، وبمثل هذا الاتفاق مع الواقع يصبح الأخ الأكبر، المُتملص الدنيء، النموذج الأقوى في جميع الأزمان والمراحل والعصور. إنه نسخة من فكرة الفيلسوف اليوناني هرقليطس (535 – 475 ق. م) عن الماء المتغير دائماً في مجرى النهر. وبعد هذه الإيضاحات، نعود إلى المسار الثاني، وهو مسار الأم الطيبة المُحسنة، والمرأة المُرهفة، التي لا تستطيع أن تتحول إلى إنسانة إسمنتية القلب، حازمةً باردة العقل، حكيمة في إدارة “فلوس التثمين” كولدها، فهي تنتظم وابنتها في سياق ديني، بحثاً عن نجاة في السماء، فكلتاهما مقموعة، وتجد نفسها في ورطة اجتماعية، زُجّت إليها، ولم تساهم في صنعها.
إن الأنظمة الاجتماعية التي توخى الشطي تحليلها من دون ميل رومانسي، هي بالذات جَدّ – أو سلف – نموذج المجتمع الجديد، الذي من حقنا أن نعرف تاريخه الاجتماعي، كبشر يخطئ ويصيب، بعيداً عن المقدس واللاهوتي في رصد معالم التاريخ. أليس كل تيار يهيمن (يمين – يسار – ليبرال.. الخ) هو بدء التاريخ، فيقتطع ما يلائم أيديولوجيته من مواقف، وكل ما عدا ذلك ينبغي أن يمحى من الذاكرة، ويغيبه النسيان. وفي هذه الإزاحة العصبية لمسألة المنسيين والمنفى الاختياري، أنظر إلى “صمت يتمدد” كإحياء لحقبة مطمورة من تاريخنا الاجتماعي، بتجرد علمي، من دون أن يفقد العمل الروائي شحنته التخييلية.
المراجــــــع:
[1] سليمان الشطي، صمت يتمدد (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009).[2] إن صالح المتراحل نحو منفاه الاختياري، والمضطر للانسحاب مهاجراً من نشاطات الحياة، إلى رحابة الخارج، بعد أن تعمقت أزماته، واكتشف أن لا غنى له عن الإعراض عن الحياة، تمتد أحداثه امتداداً يتجاوز الجيل الواحد؛ إذ يمكن بطريقة أكثر مباشرة وتركيزاً أن نقول في هذا الصدد: إن استعارة الشطي تنصب على تصوير الهجرة المعاكسة للكويتيين الذين لم يستطيعوا التأقلم مع المجتمع، وكانت لهذا النوع من الهجرات بذرتان في التاريخ الكويتي القديم والحديث، أولاهما ما يذكر عن هجرة هلال فجحان المطيري (1855 – 1938)، أغنى أغنياء عصر الغوص على اللؤلؤ، والذي كان من أوائل المهاجرين احتجاجاً على موقف سياسي معين، وكان ذلك في عهد الشيخ مبارك الكبير عام 1911، الذي اتخذ قراراً بمنع الكويتيين من دخول البحر للغوص -على إثر “موقعة هدية”- فقرر التوجه نحو البحرين مع إبراهيم المضف وشملان بن علي، للعيش هناك، فبقي هو في البحرين وتوجه الآخران إلى “جنة” في الإحساء. ثم جاءت مرحلة خالد السعدون الذي خرج من الكويت في العام 1939 ليختار البحرين، ويقضي فيها نحو 60 عاماً من حياته، فضلاً عن هجرة عبد الله حمد الصقر، عضو الكتلة الوطنية في الثلاثينيات وعضو مجلسي 1938 و1939، الذي تنقل بين البصرة ومصر ولندن، وكذلك يوسف أحمد الغانم الذي ذهب إلى لندن. وعرفت الكويت أيضاً، هجرة اقتصادية من التجار الذين استوطنوا واستقروا في بومبي، ومنهم من دفن فيها ولم يرجع إلى وطنه مثل سالم السديراوي ومحمد صالح الحميضي. ولعل الشطي، المشبعة شخصياته بعصره، قد اقترب كثيراً – عبر هجرة شخصية الكويتي الدبلوماسي صالح – من ظاهرة برزت كويتياً في عقود قريبة مضت، وهي ظاهرة هجرة العقول من الوطن الأم إلى بلد آخر – على الرغم من بحبوحة العيش – على إثر شعور خاص بالغربة/الوحشة، كما حصل مع د. أحمد البغدادي، أستاذ الفكر الإسلامي في جامعة الكويت، الذي قصد البحرين، لكنه عاد بعدما اكتشف أن ما وجده لا يلبي الطموح، وكذلك د. خلدون النقيب، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، عندما صودر في الثمانينيات كتابه: المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، وربما يضاف إليهم الكاتب الصحافي عبداللطيف الدعيج، المعروف بصاحب الهجرتين، أولاهما في العام 1976 والثانية في العام 1996.
[3] سليمان الشطي، المرجع السابق، ص. 230.
[4] سليمان الشطي، المرجع السابق، ص. 114.
[5] سليمان الشطي، المرجع السابق، ص. 107.
[6] النص والتأويل، بول ريكور، ترجمة منصف عبد الحق، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد الثالث (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1988)، ص. 47.
[7] سليمان الشطي، المرجع السابق، ص. 140.
ـــــــــــــــــــــــــ
★ ناقد وعميد المعهد العالي للفنون المسرحية الأسبق ــ الكويــت