د. علي العنزي يحاضر حول “نظرية للشعر العربي الحديث” لأيمن بكر .
خاص لمجلة نقد x نقد
بمناسبة نيل أستاذ النقد الأدبي بجامعة الخليج للعلوم على مسرح جامعة الخليج بالكويت ، حاضر يوم الإثنين 13 مايو الجاري أستاذ النقد بالمعهد العالي للفنون المسرحية، د. علي العنزي، أمام جمع من أعضاء هيئة التدريس، والشعراء والنقاد، متحدثاً عن كتاب( الطقوسية، السردية، المبالغة): نحو نظرية للشعر العربي الحديث” ، وهو الكاتب الذي فاز عنه د. أيمن بكر أستاذ النقد الأدبي بجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا في الكويت بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي لعام 2021 .
توقف إجباري
استهل د. أيمن الندوة بكلمة عنوانها ” حين توقفت الأرض عن الدوران”، قال فيها: وكأن الكرة الأرضية قد توقفت فجأة عن الدوران، وتم إطفاء مصابيحها واحدا تلو الآخر في مشهد مسرحي مهيب، هكذا بدا الأمر مع انتشار وباء الكورونا في 2020، وقراري استكمال مشروع كتابة، كتابي “الطقوسية، السردية، المبالغة: نحو نظرية للشعر العربي الحديث”.
مضيفاً: شعرت بعد التوقف الإجباري لكل مظاهر الحياة أن آلة ضخمة كانت تهدر حولنا، حتى أننا من شدة صخبها لم نعد نشعر بها، واكتفينا بالدوران في تروس ماكينتها الضخمة؛ كان التوقف مع ذلك فرصة لبعض المتأملين وأصحاب المشاريع الفكرية والفنية لكي يلتقطوا أنفاسهم، ويستعيدوا بعضاً من مشاريعهم المستقرة في قاع ذاكرتهم، وهذا تحديداً ما حدث معي، إذ بدأت البحث في مؤجلاتي، وجاء على السطح بحث الشعر العربي الحديث، الذي ظللت أفكر فيه وأجمع مادته لأكثر من 10 سنوات، قبل أن أبدأ في تنفيذه. أخبرني صديق بمسابقة الشارقة لنقد الشعر العربي في دورتها الأولى، فكانت خير حافز للعمل على هذا المشروع، والنتيجة هذا المُنجز الذي فاز بأحد الجوائز.
هوامش طه حسين.
ومضى د. أيمن يقول: بعدها تمكنت من تجهيز أطروحة ترددت فيها كثيراً عن عميد الأدب العربي طه حسين، وكان التردد لسبب بسيط، ثم جاء المضي في المشروع بسبب فكرة أردت اختبارها؛ ترددت في الكتابة عن حسين لكثرة ما كُتب عنه، ولأنني لن أقبل بإعادة ما قيل، وبدأت المشروع حين طاف هاتف على ذهني أردت التحقق منه، وهو أن أحدا لم يتعرض لهوامش طه حسين بالتحليل، وأقصد بهوامش مقدمات كتبه وخواتيمها، ومقالاته النقدية القصيرة، وآراءه في معاصريه، وإهداءات كتبه، وما كتب بالفرنسية. من هنا جاء كتاب “هوامش العميد: ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين” الذي صدر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2023. وذكر د. أيمن: “أخيراً كان للمشاريع الإبداعية نصيب في فترة التوقف الإجباري للكرة الأرضية، فقد أكملت ديوان الرباعيات بالعامية المصرية، وانتهيت بعد ذلك من رواية “تاريخ سري للعنقاء” التي صدرت أخيراً من دار دون بالقاهرة 2024؛ ومن زاوية ثانية أصدرت كتاباً في تيسير التراث حول مقامات الهمذاني، وفصلاً في كتاب باللغة الإنجليزية، صدر عن جامعة توبنجن بألمانيا، كما أعيد طباعة كتاب ،(قالت أميمة) عن دار “ذات السلاسل” بالكويت، وكتاب( أصداء الشاعر القديم) عن دار “بيت الحكمة” بالقاهرة وهي الدار الفائزة بأفضل ناشر ضمن جائزة زايد 2024″.
حتى لا يكون الحديث مونولوجيا!
بدأ د. العنزي حديثه مهنئاً د. أيمن بالجائزة، سائلاً الحضور ما إن كانوا قد قرأوا كتابه ، ولما كان قلة قليلة قد اطلعوا على المخطوطة، أوضح العنزي أنه مضطر لتسليط الضوء على أهم ما جاء فيه، حتى لا يكون الحوار مع الصالة منولوجياً. وقال العنزي، إن المنجز بشأن الكتاب يتناول 3 مباحث وهي الطقوسية والسردية والمبالغة، والفكرة العامة للمباحث السابقة هي: “نحو نظرية للشعر العربي الحديث”، مبيناً أن نيل جائزة هذا مجالها يعني أن د. أيمن ساعد عبر كتابه، في تأسيس المشهد النقدي الخاص بالشعر العربي، وهو ما لخصه د. أيمن نفسه – بحسب العنزي – في مقدمته: بـ “محاولة التحرر من أسر التأويلية – لمصلحة الشعرية – بوصف التأويلية هيمنت على معظم نتاجات النقد الحديث”، مبيناً العنزي أنه لأن الشعريات poetics جاءت نتيجة لتطور المجال الذي يستمد اسمه من الشعر، أشار د. أيمن في مقدمته إلى أن الشعريات تمثل أحد أهم أساس هذا البحث.
الكلمات تفوق كاتبها ذكاء!
أشار العنزي إلى أن كتاب د أيمن تضمن على مستوى المقدمة وصف د. أيمن “الأدب” بأنه محاط بـ “هالة ضوء تشبه تلك التي ترسم حول صور المسيح”؛ معتبراً أنها الهالة التي تتصل بفكرة الحقيقة، مستشهداً – د. أيمن – بقول الناقد الأمريكي جوناثان كللر Jonathan D. Culler ، لإبانة مدى هيمنة التأويلية (أو لنقل علم التأويل أو علم التخريج أو علم التفسيرية): قد تبدو المقارنة بين الشعريات (أي كل ما يكتب بشكل شعري) والتأويلية، مقارنةً، تضليليةً، لأننا لا نستطيع معرفة المعنى في الأدب بمثل ما نعرف المقصود من جملة مباشرة مثل” جون يتوق إلى السعادة” أو “على يُدَرِسُ في قسم النقد”…وهلم جار. مضيفاً العنزي: “بمعنى آخر، المعنى في الأدبِ لا يمنحُ نفسهُ، بل يجبُ البحثُ عنُه، ولذلك تهيمن التأويلية أو التفسيرية – على نحو كبير – على “الدراسات الأدبية الحديثة”، وهو السبب الأول لتفضيل “الدراسات الأدبية الحديثة” لـ “التأويلية” على “الشعريات”، حيث يقول د. أيمن – من وجهة نظره – أن الناس بصورة عامة، تدرس الأعمال الأدبية، ليس لأنَهم مُهتمونَ بوظيفة الأدب، ولكن لأنهم يظنون أن هذه الأعمال تمِلك أشياء مهمة تود أن تخبرهم بها… وهم – أي الناس – يودون معرفة هذه الأشياء، وذلك على نمط قول إيكو: الكلمات تفوق كاتبَهَا ذكاءً!
ظواهر طقوسية !
تحدث العنزي أيضاً عن تمهيد الكتاب – الذي يلي المقدمة – والذي أسماه د. أيمن النظرية، حيث كتب د. أيمن إن الشعريات تجاوزت الشعر لتشمل تقنيات الكتابة المميِّزة، سواء وجدت في نص شعري أو في نص مسرحي أو روائي..الخ، قائلاً أيضاً: أصبحت الشعريات أقرب لأن تكون نظرية للأدب، أو للكتابة ككل. وذكر العنزي، أن د. أيمن تحدث عن مناحي تعامل العرب مع الشعر الغنائي، على مستوى النظرية، وقال الآتي: مسارُ ما حدثَ في الثقافة العربية هو هابط من قمةٍ ثقافيةٍ/حضاريةٍ/ نقديةٍ، إلى ارتباكٍ على المستوياتَ السابقةَ كافةً، ما أدى لغيابِ إسهامٍ عربيٍ في هذا المجال. وقال أيضاً: أودُ طرح “مجالٍ لـ النظرية الأدبية” سعياً للوصول إلى أفكار متماسكة تشكل نظريةً متكاملةً عن الشعر العربي الحديثِ.، معترفاً د. أيمن: إن هذا الأمر يحتاج إلى أمرين: بداية، جهود متواصلة من الاقتراح والتنقيح وإعادة النظر، ومن ثم، اختبار تطبيقي للأفكار التي تشكل ذلك الجسد الفكري. منتقلاً العنزي للحديث عن الفصل الأول والذي يطرق د. أيمن عبره باب الطقوسية، مناقشاً الملمح الطقوس ritualistic feature والذي يتصل بجماليات الشعر العربي في طوريه الشفهي والكتابي، محاولاً د. أيمن استكشاف أثر هذه الطقوسية الموروثة والداخلة في جينات الشاعر العربي على تشكيل جماليات التيارات المجدّدة، حيث يرى د. أيمن، أن طقوسية الشعر تتجلى في عناصر متنوعة؛ بدءا من: الشكل (صوتياً كان أو طباعياً)، والإيقاع بكل مكوناته من وزن وقافية وتكرار، وطرائق الأداء والتوصيل، مبيناً – د. أيمن – أساس تلك الطقوسية، بما لاحظه الناقد والقاص والأستاذ شكري عياد (1921 – 1999)، في “نموذج القصيدة العربية التقليدية”، والتي تكونُ محكومةً بقاعدتين: ما يتصل بحركة القصيدة (الابتداء بوصف الأطلال ويستتبع مشاهد صحراوية من الصيد والناقة وحيوان البر)، وما يتصل بالنظم، وأبرزها التزام قافية واحدة في جميع أبيات القصيدة.، حيث يؤكد عياد – بحكم التكرار والانتظام في السياقات نفسها – أنها ظواهر طقوسية في جوهرها.
سقطت في كمين!
يضيف العنزي: ثم يرصد د. أيمن بعض عناصر التوسع في أفق الطقسية، مشيراً إلى نص صلاح عبد الصبور في قصيدة “تأملات ليلية” حين يقول:
أحس أني خائفٌ
وأن شيئا في ضلوعي يرتجفُ…
وأنني أوشكَ أن أبكيَ
وأنني سقطت في كمينٍ
ويحيل د. العنزي إلى رصد د. أيمن بعض عناصر التوسع في أفق الطقسية، مستشهداً بـ التشكيل الهرمي للمقطع السادس من نص عبدالصبور نفسه:
لا شيءً يعينُكَ.. لا شيءً يعينُكَ
لا شيءً يعينُكَ.. لا شيءً يعينُ
لا شيءً يعينُكَ.. لا شيءً
لا شيءً يعينُكَ..
لا شيءً
لا
ثم ينتقل د. العنزي للتناول ما ذكره د. أيمن في فصله الثاني عن السردية، حيث يستشهد د. أيمن بالقول التالي للشاعرة الأمريكية ناتاشا ساج Natasha Sajé (1955 – ): “يمكن أن تظهر بنية سردية في أي نوع أدبي بما في ذلك الشعر” ، ويعقب د. أيمن على ذلك بالقول: بل إن حضور البنى السردية يمكن التعرف عليه كذلك، عبر مختلف أشكال التعبير الصوتي والبصري غير الأدبية، مفترضاً أن السمة السردية أصبحت ملمحاً مُعَرِفاً للشعرية العربية الحديثة منذ قصيدة التفعيلة حتى الآن، لكنها مع ذلك تفتقِر إلى أمرين اثنين: الافتقار إلى التنظير الدقيق الذي يسمح باستكشاف طبيعة حضورها في النص الشعري، والافتقار إلى التنظير الدقيق الذي يسمح باستكشاف مدى تفاعلها مع طقوسية الشعر أو طريقته في التصوير المجازي، مستنتجاً د. أيمن مما سبق مسألتين: أن السمة السردية قد تمددت في نصوص بعض الشعراء المجددين، وخصوصاً في شعرهم الغنائي، وذلك منذ أجيال الرواد، وأن السمة السردية تمددت بصورة مربكة تدعو للتساؤل أحيانا عن أيهما يستخدم الآخر: هل يستخدم النص الشعري، السرد كمكون رئيس يدعم شعريته، أم تمكن السرد – داخل النصوص الشعرية – تمكن من استخدام شكل القصيدة وتقاليدها النوعية، ليتجلى مهيمناً على القصيدة، هيمنة تدعو لإعادة النظر في انتسابها للشعر؟
الشعر الغنائي
يعرج د. العنزي، إلى قول د. أيمن بشأن علاقة الشعر الغنائي بالسرد، أن هناك توتر بين الخطابين في حضورهما النصي الذي ربما يتخذ شكل صراع سيطرة مُبَرَّر بين نوعين يبدوان كطرفي نقيض، مستشهداً د. أيمن مجدداَ بـقول كللر: الشعر الغنائي ليس خطاباً سردياً لكنه خطاب استكشافي للعالم؛ حيث يضم الشعر الغنائي عناصر سردية ــ تمثيل شخصيات وأحداث ــ لذلك فإن الطرق المختلفة التي يتم عبرها تنظيم تلك العناصر، والسيطرة عليها، يجب أن تلقى اهتماما كبيرا في أية دراسة للشعر الغنائي؛ ولما كان ما سبق، يرى د. أيمن أنه: يجب على الشعر الغنائي، أن يكون مسيطرا على حضور العناصر السردية، من شخصيات وأحداث وفضاء وحبكة وغيرها، بما لا يسمح لتلك العناصر بالتمدد والهيمنة على أجواء النص، ضارباً د. أيمن مثالاً بالقصيدة التالية لصلاح عبدالصبور كنموذج لمشهد يصعب أن تخطئ العين غلبة السردي فيه:
بالأمس زرتُ قريتي، قد مات عمي مصطفى
ووسَّدوه في التراب
لم يبتنِ القلاع (كان كوخَهُ من اللبنِ)
وسارَ خلفَ نعشهِ القديمِ
من يملكونَ مثلهُ جلبابَ كِتَّانٍ قديمٍ
لم يذكروا الإلهُ أو عزرائيل أو حروفِ (كان)
فالعامُ عامُ جوعٍ
تقتله صورة!
يقول د. العنزي، ويشير د. أيمن في الفصل هذا إلى تنوع الأمثلة الدالة على الاستخدام الأقصى لطاقات السرد ضمن المونولوج الدرامي الشعري، واقفاً عند نص للشاعر والناقد السعودي محمد حبيبي (1968 – ) بعنوان “الصورة”:
لمْ تضغطْ زرَ الكاميرا
لحظةَ صوبتْ الزومْ عليهمْ يبتسمونَ بكلِ براءةٍ
كانوا خمسةَ مخلوقاتٍ لا أبهجَ …
والغرفةُ كانت تتسع لكل العالمِ
(بابلو نيرودا، غيفارا، غاندي …)
خمدت ثورات
سقطت دول
وانهدمت غرفة
مات اثنان
وهاجر اثنان
وبقيت أنا
أنا من صوب نحو المخلوقات الخمسة نار مسدس تلك اللحظة
أنا من ضغط زنَاد الذكرى
فتح الدرج
ونظر إليها الآن
لكي تقتله صورةْ …
ويمضي د. العنزي قائلاً : يقول د. أيمن بشأن النصين السابقين، أننا لا نغالي إذا قلنا إن السمة السردية تَستخدم النص الشعري ها هنا. متسائلاً في ختام الجزء المعنون بـ السردية، سؤالاً حاذقاً: هل يمكن أن تكون السردية الطاغية في بعض نصوص الشعر العربي، عبر تاريخه الممتد منذ ما قبل الإسلام، تعبيرا عن طموح خفي باتجاه الملحمة التي لم تتوفر لها ظروف التشكل في الثقافات العربية؟ وأيا كانت الإجابات المحتملة فهي تحتاج إلى بحث مستقل.
انهيار الحلم!
وعندما جاء دور الفصل الثالث والأخير وعنوانه المبالغة، قال العنزي أنه سيتوقف عند هذا المحور متأملاً، مشيراً إلى أن د. أيمن، كتب عن وجود حالة يعاني منها الشعراء وهي الانعزالية التي اتسعت منذ جيل السبعينيات من القرن العشرين، مضيفاً أن تنظيرات كثيرة تشير إلى مسؤولية الواقع الثقافي المهزوم عن هذه الحالة، التي استمرت وشكلت ما يشبه المعيارية الشعرية، مستشهداً – د. أيمن – بإشارة للناقد د. سيد عبد الله السيسي (صاحب كتاب ما بعد قصيدة النثر ؛ نحو خطاب جديد للشعرية العربية): تشكل وعي جيل السبعينيات مع تحولات النكسة، ثم كامب ديفيد، فكانت الانكسارة الأولى للذات، وحلم القومية العربية، ثم جاء التحول الثاني مع جيل التسعينيات الذي تشكل وعيه مع الغزو العراقي، وما تلاها من انهيار شبه تام لكل ما تبقى من ذلك الحلم”.
واستطرد د. العنزي يقول: ومن وحي ما قاله د. سيد عبد الله يقول د. أيمن: على العكس من جيل الرواد والجيل الذي يليه، شهدت سبعينيات القرن العشرين نفورا حادا من الانخراط في قضايا الواقع من قبل الشعراء تحديدا، مرجعاً د. أيمن ذلك إلى وضعين عربيين: “انتهت أحلام القومية العربية بهزيمة 1967، ما أدى لإعلان عن عودة القوميات الضيقة، التي تُعلي من شأن المصالح الوطنية لبلد معين على ما عداها من مشاريع مشتركة ضمن الإطار العربي أو الإقليمي، وتلا ذلك تحول الاقتصادات العربية من سمت اشتراكي باهت، إلى رأسمالية قاسية، ما صنع زلزالا في منظومات القيم الاجتماعية، ونتيجة لما سبق، حيث بدأت في السبعينيات فترة الإعلانات الانعزالية في الثقافات العربية”، مؤكداً د. أيمن: “على العكس من جيل الرواد والجيل الذي يليه، شهدت سبعينيات القرن العشرين نفورا حادا من الانخراط في قضايا الواقع من قبل الشعراء تحديدا”، خاتماً د. أيمن: “لم يعد لإنشائيات البارودي وشوقي والجواهري والشابي أي مكان، كما لم تعد لبُكائيات نازك الملائكة أو تمثيلات السياب وصلاح عبد الصبور الإنسانية أهمية تذكر، حتى صرخات أمل دنقل القيامية الحادة لم تجد أفقا يردد صداها”، مسمياً – د. أيمن – ما سبق بـ خطاب الكهنوت الشعري الحديث، وواصفاً هذا الخطاب بأنه يتجلى به رمزياته الكثيفة، ويوصف أصحابه بأصحاب الموقف النصي الانعزالي، حيث الشاعر المسجون ضمن دوائر النخبة، والمحروم إلى حد بعيد من خوض الحياة، ولم يواجه في ثقافته سوى تجارب المنع والتهميش، قائلاً د. أيمن ختاماً: لقد تحول كثير من الشعراء إلى دون كيخوته، لكن الأخطر أن الواقع الثقافي المهزوم يجعل من ميلاد دون كيخوته في عالم الشعر العربي عملية مستمرة، مستحضراً المقولة الشهيرة في محور المبالغة: “أن خيرَ الشعرِ أكذبُهُ” و “أفضلُ الكلامِ ما بولغ فيهِ”.
توقع الشعراء!
يؤكد العنزي: “أنا شخصياً لدي تعليق تجاه ما جاء في محور المبالغة وتحديداً الخطاب الذي تبناه د. سيد عبدالله واستشاره (مرجعياً) د. أيمن في أكثر من مناسبة، فأنا أعتقد أن د. سيد عبدالله – الذي – طرح أفكارهِ بوثوقٍ ” تقريري” لا يؤخذ كلامه من قبل الباحثين باطمئنان لا توهنه وسوسة، لأن القضايا التي يثيرها د. سيد عبد الله جوهرية بالنسبة لنا، وعليها يرتبط بعض مصيرنا، ورغم ذلك نجده يجبرنا على اختيار واحد بشأن سبب تقوقع الشعراء وانعزالهم وهو النكسات العربية، وحرب الاستنزاف، وانهيار حلم القومية العربية بعد الغزو الصدامي للكويت، لذا لا بد من التدخل في سياق هذا المونولوج، ومحاولة تفكيك ترابطه الظاهري، أو لنقل ألا نقبل مونولوجه بالتمام، بشأن عدم انخراط الشعراء في قضايا الواقع، أقله لكي نحوله إلى حوار, سعياً لأهم ما يمس البحث العلمي، وهي: أولاً. تفحص المحتوى، وثانياً.. صحة الأحكام الذي يزدحم به خطاب د. سيد عبدالله.
ومضى العنزي يقول: بعيداً عن أي تصوّر آلي، في كل عمل أدبي هناك أولاً الموضوع، وهناك ثانياً المضمون الذي نفرغ به هذا الموضوع، وهما يشكلان جوهرَ انتماء المؤلف، مشيراً إلى مقولة الكاتب الألماني Ernst Fischer في كتابه The Necessity of Art: “الموضوع والمضمون دائماً مترابطين، بوصفهما لا يعبران عن شيء مختلف فالمضمون ليس مجرد ما يقدمه الفنان، بل أيضاً كيف يقدمه، وفي أي سياق. وبأي درجة من الوعي الاجتماعي والفردي؛ فموضوع مثل “الحصاد” يمكن أن يعالج كأنشودة شجية، أو كلوحة مائية تقليدية، أو كجهد إنساني مرهق، أو كانتصار للإنسان على الطبيعة: فكل شيء يتوقف على وجهة نظر الفنان، وما إذا كان يتحدث باسم الطبقة الرفيعة، ومعتذراً عنها، أو كسائح عاطفي يقضي يوم العطلة، أو كفلاح – متذمر”، أو بروليتاري اشتراكي، مشيراً د. العنزي إلى أن اختيار الموضوع يحدد انتماء الكاتب، فحين قرر توفيق الحكيم، تأليف “رحلة قطار” أو “الحياة على سطح القمر» في غمرة نكسة 1967، فإنه حدّد موقفاً سلبياً من التهور الناصري ولاحقاً التخدير الناصري لفاجعة النكسة، في ظل حكم ذو طابع شمولي لا يخفى على أحد، مضيفاً كما أن شعر نزار قباني عن تحرر المرأة، لا تحريرها، يبين رؤيته البورجوازية تجاه المرأة، لاسيما قيمه كشاعر نسوي، ولهذا، فإنه “عندما يعيدً د. سيد عبدالله خطاب الكهنوت الشعري الحديث إلى النكسات العربية الحديثة فإننا نحتاج إلى أن نقف كثيراً عند كلامه! نقف كثيراً لأنه من دون الوقوف على الجانب النضالي النابع لدى الشاعر من اختيار الموضوع ومحتواه، فإن د. سيد عبد الله يجردنا – كنقاد – من معيار أساسي لتقويم الشعر، والآداب عامة، إنه – أي د. سيد عبد الله – يشتتنا في تبلبل، يتساوى عبر دردوره كاتب عظيم كطه حسين – مثلاً – بثروت أباظة… الذي أسماه يوسف إدريس “الثور الأبيض الهائج”، وقال عنه حسين: “رجل رضي بجهله وجهله رضي به”! أو حتى يتساوى عبرها شاعر متزلف للسلطة مثل أدونيس.. ب شاعر تقدمي مثل بريخت أو حتى مسرحي نبيل مثل سعدالله ونوس!
محاولة!
وقال العنزي، “أنا أعلم أن للشعر خصوصيته، ولكن إصرار د. سيد عبدالله – الذي استشهد به د. أيمن عدة مرات في محور المبالغة – على عدم الربط بين الشعر والتزام الشاعر بقضايا الواقع بسبب تدجينه أو استمالته أو حتى برجوازيته، هو الذي يسوغ لنا مقاطعة مونولوجه، مع تأكيدي بأن هذه المداخلة لا تطول ولا تمس العمل النقدي المميز الذي قدمه الناقد الموقر د. سيد عبد الله، ولا المنجز العميق والأكثر من رائع لـ د. أيمن، وإنما هي محاولة للعصف الذهني، سعياً لعدم أخذ الكتابات التقريرية في البحث العلمي بوثوق تام”.